الخميس ١٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم إبراهيم سعد الدين

هكذا تَحدَّثتْ جين هيبوتِرْن

(جين هيبوترن هي صديقة الرّسّام والنّحّات الإيطالي أميديو موديجلياني (١٨٨٤ ـ ١٩٢٠) الذي عاش ومات في فرنسا فقيراً ومريضاً بذات الصَّدْر لأنّ لوحاته لم تكن تُدرّ عليه عائداً يُذْكرْ، في الوقت الذي حقق معاصروه الأقل منه موهبة ثرواتٍ هائلة من رسومهم. كان ذا نزعةٍ تجديدية أصيلة بقيت محلّ خلاف وخصومات بينه وبين بيكاسّو الذي كان أوّل من صَفَّقَ له حين فازت لوحة أميديو بالجائزة الكُبرى في إحدى المُسابقات التي شارك فيها بيكاسّو وكبار معاصريه من الرسّامين بلوحاتهم. أنجب أميديو وجين فتاة أسمياها «جين» أيضاً. بعد وفاته بيومين انتحرت جين هيبوترن بإلقاء نفسها من الطابق الخامس في البناية التي تقيم فيها. ماتت جين هيبوترن وهي تحمل في بطنها جنيناً من أميديو لم يُقَدّرْ له أن يَرَى النّور)

ثَمَّةَ طِفْلٌ في بَطْني
روحٌ أُخْرَى..
لكنّي فارغَةٌ.. فارغَةٌ
إلاّ من حُزْني
وتَفاهَةِ شَأني..!!
 
في قَلْبي رَيْحانَة
وصَدَى أغْنيةٍ لحبيبٍ
أجْهلُ عُنوانَهْ..!!
 
في صَدْري جُعْبَةُ أسْرارْ
لكنّي لا أمْلكُ تَرَفَ البَوْح
فصديقةُ عُمري..
دَيْدَنُها النِّسْيانُ
وتَغْييرُ شَريحةِ هاتِفِها المَحْمولْ..!!
 
في جَيْبي بَقْشيشٌ للنّادلْ
لكنّي لا أمْلِكُ ثَمنَ المَشْروبْ..!!
 
في رَأسي سَلَّةُ أفْكارٍ طازِجَةٍ
أو ساذجَةٍ.. لا فَرقْ..!!
عن بَشَرٍ أحْياءْ
وأناسٍ سُعَداءْ
عَنْ حَمَلٍ يَرْعَى بجوارِ الذّئْب..!!
 
أحْمِلُ فَوْقَ الكَتِفَيْن
رَأسي وتَفاهاتٍ أخْرَى..!!
 
أحْملُ بين الكَفَّيْن..
رَفْشاً..
وأهمُّ بنَبْشِ القَبْر
لكنّي لا أعْرفُ من أيْن..
أبْتَدئُ الحَفْر..!!
 
أحْفَظُ مُنْذ نعومةِ أظْفاري
أسْفارَ المَلِكِ الضِّليلْ•
أحْملُ فَوْقَ جبيني
وَشْماً لغُرابٍ يَحْفُرُ في الأرْض
لِيواري سَوْأةَ قابيلْ..!!
 
أعْملُ نادِلَةً في مَقْهَى..
أو موديلاًّ لِصعاليكِ الرَّسّامينْ
أتَعَرَّى بالسّاعاتِ
لِقاءَ عَشاءٍ طَيِّبْ
أو كَأسِ نَبيذٍ يُدْفئُ قَلبي المَقْرورْ
في لَيْل الحاناتْ..!!
 
الأبْيَضُ والأسْوَدُ صِنْوانْ
فكلا الكَذِبَيْن دواءٌ نَتَعاطاه
لِبَعْضِ الوَقْت
أخْشَى ما أخْشاهُ
أنْ تَتحوّلَ كِذْبَتيَ الحَمْقاءُ
لإدْمانْ..!!
 
سألوني عَنْكَ ـ حَبيبي ـ قُلْت:
سِكّيرٌ مُدْمِنْ..
وفقيرٌ مُعْدَمْ
سألوني أكْثَرَ.. قُلْتُ:
وزيرُ نساءٍ أيْضاً..
ومريضٌ بالسُّلِّ المُزْمِنْ..!!
لَكنّي مَعَه..
أمْتلِكُ العالَمْ..!!
 
سألوني عَنْكَ حَبيبي..
قالوا إنَّ البَشرَ تَشابَه في أعْيُننا
فَصِفيه لنا.. قُلْت:
هو "أورورا"
الفَجْرُ القُطْبيُّ اللاّمِعْ
هو سَيِّدُ ألوانِ الكَوْنِ بِغَيْرِ مُنازِعْ..!!
 
ما حاجَةُ أيُّ امْرأةٍ لخَزائنِ قارونْ
أو حِكْمةِ سُقْراطْ
وفَتاها..
يَمْنَحُها ما تَحْتاجُ إليْه..؟!
 
أعْرفُ أنّي حَمْقاءٌ
والعالَمَ مَسْكونٌ بالوَحْشَةِ
أعرفُ أيضاً أنّ وجوه النّاسْ
كالخَزَفِ المَصْقولْ
خاليةٌ من كُلّ مَلامحْ
لكنْ..
هَلْ كان ضَروريّاً أن تَخْلع نَعْلَيْك
ـ صَبيحة ذاك اليَوْمِ ـ
وتَمْضي عَنّي في صَمْتٍ..؟!
دون وداعٍ
أو حَتَّى وَعْدٍ بِلِقاءْ..؟!
 
هَلْ تَعْرفُ ماذا يُشْبه أن تحملَ في أحشائكَ
طِفْلاً لَنْ يَخْرُجَ للنّورْ..؟
يُشْبه أعْمَى يَرْسمُ وَجْهاً لامْرأةٍ حَسْناءْ
لا يُبْصِرُها أحَدٌ غَيْره..!!
 
المَثلُ القائلُ "لا تُعْطِ السّكّينَ لطفْلٍ"
يَعْني ألاّ تضَعَ القوَّةَ والمالْ
في أيْدي الأوغادْ..!!
 
بيكاسّو..
هل يَعْصِمُ شَبَعٌ مِنْ جوعْ..؟!
عاشِرْ كُلَّ نِساءِ الأرْضِ
تَلَذَّذْ بمذاقِ نَبيذِك هذا الفاخِرْ
وتَجاوَزْ حَدَّ الشَّبَعِ إلى التُّخْمة
لَنْ تُدْرك يَوْماً سِرَّ النَّشْوَة
لَنْ تَبْلُغَ ماءَ اليُنْبوعْ..!!
 
بيكاسّو..
شَيْخَ البُلَداءْ..
هَلْ تَعْرفُ مَعْنى أن يَرْحَلَ فَنّانٌ
في رَيْعانِ شَبابِه..؟!
يَعْني أنَّ العالَمَ ـ عالَمَكمْ ـ
ما عادَ مكاناً للسُّكْنَى
فالمَوْت..
لا يُدْرِكُ إلاّ الأحْياءْ..!!
 
بيكاسّو..
ذَكَرَ البَطِّ المَمْلوءَ بِدُهْنٍ وغَثاثاتٍ أخْرَى..
سيطولُ بكَ العُمْرُ كثيراً
حَتَّى يُصْبِحَ يَوْماً مَكْروراً وثَقيلا
لِكنْ.. هَلْ تَعْلَمْ..؟!
حين تُوافيكَ مَنِيَّتُكَ أخيراً
سَيَظَلُّ اسْمُ أميدْيو موديجيلياني..
آخرَ ما يَتَرَدّدُ فَوْقَ شِفاهِكْ..!!
 
يُنْبئني الورَقُ السّاقِطُ في أيْلولْ
والمَطَرُ الخافقُ فوق زُجاجِ النّافذة شِتاءً
أنّي أحْتاجُ لمِدْفأةٍ ودِثارٍ صوفيٍّ وحِساءٍ ساخنْ
أحْتاجُ لرأسٍ خاوٍ إلاّ من طَيْفِ حَبيبٍ
فَوْقَ وِسادٍ مُبْتَلٍّ بدموعْ..!!
 
أعرفُ أنَّ سقوطَ امْرأةٍ حُبْلى
من نافِذَةٍ مُرْتَفعة
فوق الإسْفَلْت البارِدِ
شَيْءٌ مُؤْلِمْ
لكنّ صِياحَ الدَّركيّ الفَظِّ غليظِ الصَّوتْ
ومُواءَ القِطَّةِ بَحْثاً عَنْ ذَكَرٍ شارِدْ
لَنْ يَطْرُدَ عَنّي شَبَحَ المَوْت..!!
 
ـ يا هذا القادِم من بَعْدي
هَلْ تُتْقِنُ مِثْلي فَنَّ الرّسْمِ أو النَّحْتِ أو العَزْفِ على النّايْ..؟!
ـ لا..
يُشْجيني صَوْتُ الأرْغولِ
ويُلْهمني تَرْتيلُ الشّيْخ مُحَمَّدْ صِدّيق المِنْشاوي
وَقْعَ خُطايْ
نَحْو المَجْهولْ..؟!
 
يا هذا القادم من بَعْدي
لا تَبْكِ لأجْلي..
لا تَبْكِ لأجْلي بَعْد اليَوْم
وإذا غلَبَتْكَ دموعُكَ يَوْماً
فَتَذَكَّرْ..
أنَّكَ ـ بَعْد ـ
لَمْ تَكْتُبْ مَرْثيتي..!!

• الإشارة هنا إلى امْرئ القَيْس.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى