الاثنين ٢٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم ندى مهري

هل أحببتم غزة؟

الفرق بيني وبين غزة هو أنني هنا في هذا المكان أشرب قهوتي "الايطالية" وأكتب عنها وحسبي ان هذا لترف مهما بلغ حجم صدقي في المشاعر ونزيفي لما يحدث وهي هناك محاصرة تتناول جرعة المرارة لحظيا بصبر لامثيل له وبقدرة تكيف عجيبة لا توصف.

مني أبدأ المكاشفة وكم أنا مواطنة عربية صغيرة أمام ضخامة أوجاعها وصمتنا... لم أصدق حينما قالت لي صديقة في "رفح" مؤخرا بصوت أوشك على الابتسام وبأنها أخيرا تمكنت من تعبئة نصف قارورة الغاز ما يكفي لعشرة أيام طبخ بعد سلسلة طويلة من أكل" النواشف" هي وأولادها.

لم استوعب كلام كاتبة فلسطينية عندما تقول لي حين تودعني نلتقي قريبا اذا لم تنقطع الكهرباء واذا لم يصب الانترنت بنوبات شلله المعهودة، فتتحول حياتي الى سيل منهمر من الانتظار والترقب، وكيف لا وهي كاتبة من غزة لاتملك الا هذا العالم الافتراضي الذي يقيها شر الهزائم اليومية، كاتبة تشبه غزة في صمودها وتكتب دون توقف ودون استسلام، فأي مشهد ثقافي تعيشينه ياغزة تحت الحصار.؟

واذا تأخرت في الظهور أسأل عنها حتى أطمئن عليها وأطمئن أيضا عن حال الكهرباء والغاز وأسأل عن كل شىء محاصر في غزة الأحياء والأموات والجماد أيضا.

أحببت غزة أكثر من أي وقت مضى، أحببتها وأنا أتألم لأجلها ولحصارها "وانحسارها"، أحببتها دون حماس، ودون فتح، ودون أنظمتنا العربية ودون أمريكا، وازددت كراهية لعدو أوحد متعدد الأوجه.

أحببتها لأجل كل الأبرياء المحاصرين في محارة روحها، ولأجلها قرأت أكثر واقعها وأوضاعها في ظل الحصار المزمن، وقتلتني أخبارها.

لست أدري لماذا أتورط في حالة حب مع وطن جريح أو مهجر أو مظلوم، قلبي دائم الانحياز للوجع ولعقد صفقات عشق مع الفجائع العربية ، ربما لدي ايمان العجائز أن الحب يملك معجزة الشفاء ويداوى الأسقام ولأننا كشعوب نعاني أزمات عاطفية متبادلة ازاء بعضنا البعض وازاء أحبتنا وأوطاننا وأنظمتنا ، فتظهر جليا هذه الأزمات في مواقفنا اتجاه من نحب بأن نتخلى عن الحبيب فجأة دون سابق انذار أو نفخخ إرادته بأحلام وهمية قابلة للانفجار أو نظل نسانده عن زيف مميت.

وذلك لأننا شعوب لاتتقن الحب، ففي الحب لا نحتاج الى من يقودنا، وحده الحب قائد وحده الى الحق والحق قائد ، وكذا الحق في العيش الكريم ، والحق في الحرية واحترام الآخر بتفاصيله دون تصنيفات جاهزة سلفا ، الحق في الحوار...

غزة اقتربت منها مؤخرا وتابعت أحداثها، فوجدتها تحيا خارج الزمن زمن صنعته المحن، فأصبحت لديها عاداتها اليومية ، ولغتها ، ومزاجها ومواصلاتها وموتاها حتى شمسها محاصرة وطيورها وأشجارها وشوارعها وجداولها، وأتساءل أمام كل مايحدث من وأد يومي لغزة هل لديها القدرة على الحب والعطاء.؟

لو كنت مكانها لفقدت الرغبة في الحب أو حتى في الحياة ، ولكنها علمتني مؤخرا أيضا أن الحب يولد كلما اغتالها الحصار وتزداد نضارة وتأهبا لهيبته ولقائه.

غزة تكتب وتفكر وتدعونا الى زيارة واقعها القاتم والمظلم والمجهول ونحن اصبحنا نعقد جلسات لبرمجة عقولنا على التفكير ونعقد مؤتمرات لمحاولة محاربة داء الصمت، ولكننا نفشل في أغلب الوقت وبين كل قرار وآخر وقمة وأخرى تتساقط الجثث...

غزة عادة ما أراها أرملة في ثوب حداد دائم وفي عرس دماء لايزول تزفه دموع السماء، دائما في حالة رثاء لفقيدها الأوحد الوطن.

غزة أتصورها أحيانا أنثى جميلة مطلقة في عز شبابها بعدما خذلها الضمير العربي والضمائر المسسترة التي تغذي وأدها.

غزة كم مرة أجهضت أحلامك واتهموك بالجنون؟كم مرة انهرت ولا أحد فهم " نكبتك" ولا حد احتواك وكل من ادعى ذلك فهو فهمك على مقاسه فقط، ومزاجه ورغباته فحسب، وليس على مقاس فجيعتك، فكبلوك وجروك صوب "الخطب الصماء" وصوب الدراويش بدل أن يطلقوك لفضاء الحب والحرية والشفاء.

اذكرك ياغزة وبحياء كبير أمام ما مررت به وماتمرين به انك تملكين وجاهة الأبطال ونحن لا نملك غير خجل الكلمات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى