الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٥
ما بعد 16 ماي: الكتابة بالإبر فوق العيون
بقلم عبد الرحيم العطري

هل سيتوقف البحث عن "جوى منجل"؟!

عندما أهداني المبدع نور الدين أدراز ديوانه الزجلي الرائع "جوى منجل"، أوصاني بالبحث الدائم عن "جوى منجل"، اقتناعا منه بأن رهان الفكر الإنساني هو البحث في اللامفكر فيه والمسكوت عنه، لأكتشف بعدئذ أن "وصيته" الفريدة والاستثنائية هاته قد قدمها للعديد من أصدقائه من آل الفكر والإبداع داعيا إياهم إلى تحطيم صروح اليقينيات وإلى التساؤل والنقد, فالشرط الوجودي للإنسان هو اكتشاف "جوى" هذا "المنجل" الذي يهفو إلى قطع رؤوسنا وألسنتنا، في محاولة لتبخيسها واختزالنا في زمن اللامعنى والموت!

تذكرت شغب المبدع وأنا أحاول القيام بمقارنة للصحافة المغربية بين زمنين: ماقبل 16 ماي وما بعده، بحثا عن التغيير والثبات، عن القطائع والامتدادات، عن الإنتاج وإعادة الإنتاج, فما الذي حدث فعلا بعيد السادس عشر من ماي 2003؟

ما انعكاسات أحداث البيضاء على الصحافة المغربية؟ وإلى أي حد كانت هذه الصحافة في مستوى الحدث؟ وهل الكتابة والإنكتاب كملمح رئيس للفعل الصحفي مازال ينضبط لنفس الخلفيات في العديد من المنابر الإعلامية؟ وبهذا هل توقف البحث عن "جوى منجل" في الصحافة المغربية؟ أم أن البحث عنه متواصل ولوبصيغ أخرى تعتمد مبدأ التقية؟

تقليم الأظافر!

يقول سارتر بأن مهمة الكاتب هي الشهادة الموجزة على موت الإنسان، فهل نساير هذا الفيلسوف الوجودي ونذهب معه بعيدا إلى اعتبار الكتابة هنا والآن شهادة دالة على موت الصحافة والرأي وعودة محاكم التفتيش وصكوك الغفران بعيد السادس عشر من ماي؟
إن مغربا جديدا بعد هذا الحدث المروع قد تشكل، وإن رؤى جديدة وقيما استثنائية، وقرارات قوية عجنت بالحديد والنار قد صارت جاهزة للاستهلاك والتنفيذ ولو كره الكارهون والعاشقون لهذا الوطن، لقد انطلق موسم تقليم الأظافر وقص الأجنحة من جديد, وبالطبع فالدور يكون بدءا على الصحافة باعتبارها المحرك الأساسي لعامل التغيير والمساهمة بقسط وافر في بلورة وتوسيع استعمال السلطة والفوارق الطبقية وباقي هموم وآمال الهامش والمهمشين.
فالصحافة التي تختص في كشف الحقيقة وفي فضح المسكوت عنه وتقطع بالتالي مع سياسات تلميع الصورة والتطبيل للسياسات الرسمية وامتهان لغة الخشب، آن الأوان للاقتصاص منها وتقليم أظافر مشاغبيها، فالظرف مناسب جدا لتصفية الحساب مع كل من سولت له نفسه الشقية البحث عن "جوى منجل"، فقانون الإرهاب يسع لاحتضان جميع التهم ويمكن أن يطبق على الجميع، فقد فصل على المقاس وأخرج في طبعة غير منقحة وفريدة, وها الصحافة اليوم تلتسع به قبل الكل.

علي المرابط، مصطفى العلوي، الهرد, وآخرون قادمون لا محالة هم قرابين الصحافة المغربية بعيد أحداث البيضاء، تم الاقتصاص منهم لكي يعي الجميع جيدا أن المخزن هو المخزن، وأنه لا يمكن لإكراهات تلميع الصورة على المستوى الخارجي ولا ضرورات ما يسمى بالانتقال الديمقراطي أن تمنع المخزن من استثمار أدواته القمعية واعتمادها إجرائيا لحماية مصالحه وتدعيم وجوده.

استيقاظ الرقيب

ما بعد 16 ماي هو موعد آخر لسقوط الأقنعة واكتشاف الاهتراء والهشاشة التي تسم مختلف المؤسسات والبنيات المكونة للنسق السوسيوسياسي المغربي، ففي هذا الموعد تم تدشين قطائع وتم استلهام الفائت واستباق القادم أيضا، وهكذا فقد تم خلط أوراق اللعبة من جديد, يتم تقديم أكباش فداء، وبناء خطوط ومتاريس حمراء جديدة.

ففي مقابل الجرأة والانفتاح الذي كان يبصم الصحافة المغربية ما قبل السادس عشر من ماي, بدأ يلوح في الأفق نوع من الارتكاس والتراجع بخصوص هامش الحرية التي تكرس واقعيا لهذه الصحافة بعد سنوات من النضال وأداء الثمن!!

فالعديد من الفزاعات تنصب اليوم قبالة الصحافة المسكونة بالبحث عن "جوى منجل", فهناك المقدس, الإرهاب، النظام العام والتخوين والعمالة للخارج وما إلى ذلك من التهم الجاهزة التي تقود إلى غياهب السجن!

وهذا كله جعل الرقيب الذاتي يستقظ في أعماق الصحافة المغربية, ليستعيد "حارس البوابة" المعروف جدا في الأدبيات الإعلامية, دوره المركزي في تصفية المعلومة عبر قمع خاص محكوم بهاجس أمني عام يتوخى عدم الوقوع في الخطأ!

صحافة 16 ماي

وهكذا فقد استحالت العديد من الجرائد إلى ملحقات إعلامية جديدة للضابطة القضائية, تقوم باستنساخ المحاضر وعرضها بشكل سمج لا ينضبط لأي مدرسة إخراجية في علوم الصحافة والإعلام, فما معنى أن تصير الصفحة الأولى كلها إلا ما رحم ربك مجالا للعناوين العريضة والطويلة؟ لا يتعلق الأمر بصحافة إثارة مختلفة في النوع والدرجة؟ وما معنى أن يتحول حادث 16 ماي إلى وسيلة لابتزاز القارئ والرفع من مبيعات الجريدة؟

يمكن القول ان الصحافة المغربية ومباشرة بعد أحداث البيضاء قد عرفت ثلاث منعطفات تبعا لاختلاف المواقع الإيديولوجية والمصالح السياسية لمالكي وسائل الإنتاج والإكراه داخل المنظومة الإعلامية وخارجها طبعا، فهناك المنعطف الرسمي الذي انتهت إليه العديد من الجرائد الحزبية وغير الحزبية ووسائل الإعلام السمعي البصري الرسمية, والذي يقوم على أساس التطبيل والخطاب التمجيدي الساخن والنقد التعميمي البارد. وهناك ثانيا منعطف الإثارة وتصفية الحسابات وهو الذي انتهجته جريدة الأحداث المغربية بالدرجة الأولى, والذي يتأسس على الاستثمار الاقتصادي والسياسي في جيوب القراء اعتمد آل هذا المنعطف العناوين البراقة والمثيرة, دون أن ينسوا حروبهم السابقة مع "أعدائهم السياسيين"، لتتحول الصحافة لديهم فضاء لتصفية الحساب ورد الصاع صاعين! أما ثالثة الأثافي وهي التي تتصل بالمنعطف الثالث الذي راهن على الموضوعية في الطرح والتحليل, فهو للأسف الشديد لم يحتضن إلا عناوين صحفية محدودة ومعدودة على رؤوس الأصابع, وهي التي عرفت بوضوح خطها التحريري واحترامها لقرائها, وكذا بنزاهتها ومصداقيتها, ووفاء لهذه القيم فقد عمدت هذه القلة من صحافة 16 ماي إلى تفكيك العوامل الثاوية وراء صناعة الكاميكاز, وإلى فتح المجال أمام كل الأصوات دونما وقوع في خطأ الاستعداء والاستئصال والإقصاء!

الخطوط الحمراء

ولأن صفعة 16 ماي كانت قوية وعصية على الفهم بالنسبة للذين استحبوا النوم في العسل, ولمن تركوا الهامش يلتفح بهامشيته فإن الصفعة ذاتها استوجبت ترتيبا جديدا لأوراق اللعب وقبلا لخارطة اللعب وتطلبت تحديدا جديدا للخطوط الحمراء وللمتاريس التي لا ينبغي الاقتراب منها بالمرة, وبالطبع فالرسالة موجهة إلى آل القلم وآل الشقاء الفكري تحديدا, من الذين يدمنون النقد والمساءلة.

والواقع أن الكثيرين من "محبري الجرائد" قد استوعبوا الدرس جيدا والتقطوا الإشارة على وجه الدقة والسرعة, وبذلك أعادوا القلم إلى غمده وانتهوا من بريه "وتسنينه", وانطلقوا بذلك في الحديث عن مواضيع أخرى من قبيل الترف الفكري, وارتباطا بهذا السياق فقد صار بيت ذلك الشاعر العربي

"وما أنا من غزية إن هوت
وإن رشدت غزية أرشد"

يتردد على نطاق واسع بين صفوف الغالبية العظمى من "محبري الصحف"، الذين فقدوا مناعتهم النقدية وحسهم الصحفي وهم يستعملون لغة الخشب في مدواة جراح البيضاء بالملح تارة وبالسكر تارة أخرى تبعا لمصالح الذين هم فوق!

ولهذا فمن السهل أن يكتشف القارئ اليوم أن هؤلاء الكتبة اليوم صاروا يتوجسون خفية من قول الحقيقة ومن حمل اليراع بين أيديهم, فقد لاحوا وكأنهم يكتبون بالإبر فوق ماقي الأعين مخافة الوقوع في المحظور والوصول إلى ما وصل إليه علي والعلوي والآخرون!!! ولا عجب أنه زمن الخطوط الحمراء!

الدرس الخاطئ

في زمن السبعينات الملتهب اهتدى المخزن إلى فكرة خاطئة مفادها أن معهد العلوم الاجتماعية هو المسؤول عن تفريخ أطر اليسار وأنه يحمل إلى النظام عوامل التهديد, ولهذا كان لابد من إغلاقه وإعلان الحرب على الفلسفة والعلوم الإنسانية وفي مقدمتها علم الاجتماع, وهكذا فقد حوربت هذه المعارف النقدية في الجامعات المغربية واقتصر تدريسها على الرباط وفاس وفي مقابل ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام شعب الدراسات الإسلامية والإسلام الوهابي وأدوات انتشاره من كتب وأشرطة عن عذاب القبر والمسيح الدجال والحجاب والخلافة, تمطرق أسماعنا في الحافلات والأزقة والشوارع.
وفي أعقاب الأحداث الدامية التي عرفتها البيضاء خلال الثمانينات نتيجة تردي الأوضاع السوسيواقتصادية, كان الجواب الجاهز هو التقسيم الإداري والضبط المجالي الأمني, وبعيد أحداث فاس عند مطلع التسعينات كان الجواب أيضا تحذيريا عبارة عن حقنة الشباب والمستقبل لتسكين التوتر الاجتماعي وتلافي إمكانات الثورة والخروج على ما هو قائم من الأوضاع.

واليوم بالذات واتصالا بتداعيات السادس عشر من ماي يبدو أن الجواب على تلك الأحداث لن يشذ عن القاعدة المعمول بها دوما, وأنه سينطوي على بعد أمني مخزني, ويمكن تلمس ملامح هذا الجواب من خلال تكميم أفواه الصحافة ومن شيوع ظاهرة الكتابة بالإبر فوق ماقي الأعين, وكذا عبر التقسيم الجديد الذي ينتظر البيضاء الذي سيحولها إلى أكثر من عشر عمالات ضدا على مشروع "وحدة المدينة" الذي تم الحديث عنها سابقا، ويلوح كذلك هذا الجواب في الخطوط الحمراء وقانون الإرهاب واستعراض العضلات الأمنية واستثمار خدمات الأجهزة القمعية, في كل ذلك يتضح بقوة أن الدرس الخاطئ هو ما نجيده ولا نريد أن نحيد عنه.

"جوى منجل"

إن البحث عن "جوى منجل" سيظل شرطا وجوديا للصحافة الجادة, ولكل كتابة عاشقة لوطن تنتفي من جنباته فصول التهميش واللامساواة واللامواطنة, فالنقد والسؤال من رهانات المعرفة الرصينة الكفيلة بإنجاح وإعمال شروط التغيير والتجاوز.
ولهذا فالصحافة المغربية مطالبة اليوم بتحصين ذاتها ضد مزالق ومطبات الوقوع فيما يريده مالكو وسائل الإنتاج والإكراه، فلابد من تقوية المناعة والحفاظ على أقصى شروط الموضوعية في المتابعة والتحليل لما يحبل به مغرب ما بعد 16 ماي, فالتاريخ لا يرحم وذاكرته حتما تحتفظ بكل شيء والعاقبة طبعا للأقلام التي ترفض التثاؤب وترتكن إلى الجرأة والصدق، ولهذا وبالرغم من كل ما يحاك آنا ضد الصحافة والكتابة والرأي الحر والنزيه، فإن البحث عن "جوى منجل" لن يتوقف أيها الصديق العزيز نور الدين ادراز فنم قرير العين مرتاح البال!!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى