الجمعة ٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
بقلم وديع العبيدي

هل ما زال العراق بلد الشعر والشعراء

ناموا في منفاهم على شاطئ البحر بانتظار سفينة ما تحملهم
الى أرض الوطن الذي حلموا برؤيته دائماً . وحدها البروق
المتلظية تعرف سر غيابهم وتعرف أين علقوا جدائلهم
ودموعهم المقيدة ، موتى المنفى يحرسون البحر عند الظهيرة
كما يحرس الضوء بوابات البكاء .

في عمر الثامنة والثلاثين عاما مات بدر شاكر السياب [1926- 1964م]. في كل عام مثل هذا الوقت، نستذكر السياب ونصاب بالصمت ساعة أو يوماً، حزناً على روحه ومأساته، أو مأساتنا جميعاً. أخرج السياب الشعر العربي من نفق طوله ألفا عام إلى الهواء الطلق للقصيدة الحديثة، ورغم أن ما فعله وصف بثورة الشعر الحر، لكنه لم يتمتع بأبهة القادة ولا ترف الثوار، طفولته كانت نموذجاً للبؤس والحرمان، حياته الابداعية مدينة للفنادق الرخيصة والعرق الرخيص ولبهذلة الحياة السياسية في العراق. طرد من الوظيفة غير مرة لأسباب سياسية، فاستهلك نفسه ووقته في عمل صحفي يتوزع ليله ونهاره في أكثر من جريدة ومجلة، محرراً ومصححاً ومترجماً، من جريدة الاتحاد والبلاد إلى مجلة الشؤون الزراعية. كان ضعيف البنية ونحيلاً وأعراض المرض بادية على وجهه، لكنه كان طيب القلب والمعشر، والمرح لا يفارقه. اشتدت عليه أعراض السل الرئوي ولم يحظ برعاية الطب العراقي. لم يشفع له اسمه ولا عطاؤه ولا ثورته في بلده. شملته رعاية الكويت القريبة من بصرته، ليموت على سرير نظيف في المستشفى الأميري فيها. مات السياب (غريب على الخليج) وعينه على بلده وهو يردد [حتى الظلام هناك أحلى، فهو يحتضن العراق!]. مات ولم يقل إلى متى يبقى الظلام يحتضن العراق، وإلى متى [لا يمر عام والعراق ليس فيه جوع]!.
السياب لم يكن رائد الشعر الحديث في العراق، انما كان رائدنا في الضياع والتشرد والغربة. وإن كان موت السياب، غير بعيد في ملامحه العامة عن موت الرصافي قبله بتسعة عشر عاماً. وبينهما من قصص البؤس واليتم والبهذلة السياسية الكثير.

مات الرصافي عام (1945) وحيداً على حصيرة في حجرة من بيوت الميدان من بغداد، ومات السياب عام (1964) وحيداً في مستشفى في الكويت. ومات حسين مردان في بغداد (1972)، وشاذل طاقة (1973) في المغرب. نال السياب بدواوينه الأربعة أو الخمسة اهتماماً كبيراً من النقاد، بعد موته. ترى، هل كان مصدر الاهتمام بالسياب نابعا من شعره وابداعه، أو التعاطف مع حياته البائسة وموته الأكثر بؤساً وتشردا. أيهما كان أعظم، شعره أم قصة حياته المأساوية الشبيهة بقصص الأنبياء. لماذا تكون حياة الشاعر غالباً من أعظم قصائده.

ولكن.. هل أتى أحد على تلك البحة في الصوت، تلك اللكزة في الساق وهو يخطو، تلك الانحناءة الشديدة التي رافقت عنقه ليبقى رأسه مائلاً على جنب، رفع الحيف عن حياته وموته الجحود. السياب والرصافي والبريكان والجواهري والبياتي وبلند هم مفاخر العراق وأهراماته الخالدة، ولكن.. ماذا قدم العراق لمفاخره؟.. شحّ عليهم في حياتهم، وكان شحيحاً عليهم في موتهم. شحيحاً عليهم ولو بقبر. أولئك الذين نزفوا كل خلية في جسدهم من أجله. أقول.. وأنا أصر على النواجذ، وأكظم غيظي، لكي لا أجرح مشاعر أحد، بالكلمة المناسبة في هذا المجال.

بينما كان السياب يعاني من اشتداد وطأة المرض عليه، كان شاعر آخر يهرب من سجن، ويتخذ طريقه عبر الأهوار إلى ايران ومنها إلى مناف متعددة. في عام 1964 بدأت رحلة النواب بين المنافي. لم ينس عراقه يوماً، فهل ذكره عراقه كذلك؟. نعم ، ذكره بالموت والتوابيت الدبلوماسية، ذكره بوضع اسمه لمهرجان الشعر الشعبي بعد سقوط الدكتاتورية. هل يستحق شاعر أكثر من ذلك. هنا في اوربا، لا نمرّ في شارع أو زقاق دون أن نتعرف على اسم شاعر أو فنان أو عالم. لا ندخل حديقة أو بارك لا نجد فيها نصب وتماثيل أدبائها وفلاسفتها وفنانيها. لا تذهب إلى قرية لا تجد فيها ارشيفاً وخرائط سياحية للأدباء والعلماء والفنانين الذين عاشوا فيها شطراً من حياتهم، تماثيلهم ومؤلفاتهم من معالم القرية والمدينة، وعلى واجهة البيوت التي عاشوا فيها قطع نحاسية أو آجر، تشير إلى اسم المؤلف والفترة التي أقام فيها في هذا المنزل وما وضعه من مؤلفات أدبية أو موسيقية فيه. بعض البيوت تحولت الى متاحف لأعمالهم وذكرياتهم بإدارة البلدية. تاريخ أوربا الثقافي تقرأه في اسماء الشوارع والمؤسسات والجامعات. الدولة تكرم الأدباء بالأوسمة والمناصب، ودور النشر بإعادة طبع مؤلفاتهم ومنحهم الجوائز. دور النشر والمؤسسات الثقافية والبلديات تمنح جوائز للأدباء والمؤلفين سنوياً. نادراً ما تجد كاتباً لا يؤرخ حياته بكذا جائزة ومنحة. علماً أن المؤلف يحصل على عوائد مبيعات كتبه من الناشر ولا يتعرض للسرقة المنظمة والابتزاز كما يحدث عندنا. هنا يشعر المثقف والمؤلف والأكاديمي بالفخر لتخصصه، أما نحن فنشعر بالألم والاحباط ونعاني كثيراً، لتورطنا بالكتابة.

لا أعتقد أن الأدباء يعانون في بلد كما في العراق، ولا أعتقد أن بلداً ينطبق عليه قول (ماركيز) أن تكون سلطوياً أو لا تكون، مثل العراق. السلطة هي كل شيء في العراق. بالخصخصة أو بدونها. المناصب والأموال والقرارات والعقوبات والتكريمات بيدها. فمن ارتبط بها نال، ومن مال عنها كان مصيره الموت أو الترحال. كان يجدر بموت السياب أن يدق أكثر من ناقوس خطر في ضمير الثقافة والمجتمع والدولة العراقية، لرفع الغبن والاهمال والحيف عن الطبقة المثقفة والمبدعة من أبناء النهرين. أن يضمن القانون العراقي حياة أكثر جدارة ولياقة للمؤلف والمبدع العراقي بدل حياة الهوامش و أرصفة الغربة.

ثمة أسئلة كثيرة تتردد في إطار العلاقة بين المثقف والوطن وبين المثقف والسياسي، ولا يتردد شيء عن تصحيح أوضاع الثقافة وتحرير المثقفين من عبودية السؤال في العراق. ان العراق، وهو يعيش استحالته الثالثة اليوم، ليس بحاجة إلى تعزيز الطائفية والمآفيات المسلحة فيه، أو نشر قيم الصفقات والمحاصصة في المال والجاه والسلاح. العراق بحاجة لثقافته ومثقفيه، وليس سرطانات حزبية وطائفية مشوهة. السؤال هنا ليس موجهاً للأمريكان عن تهميش الثقافة في العراق، ولكن للقائمين في السياسة والسلطة. متى كانت السلطة هي مشكلة العراق العويصة والوحيدة، ليحار في طرق الحكم وهوية الحاكم. أليست السياسة الحقيقية والحكم معطى من معطيات الثقافة والوعي في البلاد، ولكنه صير إلى تهميش الثقافة وتعطيل الوعي، وفسح المجال للصراع والتنافس بكل الوسائل على كراسي الحكم. أما الدمقراطية التي يبشّ ويهش لها كثيرون، فلا قيمة لها بلا ثقافة. الدمقراطية ثقافة، ولا دمقراطية بدونها. أو بعبارة أشمل، ما قيمة الدمقراطية في مجتمع جاهل، تباع الأصوات وتشترى بكيلو لحم أو فتوى دينية.

عندما قال السياب الكبير بحياته وموته وشعره: [أنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه!] لم يكن منفياً بالمعنى الجغرافي. ولم يكن سمع بالقادسية وأم المعارك ولا مشروع تحرير العراق والمحاصصة الطائفية. لم يعلم أن ثلثي أدباء ومثقفي بلده سيحتلون القارات الخمس، ليتاح قيام نظام دمقراطي حسب الطريقة الأمريكية هناك. لم يعلم أنه بموته الجلل ذاك، قد أورثنا إرثاً لن نفتك منه قريباً.. لقد مات كثيرون حتى الآن على الطريقة السيابية، وسيموت كثيرون حتماً، بل لن يتاح لهم أفضل من ذلك. قتل محمود البريكان طعناً بالسكاكين في بيته بأيدي مجهولين، ومات حسن مطلك محكوماً بالاعدام (1991)، ومات عقيل علي ينزف على رصيف شارع المتنبي في وسط بغداد (2005) وأودع بعدها في المستشفى في قسم مجهولي الهوية، ومات عبد الأمير جرص في كندا بالجلطة الدماغية أثر وقوعه من دراجة هوائية ، مات باسم حميد وجان دمو في استراليا، مات مؤيد سامي وقاسم عبد الأمير برصاص الارهاب الدمقراطي أمام دورهم، ولا تزال الصحافة تنعى عبد اللطيف العلاف ويوسف الصائغ. ولا يمرّ اسبوع لا نقرأ فيه نعياً لكاتب أو فنان في منفى الداخل أو منفى الخارج. واخيرا تم تجاوز روتين النعي ليمرّ الموت بهدوء مثل أي لص محترف.

أليس الأجدر بالمؤسسات الثقافية، الرسمية وغير الرسمية، في الداخل أو الخارج، أخذ موضوعة المؤلفين العراقيين مأخذ الجد، كواحدة من الإشكاليات الملحة. هل يفخر القائمون على كراسي العراق ومؤسساته، أن منظمات عربية وأجنبية تتولى تمويل قنوات الثقافة وطبع مؤلفات الأدباء في العراق. نحن بأمس الحاجة اليوم لتحديد موقف جرئ وواضح من قضية الثقافة في العراق. هل استغنى العراق عن ثقافته ومثقفيه وأسلم أطرافه للعمامة والمليشيات والعقال. من العبث الاستمرار في البحث عن شيء غير موجود. ان غالبية الانتاج الثقافي العراقي خارج البلاد، ومعظمه لا يصل إلى الداخل ولا توجد أية آلية حقيقية تتولى هذه المهمة. أي ثمة قطيعة مؤكدة بين الأدباء ومجتمعهم. وليس الزمن في صالح هذه القطيعة التي تجاوزت عقودا حتى الآن!. لا بدّ من مؤسسة معنية تتولى إعادة طبع ونشر كل ما صدر في الخارج بعيداً عن الانتقاء وعقدة الحكم، لضمان تواصل الكتاب والمؤلفين مع بلدهم. ولا بدّ للجامعات العراقية توجيه اهتمام طلبتها لأرشفة حركة التأليف والنشر وحصر المؤلفين آثارهم الثقافية. ومن العار التذكير ان أشخاصا لوحدهم مثل كوركيس عواد وأخيه ميخائيل عواد أسسا أول أرشيف للنتاج الثقافي العراقي، كان نواة لأرشيف المكتبة الوطنية العراقية لاحقا والتي تعرضت للتفجر والسرقة في فجر الاحتلال [2003م] أسوة بالمتحف العراقي، وأعدّ كلّ من عبد الأله أحمد وعمر الطالب أرشيفا أكادميا للقصة العراقية، والاستاذ مير بصري أرشيف الصحافة العراقية. أين هي الجامعات العراقية وكليات آدابها، وأين هي دار الحكمة (المجمع العلمي العراقي) واتحادات الادباء والصحفيين وأمثالهم. هل ثمة معيار لامتحان الوطنية والانتماء الأصيل خارج التاريخ الثقافي والتواصلية الحضارية لأبنائه. مع مطلع القرن تنافست دور نشر ومؤسسات صحفية غربية لأصدار سلسلة أبرز الكتب والمؤلفين خلال القرن الماضي. والاحتفاليات مستمرة ومتصلة على اكثر من صعيد، ناهيك عن البرامج التعليمية لمختلف المراحل الدراسية للتعريف بالأدباء والفنانين.

هذا في أوربا الغربية. أما بالنسبة لنا، بلدن الشرق الأوسط والعراق، فأننا تاريخنا الوطني المعاصر بدأ بالقرن العشرين، ونحن أولى بتوثيق وأرشفة الانتاج الثقافي والتاريخ السياسي بشكل يؤسس دعامة للمستقبل والوطنية. ولا أريد أن أعمم على الجميع، لنبقى مع السيّاب وبلده المتشظي. الحديث مرّ.. وصرخة في فج عميق.. لأنّ اتجاهات الأفكار والسياسات في عراق الغزو عاجزة عن البوح، بنفس درجة اصرارها على تحطيم القواعد الوطنية والثقافية والاجتماعية المؤسسة للعراق المعاصر، لبناء عراق طائفي. هذا هو سرّ صمت المؤسسات والأفراد المعنية بالثقافة الوطنية، ودأبها في تشويه وتزوير ثقافة الداخل، والتنكر للأدباء والمثقفين العراقيين المخضرمين في الخارج، بانتظار موتهم وانقراضهم من الذاكرة المحلية.
ما المقصود من هذه الرسالة؟..

لا.. ليس السيّاب.. ولا البياتي، ولا بلند الحيدري.. ليس عبد العزيز الدوري ولا يوسف عزالدين، ليس عبد الاله الصائغ ولا سعدي يوسف ولا حتى مظفر النواب، ليس كريم ثجيل وعبد الأمير جرص ولا غيلان ولا كمال سبتي ولا سركون بولص.. لأن المسألة ليست شخصية ولا فردية.. ان كل مثقف وكل عقل منتج هو ثروة وطنية وقومية.. وللمجتمع حق التعرف عليها والانتفاع منها، لأنها حجر أساس في بناء المجتمع والوطن والتاريخ والمستقبل. ولعلّ العراق.. البد الأكثر غرابة في التاريخ والأكثر تشتتا وتشظيا، وعجزا على الالتفاف حول نفسه، بسبب اشكاليات الوجود الجغرافي والاصطراعات الاقليمية التي نجحت عبر التاريخ في توظيف طوابيرها الخامسية العريقة، والتي تعمل جميعا تحت شعار راسخ واحد [عليّ وعلى أعدائي!، إما أنا أو فلا.].

كثيرون ماتوا، وكثيرون يموتون بصمت مريب. عراقيو الداخل، وعراقيو الخارج. فالانسان أرخص سلعة في بلد الحضارات المنقرضة.. وسوف ينقرض آخر عراقي يتحدث بالوطنية العراقية.. لانجاح المشروع الطائفي.. ولكن هيهات..
فما زالت سومر تنزف.. وبابل تنزف وأشور.. شنعار وكلدة وابن ماء السماء ودم غازي وفيصل وكلّ الوطنيين الأحرار.. وسوف يبقى الضمير العراقي أنقى وأرقى.. من أعداء الوطن والانسان.

اعلم يا ابن آدم
أن كلّ شيء معرّض للموت، إلا السؤال!..
......
....
كرنفال الألم لن ينتهي
انها الدنيا..
حتى الأطفال رسموا أحلامهم
تحت سماء الخوف..
ها هي العصافير تبيع ريشها
لأكلة لحوم البشر..
وتصرخ بالمارة:
خذوا هذه الحماقات،
فهي تطهّر الدماء!
باسم الانصار (ترانيم ابن آدم)- الدنمارك

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى