هل ولى زمن الإبداع المسرحي ؟!
تمهيد:
منذ ظهور الإنسان على وجه البسيطة وهو يبدع، ويحاول جاهدا التغلب على المشاكل التي تعترض سبيله ليحقق التوازن النفسي الاجتماعي الذي يمكنه من الاستمرار والتطور, وفي لحظة انفعالية ما (لتكن فرحا أو حزنا..) تفتقت قريحته الإبداعية فأبدع.. في مختلف صنوف الحياة بدءا من البسيط نحو المعقد البالغ التعقيد, فهو كائن مبدع بامتياز، ذلك أن الإبداع يعد ضرورة وجودية للإنسان بل فعالية إنسانية متجددة بها يحقق تميزه وتفرده عن باقي الكائنات الأخرى.
واليوم.. الذي يشهد انفجارا معلوماتيا أسرع بكثير من قدرتنا على استيعاب المعلومات، ويشهد أيضا (وللأسف الشديد) ركودا وفتورا بينا في المناحي الإبداعية ذات الصلة بالجانب الفني المسرحي منه على وجه التحديد.. ماذا يمكن أن نقول بشأنه؟! هل نحكم القبضة على كل الأسئلة الحارقة ونلقي بها في قيعان اللاوعي ونكتفي بالترديد الببغاوي، "هناك إبداع ولكن!!"، فسحقا لهذه "لكن" التي تقف مثل تفاحة آدم في كل حين أمام الإجابات الشافية, ولتكن إذن مساهمتنا هاته محاولة لرصد راهنية الإبداع المسرحي مع استحضار قوي المنظور الشكسبيري "نكون أو لا نكون" "نبدع أو لا نبدع".
مدخل مفاهيمي:
ما الإبداع؟! ما الإبداع المسرحي؟!.. صعبة جدا الإجابة، فالإبداع يعد من بين المفاهيم الزئبقية التي قد لا نجد لها تعريفا واحدا قارا وشاملا بل هناك عدة تعاريف تتلون وتختلف باختلاف التخصصات المعرفية وأيضا التوجهات الفكرية.
"يمكن النظر إلى الإبداع على أنه سمة من السمات الموزعة بشكل طبيعي بين البشر ويظهر في شكل قدرة عقلية وكعملية نفسية وكأسلوب للحياة يمكن ملاحظته لدى جميع الأطفال ولدى قلة من الكبار ويؤدي بالشخص إلى التفوق والإبداع في الأداء في مجالات العلوم والفنون واستحداث الأفكار المبتكرة" [1] أما غليفورد الذي اهتم بموضوع الإبداع في إطار اهتماماته السيكولوجية فيقول بأن "الإبداع بمعناه الضيق يشير إلى القدرات التي تكون مميزة للأشخاص المبدعين. إن القدرات الإبداعية تحدد ما إذا كان الفرد يملك القدرة على إظهار السلوك الإبداعي إلى درجة ملحوظة ويتوقف إظهار الفرد المالك للقدرات الإبداعية نتائج إبداعية أو عدم إظهاره مثل هذه النتائج بالفعل، ويتوقف على صفاته الإشارية والطبيعية إن مشكلة عالم النفس هي الشخصية الإبداعية" [2] ويعرفه محمود أمين العالم على أنه هو "إنشاء وإيجاد ما ليس موجودا قبلا، على أن الإبداع ليس مجرد وجود جديد مختلف متميز، فليس كل جديد إبداعا بل الجديد المبدع والمبدع حقا هو الكاشف عن علاقات أو دلالات أو قيم غير مسبوقة, معرفية أو جغرافية ذوقية أو سلوكية، وهو الذي يتيح بهذا الكشف تغييرا وتجديدا وتطويرا للرؤية والخبرة الإنسانية, إن الإبداع إنتاج شأن أي إنتاج آخر هو إنتاج أدبي أو فني أو علمي أو فكري إلى غير ذلك، وهو إنتاج مغاير لما هو سائد يفسح مجال الرؤية والخبرة الإنسانية ويتيح المزيد من السيطرة على الواقع الإنساني والطبيعي" [3].
ثمة استنتاج بسيط يمكن استخلاصه من عمق هذه التعاريف وهو كون افبداع فعالية إنسانية تصبو إلى التغيير والتجديد وتجاوز معطيات الراهن، ذلك أن القدرة الإبداعية (CREATIVITY) هي بمثابة قدرة على إيجاد حلول لمشكلات مطروحة سواء باختراع جديد أو اكتشاف علاقات أو إنتاج صور وتمثلات تتوجه إلى الإنسان دائما وإن اختلف المقصد أو الوسيلة.
ولتقديم تعريف إجرائي للإبداع المسرحي – والذي يهمنا بالدرجة الأولى في هذا المقام- فلابد من الإشارة إلى رفضنا المطلق لكل رؤية اختزالية تحاول "خندقة" هذا المفهوم في التأليف المسرحي أو غيره، فالأمر أكبر بكثير من حدود هذه الرؤية الضيقة, إن المسرح لا يستقيم الحديث عنه ما لم يتم اعتبار جميع مكوناته لأنه فن تركيبي بامتياز, وعليه فالإبداع المسرحي ما هو إلا إنتاج تجديدي وهو شيء غير النص فقط, إنه النتاج المركب من النص والتمثيل والإخراج وهندسة المناظر والأزياء والموسيقى والتشكيـل.." [4] وهذا الإنتاج لكي يكتسب الصفة الإبداعية يجب أن يخلع عن نفسه رداء التجديد والمغايرة لأجل تكسير الرؤى وتأسيس أفق جديد يتيح للفرد الموافقة بين حاجياته ومتطلبات العصر, هذا دائما مع التأكيد على أن ليس كل جديد يعد حتما إبداعا، لأن المبدع (وكما يشير إلى ذلك محمود العالم) هو الذي يكشف عن العلاقات والدلالات أو القيم غير المسبوقة.
وهنا تلتهب الأسئلة الحارقة مرة أخرى في الخلد, مواصلة بذلك استفزازها "المبكي" ونقول بكل مرارة مكتومة في دواخل الجسد الدامي, هل ولى زمن الإبداع المسرحي؟! لماذا هذه الانتكاسة؟! هل يمكن أن نحلم ولو سرا-وليس علانية- بغد يشرق فيه فجر الإبداع المسرحي الحق من جديد؟!
راهن الإبداع المسرحي:
من أين نبدأ؟ بل وأين تنتهي بنا المشاكسة في تعريفات هذا الموضوع؟ فليكن البدء من النص/الكتابة باعتباره معطى أوليا في العمل المسرحي ان عبد الكريم برشيد يبدي تخوفا مريعا بهذا الصدد, حيث يقول "إني أخشى أن يكون مسرحنا مازال على هامش المسرح وأن تكون كتاباتنا خارج الكتابة, أخشى أن يكون النص الذي نكتبه فنا يتبرأ منه الفن وأدبا يخاصمه الأدب، إن أكثر كتاباتنا ماتزال بغير انتساب حقيقي يجعل منها – إن لم تدرك نفسها-كتابة هجينة ولقيطة" [5] فهي هجينة لأنها تحبذ الاغتراف السمج من موضوعات بالية مستهلكة, وهي أيضا لقيطة لأنها مقطوعة الصلة بأصولها السوسيوثقافية, وإن كتب لها التعامل مع هذه الأحوال فإنها تبقى تعاملا مبتورا لا يمت لمفهوم الإبداع بصلة لأن "الإبداع" الحق هو أن نكتب هذا الواقع كما لم نكتب هذا الواقع في الواقع" [6] يعني أن نخلق رؤى جديدة وتصورات سامية لهذا الواقع الذي نعيش فيه لأجل الفهم والتجاوز نحو الأفضل طبعا، فالنص المسرحي (كتابة) مازال لحد الآن يتعثر في نقطة الانطلاق بفعل اللبوس الذي يتم تغليفه علما بأنها ليست من مقاصه بالإضافة إلى معاناته من مآزق جمالية سياسية وحضارية [7].
وهكذا من خلال الثلاثين سنة الأخيرة (1959-1989) حدد الباحث والكاتب المهدي الودغيري حوالي 117 عنوانا مسرحيا منشورا [8]، وحتى وإن سلمنا بحضور الإبداع في عمق هذه النصوص المنشورة, فهل العدد يدعو إلى الاطمئنان؟!
ونتقدم في لحظة من تيهنا الفكري المقصود في دنيا الإبداع المسرحي نحو قضية التمثيل, "فلا يليق أن يعلو الممثل في القرن العشرين خشبة المسرح ليقول كلمة مؤلف أو مخرج إن عليه أن يقول كلمته" [9] والانكى في الأمر أن ممثلينا لا يقولون شيئا. وهم على مقربة من القرن الواحد والعشرين؟!! فهم غائصون في تقليد رخيص, بعيد عن الأداء الصادق فالدور قد يؤدى أداء جيدا أو رديئا – في غالب الأحيان- والشيء المهم هو أن يكون الأداء صادقا ودالا على المشاركة الوجدانية والتماهي التام الذي ينجم عنه بالضرورة إبداع يسمو بالعمل المسرحي "فعلى مدى تاريخ الدراما منذ اليونان وحتى العصر الحديث نجد أن التغيرات التي تحدث في بناء وهيكل النص المسرحي يرافقها مباشرة تغيرات كبيرة تحدث على مستوى الأداء التمثيلي للممثل نفسه تتسعها بالضرورة تغيرات شاملة في رؤية الممثل والمخرج إلى التاريخ والمجتمع والإنسان" [10] مما يعني أن للممثل نصيبا وافرا في عملية افبداع المسرحي، فهو حجر الزاوية في الكيان المسرحي لأنه هو "المادة الأكثر قيمة في إيصال معنى وهدف المسرحية فهو جسد وروح، مادة وعقل، تكوين وكيان، لغة وحضارة, معاصرة وتاريخ" [11].
ومن العبث المؤكد أن يقول المرء هنا بأن تمثيلنا الراهن ينمو بخطوات وطيدة أو متنوعة صوب الإبداع الحق نظرا لتركيزه على الإلهاء والإضحاك "المهزلي" فلا شك أن الأمر يبدو بعيدا عن الصواب إذا قلنا أن في استطاعة ممثلنا المحلي اللحاق بركب الفن في العالم لمجرد أنه يمتلك الرغبة في ذلك, ولكن فهما أكثر جذرية لتركيبة الممثل الفكرية يجعله أقرب إلى اتجاهات الفن التمثيلي في العالم رغم إمكاناته الجسدية المتواضعة" [12]، فكل من "هب ودب" يعتلي هذه الخشبة الكسيحة ويدعي التمثيل وقد لا تربطه به إلا الرغبة الملحة في الظهور والانتشار الواسع.
"ويأتي الإخراج عنصرا ثانيا من عناصر المسرح الهامة إلى جانب التأليف، وهو ظاهرة مستحدثة ليس في الوطن العربي إنما في العالم, إذ نعلم أن موفوكلين ويوربدي من كتبوا النص وشخصوه تمثيلا وإخراجا. وقد انفصلت وظيفة الإخراج عن التأليف في عصور متأخرة وكتعبير عن التخصص في الوظائف الفنية" [13]. إذا كان الإخراج هو بمثابة كتابة ثانية للمسرحية, كتابة خاصة بالحركات والإيماءات بالأصوات والانفعالات... كتابة تتخذ من جسد الممثل قلما ومن الخشبة صفحة بيضاء ومن الواقع والاتجاهات السائدة مدواة للحبر, فإنها مرشحة للإبداع والخلق بدلا من الاستنساخ اللامجدي الذي لا يؤدي إلا إلى تأزيم الوضع وتجميد الحس الإبداعي، والإخراج عندنـا – وبالرغم من الخطوات الجادة التي حققها بعض المبدعين فيه- يبقى في أغلبه مستهلكا خاملا لما أنتجه "الآخر". فنفحاته يمكن تنسمها في أي عمل مسرحي وإن ظهرت تجارب جديدة تحاول تحقيق التميز, سواء بعمليات التأصيل المسرحي باستلهام التراث وتوظيفه أو بالبحث عن نماذج غريبة حقا، فإنها مازالت لحد الآن تجتر رؤى الإخراج السابقة, فهل ولى زمن الإبداع؟!
وبالنسبة للفنون الأخرى التي تنضوي تحت لواء المسرح باعتباره الأب الروحي لها والتي تساهم في تشكيل الإبداع المسرحي، يمكن أن نقول أنها تتقدم باتجاه الإبداع الحقيقي على خلاف فنون الكتابة والتمثيل والإخراج, فالعمل المسرحي في رأي سعد أردش أصبح "عند الممثل شركة بين العناصر الأساسية فيه المؤلف والمخرج والممثل والتشكيليون والتعبيريون من مؤلف ومؤدي للموسيقى والغناء والرقص بأنواعه" [14] وعلى مستوى الديكور مثلا هناك تطور فعلي بفعل انفتاح المسرحيين على التشكيليين وكذلك الأمر بالنسبة للتوظيف الموسيقي, وربما هذا يدعو إلى التفكير من جديد في احتواء الفنون الأخرى في إطار المسرح كما كان الأمر في العهود الغابرة.
ولكن هذه المحاولات الإبداعية تضيع سدى قبالة الإبداع في محاولات التمثيل والنصوص المسرحية وأيضا قبالة اللامبالاة التي يبديها المتلقي نحو هذه الأمور التي يعتبرها ثانوية على الرغم من أساسيتها ودورها في الرقي بالعمل نحو الإبداع المنشود. إن أوضاعا كثيرة ثانوية وراء هذا الانتكاس الإبداعي في مشهدنا المسرحي، تجعلنا لحد الآن نعد المبدعين المسرحيين (كتاب-ممثلون-مخرجون...) بين ظهرانينا بالكاد على رؤوس الأصابع "فهل عندنا الآن حصتنا من العباقرة المبدعين؟ أم هل نعيش على رأسمالنا الموروث؟ هل نستطيع أن نفعل شيئا بهذا الخصوص؟ [15] بالفعل نستطيع... كيف؟!... بالرعاية...
رعاية الإبداع المسرحي!!
كيف يمكن تنمية القدرة على التفكير الإبداعي ورعاية ذوي القدرات الإبداعية؟! سؤال جاد فعلا، ولذلك فقد استرعى على انتباه العديد من الباحثين خاصة في حقل علم النفس التربوي "فإذا استطعنا رفع مستوى الإبداع عند الإنسان المتوسط ولو بنسبة مائوية صغيرة فإن النتائج الاجتماعية ستكون عظيمة [16] وتأسيسا عليه فإن الاهتمام بالإبداع والمبدعين من شأنه أن يقود المجتمع بأشمله نحو مرحلة متقدمة من الرفاهية الاجتماعية وكما يرى بول فاليري فإن كل إبداع هو دراما نشاهد فيها المؤلف في الغالب يكد ويتردد ويغير ويصحح بدون انقطاع أملا في خدمة مجتمعه والنهوض به عبر بحث دؤوب عن صيغ جدية وأفكار مستحدثة لتصحيح المسارات والخيارات الإنسانية "ويرى العديد من الباحثين أنه لتشجيع التفكير الإبداعي فلابد من إدخال مجموعة من التعديلات الإبداعية على نظم التعليم الموجودة حاليا، وذلك أن الشخصية الإبداعية تحتاج إلى حساسية فائقة وقدرات عالية ومقدرة على التفكير التباعدي" [17] وهذا يتطلب رعاية خاصة تعتمد على مبدأ التحفيز والتشجيع المتواصل, فحينما نقنع المرء بأنه عاجز عن الإبداع فإنه يصبح بالضرورة كذلك, في حين يؤدي الأخذ بيده ومساندته إلى اتقاد قدراته الإبداعية وتفتقها بالتدرج. لكن هل تقوم أنماطنا ومؤسساتنا التعليمية بتشجيع الإبداع المسرحي ورعايته أم تعمل على قمعه واجتثاته من جذوره؟!
للإجابة على هذا السؤال نستنجد برأي حسن المنيعي الذي يقول "لا يوجد في بلدنا أي تقليد بيداغوجي ليجعل من المسرح –إبداع- مادة أساسية يتلقاها التلميذ في المدرسة الابتدائية أو الثانوية عن طريق دروس قارة ترمي –على الأقل- إما إلى تحسيسه بمواصفات الفن الدرامي, أو إلى تعاطيه كنشاط مدرسي موجه, هناك عروض عفوية يقدمها الأطفال بمناسبة الاحتفالات المدرسية أو الأعياد الوطنية. كما أن هناك عروضا تجارية جاهزة تقدمها لهم بعض الفرق المتخصصة بمسرح الطفل (وهي قليلة جدا)" [18].
رعاية الإبداع المسرحي تعني بالضرورة اهتماما مركزيا بالقدرات الإبداعية الكامنة والظاهرة للعيان, بصقل الأولى وتطويرها وباحتضان الثانية وفتح الطريق أمامها ونحن لا نقصد بالرعاية هنا ذلك المفهوم الرخيص الذي يربطها بالدعم المادي ولكن نعني بها التكوين والتنمية, لأن تكوين الإنسان المبدع وتنمية قدراته لا يتم دائما بصرف منح تشجيعية بقدر ما يتم بتنظيم مهرجانات جادة وتداريب مستمرة وفتح معاهد عليا ومتوسطة للمسرح في جميع البقاع.
إن رعاية الإبداع المسرحي بمفهوم آخر تدعونا إلى التفكير في الطرائق التي يمكن أن تساعدنا على تكوين أناس مبدعين ليس فقط داخل المدارس والمعاهد, وإنما أيضا في البيت وعن طريق وسائل الإعلام. فعلا, هناك معيقات عدة تعرقل مسيرة الإبداع المسرحي في مؤسساتنا التعليمية التي تفضل مبدأ الحشو والتخزين بدلا من الاعتماد على منظور متفتح يتبنى النقد واستعمال الفكر الإبداعي التأملي في مطلق الأحوال، ولهذا فلكي نتجاوز حالات العقر الإبداعي المتناسلة بحدة في يومنا هذا فلابد من إشاعة وعي مسرحي ونشر ثقافة مسرحية أصلية بين جميع الفئات المجتمعية.
وهذه الرعاية التي نتمنى خروجها العاجل من الوجود بقوة إلى الوجود بالفعل يمكن أن تقود المجتمع عموما نحو التقدم باعتبار المسرح مدرسة كبيرة وفريدة من نوعها على حد تعبير "غوغول".
كلمات قبل الختام:
وللأسف.. فمفهوم الرعاية العالق بذهن المسرحيين المغاربة يختزل
دائما ما هو مادي صرف، وبذلك ما إن تحل مناسبة معينة (لتكن اليوم العالمي أو اليوم الوطني للمسرح) حتى يتبارون في رفع التوصيات والهتاف بالشعارات المطالبة "بالرعاية المادية" وكأن الإبداع المسرحي لن يكون إلا بتوفر هذه "الواحدية المئوية" (1%) التي شغلت الجميع وأسالت لعاب الكثير ممن لا تصلهم بالركح أية قرابة ويتخذون منه مطية لتحقيق المصالح الذاتية, أي نعم!! قد تساعد الماديات على تطوير الممارسة المسرحية إبداعيا، ولكنها ليست شرطا ضروريا يتوقف عليه الإبداع "إن المسرح –كما عرف دائما- هو أفقر الفنون، سواء من حيث وجوده أو من حيث مردوده المادي ولو توقف الأمر عند حدود الفقر لهان الأمر. وذلك لأنه –عربيا- يكلف صاحبه غاليا.. يكلفه حريته أو حياته أو رزقه ورزق عياله, لأجل هذا لم يثبت في ساحته الفدائيون الحقيقيون, أما الذين ينشدون الأمن والأمان والرزق المصان فقد تحولوا إلى الكتابات السهلة و "البريئة" تحولوا إلى كتابة تشبه المسرح، وما هي بمسرح" [19].
فيا من يشترطون تطبيق "النسبة الواحدية" كي يبدعوا، حاولوا شحذ ذاكرتكم الفنية ببعض الشيء –إن وجدت أصلا- وتذكروا أحلاما بارزة في مختلف الفنون وقد أبدعت ما وقفتم أمامه عاجزين مذهولين، فإن هذه الأعلام أغلبها لم يكن يجد إلى لقمة يسربها الرمق سبيلا ومع ذلك حصل الإبداع! ولا داعي لسرد الأسماء المبدعة من مختلف الفنون التي لم تشترط حوافز دفع معين لكي تبدع, بل هي التي عملت على خلق الوضع الذي كانت تحلم به عن طريق إبداعها... أما أن نظل مكتوفي أو ممدودي الأيدي ننتظر صدقة أو هبة.. لكي نبدع فهذا لا يدل إلا على العجز المتواصل في الأعماق, العجز الذي نعلقه بخبث على مشجب الماديات الزائفة!
وننتهي غلى ما تم منه البدء, "أن نكون أو لا نكون"، "نبدع أو لا نبدع"، نؤكد للمرة الألف أن الرحيل نحو عالم المسرح هو سمو بالذات ورقي بها نحو الأعالي التي تصبح فيه المادة مجرد وسائل زائلة وليست غاية بحد ذاتها, وبذلك فالتقاعس بدعوى عدم توفر المناخ المناسب (الماديات بالدرجة الأولى) يعني الغياب والموت في مقابل الوجود والحياة, ليس أمام من يستحق فعلا كلمة مبدع مسرحي(كاتب ممثل مخرج...) إلا أن يبدع إثباتا لوجوده في ظل هذا الزخم الهائل من المتناقضات والمفارقات.
وفي الختام:
عفوا.. ليست هي نظرة مثالية للواقع بل هي واقعية من الواقع ذاته, وليست هي أيضا رؤية انقيادية بل شجاعة تستمد عنفوانها من أسئلتها الحارقة والمستفزة. إنها في البدء والختام رغبة ملحة (اعرف أنها مشاكسة وفضولية) تصبو إلى تعرية واقع الإبداع المسرحي ببلادنا, كيف هو؟! وإلى أين وصل؟!.. الجواب مكتوم ومفضوح أيضا بين ثنايا هذه الجمل المنفلتة من ذاكرة مشروخة أصابها الشقاء الفكري من فرط التأمل والنظر في واقع الممارسة المسرحية في هذه النقطة من عالم متغير باستمرار وإن كانت الكلمات أحيانا حادة جارحة جافة –جافية- فقد استمدت هذه الصفات من واقع معين يدور حول الإبداع واللا إبداع في المسرح المغربي.
نعم.. نعي جيدا كم من الحواجز والجدران السميكة التي تقام ضد الجهد الإبداعي في هذه النقطة المتغيرة من العالم الثابت أو الثالث (لا يهم).. وبالرغم من كل شيء, يبقى الإبداع الإبداع سواء كان فنيا أو فكريا فعالية إنسانية تمتلك لغة فريدة. إنها لغة التحدي، إنها لا تستكين ولا تعرف الخمول ولا تنتظر نسبة مائوية معينة (كيفما كانت) كي تشكل العالم وتخلق تصورات ورؤى جديدة.. فكفانا تمسكا بقشة تبن لن تدفع عنا الغرق... وإلى الإبداع...
همسة:
قبل الختام، نود أن نهمس في أذن القارئ المحترم –إذا سمح طبعا- نود أن نقول... هل ولى زمن الإبداع المسرحي؟!
طبعا نقصد هنا واقع الإبداع المسرحي بالمغرب لا غير.