الخميس ١٠ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

هموم الغربة

قال الشاعر:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائــد
فتفريـــج هـــم، واكتساب معيشــة وعلـم وآداب، وصحبة ماجـــــد

وقال أبو تمام :

وطـول مقـام المرء في الحي مخلق لديبــــاجتيه، فاغتـــــــرب تتـجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبـــــة على الناس أن ليست عليهم بسرمد

قبل أن أتغرب كنت أعلل نفسي بهذه الأفكار، فمللت إقامتي، وضج مضجعي، وهجرت أناسي، وبعد أن أعمى بصري بريق المادة، وجدت في نفسي عزيمة لا تقدر، فحزمت أمتعتي ولوحت للوطن: وداعا إلى غير لقاء..

وتغربت لعلني أستفيد من تجارب الآخرين، وأضيف إليها ما أستطيع، فهجرت الوطن طلبا للعلا، وسافرت كي أحقق تلك الفوائد الخمس، فرحت أفرج عما تكبلته نفسي من همـوم الوطـن ومآسيه، فلـم يزدني ذلك التفريج إلا هموما ومآسي.. ورحت أسعى لاكتساب معيشة، فوجـدتني أجري وراء السراب؛ لأن كل لقمة عيش جبلت بثلاث قطرات: قطرة من الدم، وقطرة من عرق الجبين، وقطرة ساخنة من دموع العين..

لا شك في أن طول مقام الإنسان في حيه ممل وقاتل، وفي الاغتراب تجدد وانبعاث وانطلاق ووثوب فوق الحواجز واستشراف لعالم جديد بآفاقه ورؤاه وتطلعاته وكيانه.. ولكن ليس في اغتراب هروبا من ملل المقام وهيمنة الفقر والحاجة والبحث عـن لقمة العيش بين أنياب الذئاب والوحوش الكاسرة إلى سجن الرمال تحت وطأة الهجير وطغيان كوابيس الثروة وانبلاج بريق الذهب من تحت تلك الصخور الرمادية التي يتواثب عليها عباب اليم الطاغي القادم من عالم البراقع والألغاز..

ما أجمل الشمس كل يوم تشرق صباحا وتغرب مساء! وما أجمل أن يهاجر الطير ويعود إلى أوكاره! وما أحلى أن يتغرب المرء ثم يؤوب إلى وطنه دون آلام الاغتراب ومرارة الهجران!!

آه من نار الهجرة ومن هموم الغربة، ومن تشتت الإنسان وضياعه في عالم لا يجد فيه من يستطيع أن يدخل إلى أعماقه.. ولا يجد من يتعامل معه بلغة الإحساس والضمير!

آه.. ما أصعب أن يترك الإنسان تربتـه التي نبـت فيها ونشأ وترعرع في أحضانها!! وما أشد ما يؤلم من فراق الأهل والأحبة والأصدقاء..!

بعض الناس يبكون بأجسادهم، فيهرقون الدموع، ويمزقون الثياب، وينتفون الشعور، ويتململون بالبكاء والصراخ والعويل والنحيب..

وبعض الناس يبكون بأرواحهم، فلا تسمع لهم صوتا، ولا ترى فيهم من حركة، بل يبكون في صمت روحي عميق..

وبعض الناس حرمتهم يـد الخـالق مـن مجاري الدموع في خرائط أجسادهم وجنان أرواحهم، فقد نضبت طبائعهم من كل قطرة حزن، وخلت سماء ضمائرهم مـن كل سحابة رحمة ومحبة إنسانية..

أحب الحزن الذي يهبط وحيا من السماء، فيعصر المهج، ويجري في الدم بركانا حارقا، ويسكب في الجوارح لهيبا لافحا، وفي المقل دمـوعا لا تفيض على الجسد، بل تنبجس من أعماق الروح..

وأحب الحـزن الذي يرتسم في تأملات الناسك الذي زهـد في الدنيا لا كرها بها ولا طمعا بالآخـرة، وأعشق زهد الفيلسوف الذي ينشد الحق لوجـه الحـق، والجمال لروعة الجمال، والخير لروح الخير..

وأحب الحزن الذي تنشره في الروح أنات الضمير الذي صقلته يـد الملائكة بالرحمة والإحسان والمحبة، فبات يشعر بتقصير الجوارح عما ينشده الخالق من الكون..

بعض النـاس يفهمون بالكلام، وبعض النـاس يفهمون بالإيمـاء وبعضهم يفهم بالعيون، وبعضهم بالأرواح، وبعضهم بالجيوب، وبعضهم لا يفهم أبدا..

إنني أحترم الذين يفهمون بالكلمة، وأحب الذين يفهمون بالإيماء، وأجل الذين يفهمون بالعيون، وأعظم الذين يفهمون بالأرواح، وأحتقر من يتعامل مع الآخرين بلغة الجيوب وأبغض من لا يفهم قط.. فجميلة لغة الأرواح، ومقدس بكاؤها، وعظيم زهد ذلك الناسك الفيلسوف!

بعض الناس يعيشون في غربة عن الوطن والأهل والأحبـة والأصدقاء بأجسادهم، لكنها ليست بغربة.. وبعض الناس يعيشون في غربة الروح رغـم قرب الجسد، وفي غربة الفكر رغم كثرة العقول من حوله، إن في تربة الوطن، أو في منفى الاغتراب.

و بعض الناس لا تعرف أجسادهم ولا أرواحهم طعما لغربة.. فتبا لمثل تلك الأرواح، وسحقا لمثل تلك الأجساد!

إنني أجل الذين اغتربت أفكارهم، وهاجرت أرواحهم عبر مسافات الإدراك وفي أغوار النفس؛ لأنهـا لـم تجد مسالك صالحة في حيـاة الناس التي استعمرتها المادة وحولت مجاري أنهارها الإنسانية -الروحيـة والفكـرية- إلى أنهـار ملطخة بدماء الأبرياء، ملـوثة بجراثيم الشهوات والملذات الحيوانية، مليئة بأشراك وشباك تصطاد جمال الحياة لتدفنه في بطون وحوش آدمية..

الحياة مليئة بالمعذبين، وللعذاب أصناف وألوان.. فبعض النـاس تعذبهم الحياة فترهق كواهلهم بشقاء الجسد سعيا وراء لقمة العيش، وما أهون عذابهم! وبعض الناس رضيت عنهم كف الحياة فرفعت عـن أجسادهم كل ثقل من العناء، لكنهم وقعوا فـي عذاب ما بعده عذاب؛ إنه عذاب الـروح والفكـر، عـذاب الضمير والنفس، عذاب المشاعر والأحاسيس، عذاب الوجود واللا وجود..

وبعض النـاس غفلت عنهم عين الحياة، فأراحت أجسادهم من كل عناء، ولم يستيقظ في كيانهم وأعماقهم أي لون مـن ألـوان عــذاب الروح والفكـر والضمير والنفس والمشاعر والأحاسيس والوجود واللا وجود.. فباتوا يعيشون في راحة أين منها راحة الحيوانات المدجنة في حدائق أعـدت لها غاية الإعداد، وأتقنت في براعة متناهية بكل ما تتطلبه من مأكل ومشرب ومسكن؟!

آه.. ما أشد عـذاب الـروح حين تستيقظ ولا تجـد في الدنيا روحـا تعانقـها وتشاطرها الحياة ؟! آه.. ما أعظم عذاب الفكر حين يتفتح مثل زهرة في البيداء القاحلة، فلا يجد حوله إلا الأشواك والسراب والهجير!!
آه.. ما أفجع أثر عذاب الضمير حين ينهض مـن غفوته، فيجد الجسد ملطخا برجس الحياة، مستسلما لقبضة المادة والشهوات والملذات..!!

آه ما أعظم أثر النفس في النفس حين تفتح أبوابها للسماء، فتجدها بعيدا عـن شعاع الحقيقة وأنوارها الإلهية!!
آه.. من عذاب المشاعر والأحاسيس حين توقظها نسمات الحب وتهيجها رياح الغربة، فلا تجد أمامها الـروح التي تأوي إليها، والقلب الذي تسكن إليه، فتلقي بنفسها في نيران الذكريات، فلا تزيدها إلا آلاما واحتراقا واهتياجا..

آه.. ما أتعس من يتخبط ليل نهار بين الوجود واللاوجود! فلا خلاص من الاستسلام إلى الوجـود المليء بالتناقضات وأعشاش الرتيلاء، والمنتهي إلى فراغ إثر فراغ وأودية تلو أودية تضمر في أعماقها أسرارا لا تعرف النهاية، ولا انفلات مـن قبضة اللاوجود حين ينطلق الفكر عبر مسافات اللانهاية باحثا عن مركبة تحمله إلى حدود اللاوجود، فيسقط صريعا أمام هذا التنين الذي يبتلع كل لغز وكل ما في الكـون من طلاسم.. ويعود القهقرى إلى مركبة الوجود يائسا محطم الأجنحة..!

آه.. ماذا أقول عن حبيب وجد حبيبته في لحظة القدر، فربط روحـه بروحها، وعلق فكره بفكرها، وسكب دمه في دمها، وسبك من مشاعرهما قلبا ذهبيا يبرق في أعماقه شعاع العشق الخالد الذي لا بد منته إلى السكينة والاستقرار!؟

ماذا أقـول عـن محب يحمل في جـوفه قلبا يتسع للدنيا، وروحا تهيم في الفضاء، ومشاعر رقيقة شفافة تمزقها نسمة عذبة، وفكرا يفيض إلى حـدود الكون باحثا في جبلته عن سدرة المنتهى فيما وراء اللامحدود!؟
ماذا أقول عن عاشق ولـد في أحضان عشيقته ولـم يمض على ولادتهما أيام وأسابيع؟! فتمـد الغـربة سلاسلها وتقبض عليه، وتشده دون رحمة ولا شفقة إلى عالمها القابع وراء الحدود والسدود؟!

هل يقاوم آلام قيود الغربة التي تعصر مهجته، وتخنق الدموع في عينيه، ويجابه عالما لا يعـرف للإنسان قيمـة؛ لأنـه عالـم يحترق فـي لهيب الجشع والطمع والملذات والشهوات؟!

أم هل يطـلق العنان لخياله عبر السماوات والأرضين، ويترك روحـه تسافر بلا أجنحة إلى ما وراء حدود الأفق البعيد؛ ليعانق حبيبته التي تركهـا مهيضة الجناح، ولما يروها من حبه، وتركها عطشى تحترق بلهيب الوجد والحرمان ؟!

الويل ثم الويل لليد الآثمة التي تصطاد عصفورا في الفضاء راح يغرد بين الحقول والبساتين باحثا عن حبة قمح يعود بها إلى حبيبته كل يوم ليلتحم بها روحا وجسدا في عشهما الملائكي المفعم بالسعادة والبهجة والمسرة والطمأنينة.

فالويل ..الويل للغربة الآثمة التي تختطف عاشقا وليدا مـن عش حبيبته ولما تمتلئ روحاهما بنور المحبة.. ولما يسكن الفؤاد إلى الفؤاد.. ولما ترو الجوارح الجـوارح.. ولما يثمل الجسد الجسد !!

والويل لنار الغربة التي تهيج الأرواح مدا وجزرا، وتحول آهاتها إلى دمـوع حارقة يوم الفراق ويوم اللقاء، وطوال أيام البعد والهجران !

آه.. كم يعذبني قولك يا شاعر الغرام.. يا عروة بن حزام!:

وما في الكون أشقى مــــــن محـب وإن وجد الهـــــوى حلو المذاق
تـــــراه باكيا ، أبــــــدا، حــــــزينا مخــافة فــــرقـــة أو لاشتيـــاق
فيبكي إن نأوا شــــــوقــــا إليــــهم ويبكي إن دنوا خـــوف الفــراق
فتسخن عينه عنـــــد التنـــــــــائي وتسخن عينه عنـــــد التــــلاقي

آه.. ليتني أستطيع أن أبكي بكاءك أيها الشاعر العاشق ! فتنفجر نفسي بالدموع، وبعدها تصيرإلى مستراح..!

آه.. ليت دموعي تسخن لحظة الوداع أو لحظة اللقاء وتبرد بعدها! إن دمـوع حزني خفية في أعماق روحي.. إنها حمم بركانية تحرق كياني كله.. وحزني عميق.. عميق في جذور نفسي.. ولكن يا لروعة حزني! ويا لجمال عذابي في سبيل حب أزلي!

إن عزائي الوحيد في حزني وبكائي هو أنني أحب هذا اللون من الحزن والبكاء؛ لأنني أضحي بجسدي وروحي في سبيل من أحب.

وأملي كبير.. كبير في أن من أعشق، ستقلب كل لحظة حزن وبكاء روحي في أعماقي إلى سعادة روحـية وجسدية ونفسية آسرة. وواثق مـن أن التي أعشقها وتعشقني، تملك تلك الروح الملائكية التي لابد أن تنساب إلى أغوار روحي، فتحيلها جنانا من الروعة والجمال والحب.. و تمتلك الأنامـل السحرية التي لابد من أن تتفنن في عزف أنشودة عشقي على أوتار قلبي الشفاف.. ولديها ذلك الجسد الأنثوي الذي ينتفض في سحر انتفاضة العصفور عندما تهمس النسمات إليه، وحينما يهـدهد أحلامه نور الصباح..

لا أدري إلى متى ستظل كلماتي تحرقني وتجلدني كلما زار طيفك خيالي يا حبيبتي، وكلما رأيت زهرة جميلة.. وكلما غرد طير في السماء والحدائق؟!

آه.. إن ما يعذبني هو كل شيء جميل يذكرني بجمالك الروحي والجسدي والفكري!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى