الأحد ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم رانية عقلة حداد

هواجس نسائية بأسلوب رقيق

سكر بنات أو كراميل ثيمة مرتبطة بعالم النساء الخاص، ومنذ البداية الأولى للفيلم اللبناني "سكر بنات" انتاج 2007، اخراج نادين لبكي، يتم التمهيد إلى عوالم نسائية داخلية على وشك الاكتشاف، من خلال حركة الكاميرا المتدفقة نحو مساحات الكراميل - العنصر الخاص بالنساء وحدهن- فيظهر الكراميل كما لو انه بحر يكتنفه الغموض... ويغري على الغوص فيه واكتشافه.

هالة المكان

تدور احداث فيلم "سكر بنات" في صالون نسائي اسمه سيبال، وهذا يذكر بالفيلم الفرنسي "صالون فينوس" اخراج (توني مارشيل) انتاج (1999)، الذي تدور احداثه في صالون نسائي ايضا اسمه فينوس، ويتناول الحب والعوالم الداخلية لعدة نساء بعضهن يعمل في الصالون والبعض الاخر يترددن عليه كما هو الحال في فيلم "سكر بنات"، وان كان هناك تشابه في الفكرة والقالب... الا ان كل فيلم يختلف عن الاخر باحداثه، كما ان شخصيات كل منهما تحمل خصوصية البيئة التي تعيش فيها.

الحمامات العامة أو الصالونات النسائية اماكن لها خصوصيتها فهي مقتصرة على النساء، ومرتبطة بجسد المرأة وشكلها الخارجي، لذا كانت مغرية لعدد من الافلام كي تكون مسوغا يمكن من خلاله الدخول إلى عالم النساء، من ثم التعرف على حياتهن الخاصة... فتلك الاماكن بما يكتنفها من سرية تبدو كصناديق مغلقة لا يستطيع الرجال النظر إلى ما في داخلها، وكذلك بما تحتضن من شخصيات متنوعة وغنية بعوالمها الداخلية تداعب فضول المرء وتغريه باكتشافها سواء أكانت شخصيات عاملة فيها أو ترتاد عليها.

في "سكر بنات" كما لو ان يد فضولية وضعت عدسة المكبر على هذا الصالون، فتمكنت لا من رؤية النساء بداخله وحسب انما كذلك عالم كل منهن الخاص مكبرا للحد الذي يمكنا كمشاهدين ملامسة اعماقهن، ولان لاعماقهن الاولوية لذلك لم يكن ظهور الرجال بالجسد في الفيلم مهما – باستثناء الشرطي وخطيب نسرين- فهم حاضرون بشكل أو باخر، فكل الاشياء توحي وتذكر بوجودهم وبانهم السبب الذي يقف خلفها.

في انتظار الحب

"سكر بنات" يقدم ست شخصيات نسائية منها؛ روز (سهام حداد) وليلي (عزيزة سمعان) اختان تجاوزتا الستين من العمر، كل منهما في انتظار الحب على طريقتها، وعندما يأتي الحب ولو متأخرا كما حدث مع روز الخياطة حين احضر رجل كهل بدلته لتجري عليها تعديلات، تشرق للحظات عندما يدعوها للقاء وتتذكر جسدها المنسي تنفض عنه الغبار فتصبغ شعرها وتضع الزينة لكن في اللحظة الاخيرة الموروث المختزن في لا شعورها يمنعها من الذهاب إلى الموعد، فتنطفئ من جديد وتزيل مكياجها بمزيج الدموع.

أما ليلي... فهي كما لو انها امرأة هاربة من احدى اغنيات فيروز، وان بدت امرأة خرفة انما هي كما تغني فيروز" عندها حنين ما بتعرف لمين"... واذا كانت امرأة فيروز (صارلها شي ميت سنة عم تكتب مكاتيب مش معروفة لمين وبتوديلن اخبار)، فإن ليلي في انتظار مكاتيب مش معروفة من مين، فدأبها ان تجمع اوراق من الشارع في كيس كل يوم على انها رسائل من حبيبها الذي طال انتظاره، وهذه من الصور الجميلة عن ثنائية الحب والانتظار.

زمن هارب... رغبات مكبوتة

ليال (نادين لبكي)، نسرين (ياسمين المصري)، ريما (جوانا مكرزل)، وجمال (جيزال عواد)، اربع نساء تعملن في الصالون النسائي، جمال تحاول القبض على الزمن الهارب بعد ان تجاوزت سن الخصوبة، رغم ان لديها ولدين من طليقها، لكنها تحاول بشتى الطرق ان تظهر لمن حولها انها لازالت صغيرة، فتحرص على ان لا تدع للزمن فرصة ان يترك على وجهها ما يدل هلى انه كان هنا ومضى من خلال زينتها ولباسها ومكياجها، كما ان زجاجة الصبغة الحمراء التي تحملها في الحقيبة، احدى اهم ادواتها للتحايل على الزمن، فبضع نقاط منه على تنورتها من الخلف، أو على الورق الخاص بالحمام كفيل بان يوهم الاخرين انها انها لا زالت في سن الخصوبة... انها لا زالت صغيرة.

ليال ونسرين وريما صبايا في اعمار متقاربة، كل منهن تحمل في داخلها رغبة ... معاناة وهاجس ما، ريما لديها ميول جنسية مثلية، ليال تحب رجل متزوج سرا، نسرين تواجه مشكلة اخفاء فقدان العذرية على خطيبها المحافظ قبيل الزواج، فتلجأ إلى التحايل والكذب ايضا على خطيبها ومن خلفه المجتمع الذي يدين الفتاة غير البكر ... فتقرر ان تجري عملية لاعادة الغشاء.

"سكر بنات" من تلك الافلام التي لا تختار الغوص عميقا في اسباب مشاكل المرأة، أو التحفيز على التغيير، انما تعرض بهدوء الواقع؛ هموم وهواجس النساء المتباينة دون ان اتخاذ موقف اخلاقي واضح معها أو ضدها، لكن بالتلميح من خلال التهكم الذي يلقي بظلاله في بعض المشاهد والمواقف؛ كاسم عنتر الذي يحمله الرجل خطيب نسرين المناقض لحاله وهو مضروب في قسم الشرطة، أو عندما تقترح جمال على نسرين ان تستخدم دم الزغلول ليلة الدخلة لتغطي عدم العذرية، والحديث الذي يدور بينهن عند مرافقة نسرين في عملية الرتق...

وان كان "سكر بنات" لا يقدم شيئا جديدا شكلا ومضمونا عن المرأة العربية واقعها، قمعها، ورغباتها المكبوتة... لا يقدمها من منظار ورؤية جديدة لكن تميز الفيلم يكمن في قول ما قد قيل سابقا باسلوب رقيق وعذب وجذاب، كان لتوظيف لون الصورة الدافئ، والموسيقى في ايقاعها الهادئ التأملي، دورا كبيرا في النجاح بتقريب المشاهد من العالم الداخلي الخاص بكل شخصية، وكأن بلون الصورة الدافئ يقدم اعماقهن العذبة وقلوبهن الدافئة العامرة بالحب المؤجل، واما الموسيقى الوترية كأنها تعزف اوتار ارواحهن، ولا يقل الاداء المتميز والعفوي لجميع الممثلات اهمية عن هذه العناصر، رغم عدم الخبرة السابقة في التمثيل – باستثناء نادين لبكي- وكذلك الاهتمام بتفاصيل بعض الشخصيات، وايقاع المونتاج الهادئ، والصور التي فيها من الايحاء اكثر من البوح الصريح، وجميع هذا الذي - يؤشر إلى تمكن المخرجة من ادواتها- جعل للفيلم جاذبيته وحضوره الجماهيري ليس عربيا وحسب وانما عالميا ايضا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى