الأحد ٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم محمد عليان

وأخيرا وجدت ضالتي

(من وحي «وراء الابواب المنسية» للشاعر المتوكل طه)

صديقي المتوكل

هي لحظات قصيرة، عدت فيها إلى الماضي البعيد القريب، ليس طوعا إنما رغما عني، حملتني صفحات كتابك بقصصها وخواطرها ورسوماتها وألقت بي في الرملة لتنقلني بعد ذلك إلى كفار يونا وبئر السبع ونفحة وعسقلان، ويا لدهشتي، اكتشفت أنني لا زلت أعيش تلك الأيام، لم أتحرر من أسرها رغم مرور عقدين من الزمن على الإفراج عني. في سجن الرملة التقيت المحقق الذي يأبى الاعتراف بإنسانيته وفي عسقلان تفيأت ظلال الشجرة اليتيمة الوحيدة التي يرعاها الأسرى بالماء وان لم يتوفر فبالدموع، وفي نفحة، يا للهول، ارتجفت أوصالي من عقارب وعناكب الصحراء وفي بئر السبع يا صديقي ألقيت برأسي على الوسادة وسمعت أهات وانين العشرات من الذين عاشوا ظلما تجربة " باسم الثورة خش الدورة "
وفي هذه الصفحات، لا بل اللحظات التي عدت فيها إلى الماضي، جعلت مني إنسانا بعد أن كنت سوبرمانا لا يعرف إلا القوة والصمود والشجاعة لا يبكي ولا يحزن فهو البطل الأنموذج ولا يجوز إن يكون غير ذلك وإلا تحطمت صورته أمام الآخر الذي يعمل على كسر عزيمته وتحطيم عوامل صموده، نعم يا صديقي، في هذه اللحظات جعلت مني إنسانا قد يبكي، يتوجع ويتأوه، يحزن ويفرح، يحب ويعشق ويحلم بحبيبته ويحن لامه ويغني شوقا لابنته ويخاف من عقرب الصحراء ويرتجف من هراوة السجان وينكمش في برشه تحسبا لغدر السجناء المدنيين والعصافير وقد يدفن رأسه تحت البطانية النتنة ليبكي ويذرف الدموع الحبيسة.

سنوات طويلة عشتها هناك، ولكن يا صديقي، لم أكن أجرؤ على البكاء وحرمت خلال عشرة سنوات من أن أقول " أخ " . وضعوا الأنبوب في مؤخرتي ثم في فمي ثم في انفي ليسكبوا دلوا من الملح في معدتي ولم اصرخ ألما. جلدوني بالسياط وانهالوا على بالعصي والهراوي وأمطروني باللكمات والركلات ولم اطلب الرحمة أو حتى لم انحن أو اسقط. والآن فقط يا صديقي وبعد أن قرأت ما وراء الأبواب المنسية وتعمقت في خبايا النفس البشرية، اكتشفت أنني لم افعل ذلك لأنني بطل ولم احبس دموعي لأنني شجاع ولم اكتم آهاتي لأنني صبور، بل لأنني أخشى من اتهامي لنفسي بالجبن ولأنني كنت اعتقد أن البطل لا يتوجع ولا يبكي وقد صنعوا مني بطلا فكيف لي أن اخذلهم وأحطم صورتي أمامهم. وأنا لست أنا، أنا أنت وهو وكل الأسرى الذين امضوا ربيع عمرهم وراء القضبان ولا زالوا يعيشون واقعا لا نعرف منه، بل لا يصلنا منه ، إلا كل ما يدل على الصمود والبطولة والشجاعة ولم نحاول أن نتعمق قليلا في معرفة هذا الواقع لنعرف أي اثر تتركه نبتة الشمام في نفوس المحرومين من اللون الأخضر وأي دمعة حرى تنهمر من عين أسير سمع للتو نبأ وفاة عزيز لديه وأي حنين يتملك أسير يتذكر زوجته أو حبيبته. مشاعر دفينة تتحكم فينا دون أن ندري وحبسها هناك وراء الأبواب المنسية يزيدنا ألما وقهرا ويعمق بؤسنا ويقتل أحلامنا . شكرا لك يا صديقي لقد حررتنا من مفهوم البطل السوبرمان واعدتنا إلى إنسانيتنا، وربما لو قرأت كتابك وأنا هناك لكنت أكثر شجاعة وبطولة لا بأس متأخر جدا أفضل من أن لا يكون أبدا، وها أنا أجد في كتابك ضالتي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى