الأحد ٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم عمر يوسف سليمان

واقع الشاعر:إشكالية التأقلمِ وتهشيمُ الإبداع

ربما كانت الموهبةُ التي يتمتعُ بها أيُّ مبدعٍ،فنانٌ أو أديب، عاملاً يتميَّزُ بها عن غيره من حيثُ رؤيةُ ما وراءَ الأشياء،ومعرفةُ ما ينطويْ بينَ التفاصيل الصغيرة من أرواحٍ ساكنةٍ لا يدركها الجميع...

ولكن هذا التميز له آثاره وثمنه الباهظ الذي يدفعه الأديب نتيجةَ ما يلاقيهِ من ألمٍ وصعوبةٍ في التأقلمِ مع البيئةِ التي يعيشُ فيها،فهو غير (طبيعي) والبيئة طبيعية وأصحابها سربٌ هو خارجهم...أو البيئة غير طبيعية وهو (طبيعي)...إذا ماتحدثنا بلغةٍ شعرية...

الجانب الإيجابيُّ من تأثير البيئة الصعبة:

وأعني به الجانب الذي يعكس تأثيرَ الواقعِ المر والبيئة السلبيةِ،إلى واقعٍ وبيئةٍ ينعكسانِ إيجاباً على نفسيةِ الشاعرِ،وهذا لا يكونُ إلا عند العباقرة،الذين يستطيعون تحويلَ قهر التيارِ المعاكسِ لطبيعتهم،وعلى الواقعِ الشائك في طريقهم،إلى طاقةٍ فعالةٍ تتوهجُ في غمار نفوسهم لتنتجَ الإبداعَ وتقهر الظروف.

ونأخذ مثالاً على ذلك المتنبي،شاعر العربية العملاق،فالدارس لحياتهِ ومراحلِ نشوئهِ، وذلك من خلال ماأنتجهُ من الشعرِ يلحظُ حجم الألمِ الذي واجهه في حياته،كما يلحظُ كميةَ المرارةِ التي تجرعها،والتي هضمها في ثنايا عبقريته لتتحول إلى إبداعٍ شعريٍ حافظَ من خلالهِ على البقاءِ عبر العصور.

فبالرغمِ من نشأة المتنبي في بيئةٍ صحراويةٍ صعبة،ومعاشرتهِ لبداةِ العرب وجلفائهم –وكان هذا سبباً في نزعتهِ القومية وتعصبه العربي فيما بعد-نجد أن في ثنايا هذه الصلابةِ وتلك القساوة التي أحاطت المتنبي منذ صغره،نجد نفساً حساسةً وشعوراً مرهفاً لا يلبثُ أن يتلاشى عن اصطدامه بالبيئةِ الصعبة.

فُؤادٌ ما تُسَلّيهِ المُدامُ

وَعُمرٌ مِثلُ ما تَهَبُ اللِئامُ

وَدَهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ

وَإِن كانَت لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ

وَما أَنا مِنهُمُ بِالعَيشِ فيهِم

وَلَكِن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَغامُ

كما أنَّ الواقعَ العصيبَ بزغَ في شعرِ المتنبي بحركةٍ عصبيةٍ شديدةٍ واستنكارٍ كبيرٍ،وهذا ما دفعَ بعضَ النقادِ إلى استنكارِ تلك المغالاةِ في ازدراء الناس واحتقارهم والتي وجدوها عند المتنبي،الشاعر الفذ،وصاحب الشخصية المدهشة،"1"!!...

بيد أننا لو أمعنا النظر والتحليلَ في شعره لوجدنا أن السبب غير المباشر في ذلك السلوك غير المحبب كان نفساً رقيقةً وصادقة،وشعوراً إيجابياً مقبلاً على الحياة،ولكنه سرعان ما يصطدمُ بواقعٍ يخالفُ كل ما يعتقد من الأخلاقِ والقيم والمبادئ،ولأن المتنبي كما قلنا سابقاً كان صاحبَ فتوةٍ واعتزازٍ فقد كانت ردةُ فعلهِ قاسيةً وشديدة.

ونجدُ كالمتنبي الكثير من الشعراء في مختلفِ العصور،من أمثالِ امرئ القيس وعنترة بن شداد وأبي فراس الحمداني وغيرهم من الذين كانوا يبحثونَ عن مجدٍ يكمِّلُ شخصياتهم المصطدمةِ مع الواقعِ الذي لم يتأقلموا معه...وقد لا يكونُ هذا البحثُ عن طريقِ الشعر،بل عن طريق السياسة والملك والسلطان،كما عند المتنبي وأبي فراس.

الجانب السلبي والمواهب الناشئة:

أما المواهب الناشئة فهي الأكثر تضرراً من هذا الواقع المر الذي يقحم الإبداعَ والموهبة الفذة في دوامةِ الجفاءِ والألمِ وتهشيمِ الإبداعْ،ذلكَ أن الموهبةَ التي ماتزالُ في طورِ النمو تنقص صاحبها المعرفةَ والثقافةَ اللذانِ يزودانهِ بالخبرة التي تنمو مع التقدم بالعمر،وهذا كلهُ يساهمُ في خلقِ سورٍ حصينٍ يحمي الموهبةَ ويحفظها لتخرجَ فيما بعدُ كما يريدُ هو من عالم خياله البعيد.

وبمناسبة الحديثِ عن ذلكَ السورِ الذي يسهمُ المبدع في خلقهِ والذي تعلِّمهُ تجربةُ المواجهةِ العصيبةِ ،أو يقومُ تلقائيَّاً نتيجة الظروفِ المؤلمة،أذكر أن هذا السورَ يبدأ بعزلِ المبدِعِ عن محطيه،ويزدادُ مع ازديادِ التجربة بل مع ازديادِ الإنتاجِ الأدبي،ليعزلَ الأديب ويشعره بالفارق بين نفسيته المرهفة الإحساس والواقعِ الذي يحيطُ بها،مما يولد عنده شعورٌ بالألم والوحدة واتساعِ مساحةِ الغربة النفسية،فينكمشُ عن العالمِ تدريجيَّاً،ويشعُرُ أنَّ الحفاظَ على هذا السورِ هو من مستلزماتِ الحفاظِ على إبداعهِ وسنيِّ عمره التي ترتفع قيمتها مع ازديادِ معرفته بأهميته الإبداعية.

وهكذا تكون الموهبة الناشئة هي الأحق بالحفاظ والرعاية،فهي إما تُكملُ مرحلة النشوء بامتلاك الشاعر لأدواتهِ وازدياد ثقتهِ بنفسه مع ازديادِ خبرتهِ بالحياة،وهذا يحوِّلُ التأثير السلبي للواقع المرير الذي يحيطُ به إلى تأثيرٍ إيجابي وربما يحولهُ إلى مولدٍ رائعٍ لإبداعِ الأديب كما أسلفتُ عند المتنبي.
وإما أن تختنق الموهبةُ في طورِ النشوء،فما إن تتجاوز مرحلة البزوغِ حتى تخطفَ البيئة المحيطةُ نورها وتخمدَ بهاءها،وتسطو مشاغلُ الحياة ومصاعبُها أو الضغوط النفسية على بريقها المتقد،حتى إن صاحبها لا يعنيه الالتفاتُ إلى هذه الموهبةِ فيما بعدُ بسبب ما أحدثته البيئةُ من (توجيه) لنفسيتهِ باتجاهِ السعي والكد لتأمين أولويات العيشِ والمحافظةِ على البقاء.

"1":انظر كتاب "تاريخ الأدب العربي" ،حنا الفاخوري،المطبعة البولسية،الصفحات:606 ،607،608.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى