وجه في مرآة
استفاق من شروده ذاهلا. و طفق يحملق في المكان الذي ساقته إليه قدماه في نومة منه بدأت تتكرر معه كثيرا هذه الأيام. و كأنها بداية أفول رجاحة عقله الذي كان مفخرته الوحيدة.
محطة القطار على غير عادتها خالية أو تكاد تكون إلا من بعض المتسكعين من أمثاله الذين جعلوا يطوفون بالمكان بحثا عن فريسة. و الفريسة قد تتحول إلى مفترس ،إلى قوة قاتلة مدمرة قد تأتي على كل جيوبه. و الفرائس تلك الليلة كانت واحدة استسلمت إلى ركن قصي داخل المحطة شبه الخالية،و جعلت تخطر في وجوه المطاردين لها. و كانوا أربعة ، كأنها تختار فريستها هي أيضا.
ما أن رأته حتى هبت من مكانها تقصده في خطوات واسعة. ارتمت بوجهها على وجهه و هي تقول بصوت مسموع:
– تأخرت كثيرا.
قال بذهول و بقايا عطرها المدوّخ تستقر في خياشمه:
– لا بأس.
و لم تمهله وقتا و لا منحته فرصة ليتفحص وجهها و يتأكد إن كان يعرفها فعلا ، إذ جرته من يده، و اندفع خلفها مستسلما ليدها التي تسحبه تحت مطارق العيون الناقمة عليه و التي انتقلت منها إليه كحالها كلما ظفر أحدهم بإحداهن. هم يعرفونه جيدا. يجيء إلى محطة القطار . يقف في ركنها القصي ، تماما بين بابها و شباك تذاكرها.
أكان ينتظرها كل تلك المدة؟
لطالما غنم أصحاب العيون المتقدة الحاقدة في ليال كثيرة لكنهم اليوم سيغادرون خاسرين خائبين. بينما لأول مرة يغادر هو رفقة جميلة فاتنة، و الوحيدة المتوفرة في تلك الليلة على غير عادة المحطة المعطاء. كأنه كوفئ على صبره. لم بسمعوه من قبل يقول كلمة ،أو يغمز بإشارة لواحدة، أو حتى يطوف بمكان تواجدت فيه فريسة. كل ما كان يفعله. وقوف في برزخه بين الباب و الشباك و ينتظر. و عند موعد إقفال المحطة يطأطئ رأسه منسحبا.
أكان ينتظرها كل ذلك الوقت؟
و لماذا كان يقف كل ليلة بين الباب و شباك التذاكر؟
ثم لماذا لم يكن ينظر إلا لهما؟
منذ التقيا و تبادلا تلك الكلمة لم يقولا شيئا، إنما مشيا صامتين بخطوات أخذت تتباطؤ كلما ابتعدا عن المحطة. كانت ممسكة ذراعه كأنها متعودة على فعل ذلك منذ زمن. و عندما صعدا تلك العمارة التي كانت سباقة إلى مدخلها. بدت كأنها تعرف شقته حتى إذا دخلاها أبدت ألفتها مع المكان إذ توجهت إلى المطبخ دون أن تسأله عن موقعه ، كأنها تعرفه معرفة جيدة ، كما تعرف أين يضع القهوة و السكر. و تركته فاغر العينين. راكنا إلى صالونه معقود اللسان. كأنه ضيف في شقته. و لكنها شقته و هذه المرأة تزيد في إحساس غربته و ربكته و وحدته.
يخفي نظراته في فنجان القهوة الذي يحتسي منه متحاشيا نظراتها التي تعاود اكتشاف تضاريس وجهه.
– لم تتغير كثيرا حسن.
كاد يشرق بغصة في حلقه. كيف عرفت إسمه و هو متأكد أنه لا يعرفها ولم يقابلها يوما؟ لم يعرف امرأة غير أمه حتى علاقته بها على قدمها لم تترك له ذكرى طيبة .
كان يود أن يقول لها و أنت تغيرت كثيرا عني حد أني لا أعرفك يا... لكنه عاد فقال:
– كأنك كنت تنتظرين شيئا أو أحدا في المحطة.
غمزت له بعينها و قالت دون تفكير:
– كنت أنتظرك
لازالت الأسئلة تهذر في رأسه. من تكون هذه التي اقتحمت عليه حياته؟
المحطة التي قالت أنها كانت تنتظره داخلها و التي أدمن على الذهاب إليها كل ليلة في مثل ذلك الوقت ، كانت فضاء نزاعه مع نفسه و حيرته المستمرة.
أيظل في تلك المدينة التي أقرفته بمن و بما ضمت أم يقصد شباك التذاكر و يصعد أول قطار و ليأخذه في وجهته؟ أتكون هي قطاره ؟ ترى أين تقوده ؟
قصدت المرحاض بخطوات ثابتة كأنها تعرف مكانه و خلته إلى نفسه و أسئلته الخرساء التي لا تجود إلا بأسئلة أخرى، فأخرى، ثم أخرى.
لابد أن يعرف من تكون؟
التفت حوله فإذا يده تمتد بحركة آلية مسرعة إلى حقيبة يدها. متاعها الوحيد و عيناه إلى مدخل الصالون.لاشيء داخلها قد يجيب على فضوله. هاتف نقال و مذكرة صغيرة فتحها فألفى دهشا صورة حديثة له و أخرى بالأبيض
و الأسود عندما كان صغيرا. تساءل:
– صورتان لي. كيف حصلت عليهما؟
و نزعت به نظراته المتوثبة إلى أرقام الصفحة الأولى من مذكرتها فإذا هي ملآى بأرقام. شُد ّ للرقم الأول. ثم عاد للتساؤل:
– من أين أتت برقمي الجديد الذي حصلت عليه هذا الأسبوع فقط؟
الرقم الثاني في الصفحة الأولى المقابلة للصورتين كان رقمه الأول الذي غيره عندما أخذ أحدهم يتسلى به ما بعد منتصف الليل. و تساءل مرة أخرى:
– أيعقل أنها تعرف الآخر أيضا لتدونه تحت الجديد ؟
كالصورتين تماماـ فكرـ و أرقام أخرى هرعت إليها حدقتاه. الرقم الثالث طبعا كان تاريخ مولده. غير معقول
أحس حركة منها فأعاد الأغراض إلى حقيبتها بسرعة. و تظاهر صادقا بالسهوم:
– ماذا كنت تفعلين في المحطة؟
– قلت لك كنت أنتظرك.
– هراء كيف عرفت أني سأذهب إلى هناك؟
– لأنك تقصدها كل ليلة مذ كنت صغيرا
– و لماذا الليلة؟
– أنت تعرف لماذا؟
– لا.لا أعرف شيئا.
– لا تكذب خشيت أن تسافر و تتركني وحيدة في هذه المدينة الموحشة ليس لي إلا أنت و لا تملك غيري. لقد كنت عازما الليلة على السفر. أليس كذلك؟
– كيف عرفت؟
– لا يهم.
– بل يهمني.
– يبدو أني أخطأت عندما حاولت أن أبقيك في المدينة.إرحل إن أردت.
– أيهمك أمري؟
– طبعا.
– لكني لا اذكر أني رأيتك و لا عرفتك قبل اليوم.
– ماذا تقول؟ لاتعرفني حسن. أفقدت عقلك مع ذاكرتك؟
– إرحميني من هذا العذاب و قولي من تكونين ؟
– يبدو لي أني أخطأت كما قلت لك.
و انتفضت من مكانه ابعصبية و قصدت باب الشقة و الغضب ممسك بتلابيبها دون أن تزيد كلمة أخرى و إنما حملت نظراتها ضيقا و حرجا و كثيرا من الأسى و الأسف و خلّته إلى وحدته و حيرته.
انتبه بعدما خرجت أنها نسيت حقيبة يدها و أخذ يبحث داخلها بهدوء هذه المرة. لا شيء جديد.أعاد فتح المذكرة الصغيرة . اتسعت عيناه دهشة و هو يكتشفها فارغة كأنها جديدة:
– أين ذهبت الصورتان؟ و الأرقام؟ أأخذت كل شيء معها؟ لكني لم أرها تفعل ذلك. أخذت أجوبة كانت ستغنيه عن الحيرة و تركت له حقيبة يد صغيرة. ضمت مذكرة خالية تماما و هاتفا نقالا. و لا شيء آخر. لا، لاحت له مرآة يكتشف وجودها لأول مرة، كأنها لم تكن هناك في المرة الأولى. جعل يتفحصها، تطلع فيها و عيناه تزدادن اتساعا دهشة و استغرابا. المرأة تركت وجهها في المرآة. وجه جعل يرقبه بدهشة كأنه فوجئ بفضول غريب أخذ يتطلع إليه. ألقى المرآة جانبا بيأس وهو يتساءل دون أمل في رد هذه المرة:
– ترى أين ذهب وجهي؟
سلا في..26/فبراير 2005