الأربعاء ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠١٩
بقلم محمد متبولي

وداع مع الشمس

كلما كنت أدخل الغرفة كنت أتعمد ألا أنظر لأعلى، مكتفيا بالنظر إليها وهى مغمضة عينيها محاطة بعشرات الأجهزة التى لا أعرف ماذا تفعل، وبين الحين والآخر أرقب الشاشات محاولا قراءة تلك الأرقام والرسومات البيانية والرموز لعلى أفهم منها شيئا ما، لكن فى النهاية كنت أسأل الطبيب فيرد على مبتسما (كل شئ على ما يرام)، ولكننى كنت أعرف أنها مجرد كلمات، فقد توقفت عن المناداة عليها منذ أن رأيته بالغرفة للمرة الأولى، فأنا لا أعرف طبيعة الرحلة القادمة، وكيف تستعد لها، فلعله أخبرها ولم يخبرنى، لذا فهى تغمض عينيها.

فكلما نظرت لأعلى كنت أرى ملك الموت واقفا على جهاز التنفس الصناعى، ينظر إلى وكأنه يريد أن يبلغنى أنه مأمور، وأن لحظة نفاذ الأمر لم تتحدد بعد، لا أعرف لماذا أختارنى أنا من بين كل الموجودين ليخبرنى بوجوده، كنت أحاول أن أقنع نفسى بأنه جاء لشخص آخر بالغرفة غيرها، لكنه لم يكن يتحرك أبدا من فوق رأسها.

فتحت عينيها فجأة، أمسكت يدها فأطبقت على يدى، بينما نزل هو من أعلى وأمسك بيدها الأخرى، نظرت إليه بحدة مطالبا إياه بالابتعاد عنها، لكنها حدثتنى قائلة:

 هى بنا

فقلت لها

 إلى أين يا جدتى

قالت

 سنصعد إلى أعلى، حتى نلقى السن فى عين الشمس

فوجدت نفسى قد عدت طفلا صغيرا، وهى تجذبنى برفق من يدى حاملة فى يدها أحد أسنانى اللبنية التى سقطت حديثا، وتصعد معى متثاقلة على نفسها درجات سلم المنزل القديم حتى وصلنا إلى السطح، كان وقت الظهيرة موعد لقاءنا اليومى مع الشمس فأخذت تغنى لها وأنا معها، أن تأخذ السن القديمة وتأتى بسن جديدة قوية مكانها، فأفلتت يدى لتلقى السن فى عين الشمس، فأمسك هو حينها بيدها الأخرى، وصعدا سويا لأعلى.

شعرت بالفزع، حاولت أن أستوقفهما دون جدوى، فنظرت إلى مبتسمة ملوحة إلى بيديها وهى تصعد معه، فلوحت لها مبتسما بيداى قائلا:

 إلى لقاء قريب

فردت وقد ملئت البسمة وجهها للمرة الأولى منذ زمن بعيد

 إلى لقاء قريب يا ولدى

حينها توقفت الأجهزة عن العمل، وخرجت مسرعا من الغرفة، متجنبا الحديث مع أى شخص كان، حتى أحتفظ بصورة إبتسامتها الأخيرة فى ذهنى أطول وقت ممكن.
تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى