الأحد ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم شاكر فريد حسن

وقفة مع ديوان «أنا الجاني» للشــاعر شفيــق حبيــب

"أنا الجاني " هو عنوان الديوان الشعريّ الأخير للشاعر شفيق حبيب والذي أهدانيه مشكورا ً، وشفيق ليس بالاسم الجديد المطروح وإنما هو من الوجوه الأدبية الفلسطينية المخضرمة والمثابرة الملتصقة بالأرض والتراب وبصخور وحجارة الوطن، عانى من التعتيم ولم يُسوَّق إعلاميا ً ردحا ً من الزمن وتعرّض للاعتقال والتعذيب والإقامة الجبرية بسبب ديوانه "العودةُ إلى الآتي " الذي يتغنى بالانتفاضة وبشهداء الحجارة، وكان قد صدر له سابقا ً ثلاثة عشر ديوانا شعريا وهي– قناديل وغربان – مأساة القرن الضـِّلــّيل – دروب ملتهبة – وطن وعبير – أنادي أيها المنفى – أحزان المراكب الهائمة – الدم والميلاد – ألعودة إلى الآتي – ليكونَ لكم فيَّ سلام – آه ِ يا أسوار عكـــا !! – تعاويذ من خزف – لماذا ..؟؟ - وصارخ في البرَِّيـَّة ".
رُؤى ديوان " أنا الجاني " ومضامينـُه موزّعة ٌ ومنوعة ٌ بين الوطنيّ والمناسباتيّ والدّفق ِ الوجدانيِّ الإنسانيّ، وهي تـُصوِّر الحالة َ العربية َ الراهنة والوضعَ الفلسطينيّ العامّ والهمومَ الوطنية َ والقومية َ وأحلامَ شعبنا في الحرية والاستقلال الوطنيّ وتعبِّر عن إحساسه الفاجع بالحياة ومشاعر الألم والإحباط والمرارة وخيبة الأمل التي يعيشها جرّاء ما آلت إليه الأوضاع ُ العربية من ترد ٍّ وتخاذل ٍ وهزيمة ٍ وخنوع، فيصرخ في وجوه القادة والحكام العرب المتخاذلين والمتواطئين قائلا :

يا قادة َ القطعان ِ!! ما أنتم ســوى
قِطـَع ٍ على قِطـَع ٍ من الأخشاب ِ
أضحى كيـان ُ عروبتي وعقيدتـي
تمثالَ شمع ٍ في اللهيب مُــــذاب ِ
يتكلمُ الحجــرُ الجريحُ منافحــــــا ً
وملأتمو أفواهـَــكم بتـُــــــــراب ِ
صمتَ الـزُّنـاة ُ فأرضُنا محروقـة ٌ
والنــــارُ تأكلُ أحـــرُفي وكتابي

ويعرّي الفسادَ والنفاقَ والرياءَ المتفشي في المجتمع العربي، ويكتب بالجمر الحارق عن الجرح الفلسطينيّ الدامي والقدس المتألمة وعن الذلّ والهوان ووعي الأمـّة العربية المفقود:

لم يبقَ في حاضري شيءٌ أقدّسُه ُ
أضحيت ُ بين الورى عنوانَ إجرام ِ
الذلُّ في الشرق ِ موروثٌ نتيه به
ســــائلْ فلـــــولَ قيادات ٍ وحُكّــــام ِ
يا أمّة ً نشرتْ يوما ً حضـــارتها
مالي أراكِ بإظـْـلام ٍ ... وإعتـــــام ِ
مالي أرى شمسَكِ الغــرّاءَ غاربة ً
كيف المصيرُ إذا ما انهار َ أقوامي؟

ويبكي بغدادَ العزّ والمجدِ والتاريخ وشعلة َ العلم وبصرة َ النـّور وكربلاءَ الطـُّهر ونجفَ الأشراف ويتساءل بحرقة وألم:

يا دجـلـــة َ الخير ! ماذا حــــلّ وا لهفي
عاث التتارُ دمارا ً حيثما انتشروا
أرضُ الحضارات ناءَت تحـت مغتصِبٍ
ما من مُجير ٍ ونارُ الحقدِ تستعر ُ
عادت جحافلُ هولاكـــو تـُمزقهــــــــــــا
لا خيـرَ في أمّــةٍ تذوي وتنكســر ُ

ويحكي عن أطفال فلسطين، زنابق ِ القبور ِ وينابيع ِ المستقبل، ويسألُ عن صَمْت ِالشعراء في هذا الزمن الرديء الذي تـُداس فيه الكراماتُ وتـُضرب الهاماتُ وتـُصادر الحرِّيات، ويخاطِب المسيح ابنَ الإنسان ورسولَ السلام ومبعثَ إشراقةِ النـّور ِ في عصور الظلام ويستغيثُ به ليُخلـِّصَ شعبه وأمـّــته من القهر والظلم والمعاناة النفسية والجوع الكافــــر...

أيها الماردُ القـويُّ أجـِرْنـــــا
نحن في خندقِ ٍ ظلوم ٍ المقــــام ِ
أنت نور الدُّجى إذا جنَّ ليـــلٌ
أنت حــقٌّ يُبيــدُ نــارَ الخِصـــــام ِ
أنت نورُ الحياةِ في كلِّ عصر ٍ
أنتَ بــدْءٌ وأنت مِسْـــكُ الخِتـــام ِ

ويذرف الدموع َ على فيصل الحسيني الفارس ِ الذي رحلَ بشموخ وإبــاء وعانق أمجادَ القِنـَن وعاش مسكونا ً بعشق الأرض والتاريخ والقدس وعاد محمولا في كفــن ويحزن لرحيل توفيق العفيفي ( أبو أحمد ) السابح في طيفه بين الأحبـّة كالنسائم فوق كل الأمكنة، ويتألم لموت وغياب الشاعر شكيب جهشان، شاعر ِ مجدِ الحرف الذي كتب بحروف من دم ملحمة َ شعبــِه الذي يحرقه لهبُ النيران ويُدميه العدوان ، ويشدو لملائكيّة الصوت الملائكي الساحر والأخـّاذ فيروز التي تـُسكرنا وتـُشجينا بأنغامِها وألحانِها وبوشوشات نجوم الليل، ويبعثُ برسالة حبٍّ وودّ للأمهات في عيدهن السعيد في آذار...

وتمتاز قصائدُ الديوان بالتنوع في بنائية النـَّص وبالوضوح والبساطة والسلاسة ووهج المشاعر والانفعالات والدفء الإنساني الحميمي والعفوية الجميلة، وفيها حِــدَّة ٌ وانفعالٌ وتوتـّرٌ ورونقٌ وجمالية ٌ وقدرة تعبيرية ٌ تمسّ أعمق المشاعر وتتجلى من خلالها العاطفة ُ الوطنية ُ المشبوبة ُالملتهبة ُوالصادقة ُ وفيضُ المعاني والصور الجذابة والخلابة وبلغة أحلى من تمــر أريــحا وبيسان كما أنها تزخر بالدلالات والإشارات والتوصيفات والتشبيهات والمفردات الحية والتعابير الشفافة التي تواكبُ ركبَ الحداثة والتطوّر ، بالإضافة إلى توظيف الرموز والأسماء التاريخية.

شفيق حبيب الشاعر المتألم والغاضب، غنيُّ الإحساس ويخوضُ غمارَ المعركة لتحرُّر الإنسان العربي من أحكام المجتمع وتقاليدِه ومن قيود ِ الظلم والخنوع ويمثل الحسَّ الوجدانيَّ الفلسطينيَّ، وقصائدُه تصل إلى قلوب الناس بدون وسائط َ نقديةٍ ونستشفٌّ فيها الحزنَ والشجنَ والأنينَ والمرارة َ والتحدّي والغضب، وهو صادقٌ إلى ابعد الحدود ويكتبُ بسلاسة ٍ وتلقائية ٍ وبساطة ٍ وصدق ٍ متدفق، ومعانيه معبـِّرة ٌ وجُمَلـُهُ مـُمـَوْسَقة وأبياتـُه موزونة، والقضايا الوطنية ُ والقومية ُ والسياسية ُ المختلفة، هي شاغلـُهُ الشاغل وتطغى على قصائده...

وأخيرا يبقى القول : إن ديوان " أنا الجاني " إضافة ٌ جديدة ٌ لشعرنا الفلسطينيّ الوطنيّ والسياسيّ والاحتجاجيّ وهو ومضات ٌشعرية ٌ تنمُّ عن موهبةِ الشاعر وسيطرتِه على مجريات نصِّه ، وإننا نرحِّبُ بالديوان ونتمنى للشاعر شفيق حبيب دوامَ العطاءِ والإنجاز ِ الإبداعيّ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى