الاثنين ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم ياسر سليمة

ولادة جديدة

غادر (رضا) المسجد ومواعظ الشيخ الوقور تقرع قلبه.. إنها مواعظ تستلين القلوب القاسية، وتستدرّ الدموع العاصية..
تحدث عن (مجزرة الخليل) والاعتداء على العُزَّل الآمنين، فأجَّج أشواق المؤمنين إلى الجهاد وحنينهم إلى الاستشهاد.. وهزّت المواعظ وجدان (رضا) الذي بلغ الرابعة والخمسين من عمره.. وتلاشى أثرها حين نظر في واقعه وفكَّر.. إن للجهاد ألواناً، وهو الذي لم يبخل بالمال.. بل إنه جمع من معارفه وأقاربه المال الكثير لدعم الانتفاضة، والساعي بالخير كفاعله.. ويكفيه فخراً أن أباه رزق الشهادة مع عزّ الدين القسّام رمز الشمم والإباء.

إن قلبه معلَّق بأسرته.. عنده ست بنات كالزهرات النضرات، وهو يسأل الله تعالى أن يدخله الجنة بفضلهن؛ فقد رباهن التربية الصالحة، وسقاهن بماء المكرمات.. أليس هذا هو الجهاد عينه؟ هؤلاء البنات كالنجوم يزينها قمر جميل هو (حسين) أصغر أخواته.. انتظره الأب طويلاً حتى مَنَّ الله عليه به، وشعر نحوه بالحب الأثير ونبض القلب الكبير يخاف عليه من هَبَّة النسيم العليل.

إنه الآن في السادسة عشرة من عمره.. وكثيراً ما يتردَّد الأب على غرفته آناء الليل، فينظر في وجهه، فتسكن روحه ويزول قلقه.. إنه أعطيةٌ غالية من ربّ كريم.. كنـزٌ لا يقدَّر بثمن، ملأ عليه حياته.. وكم منّى نفسه أن تكون له سيرة عطرة كالحسين عليه السلام، فيها النبل والنقاء والتقوى والعطاء.. وتتراءى له نهاية لابنه كنهاية الحسين عليه السلام تقتله الفئة الباغية، فتكاد كبده تتفتَّتُ جَزَعاً وهلَعاً. مِن أين أتى هذا الخاطر؟ صحيح أنه لا يحب اليهود، ويود أن تتخلَّص منهم فلسطين.. ولكن لا يحب أنه يكون ابنه وقوداً للثورة.. أما أن يكون هو وابنه عضوين فعّالين في المقاومة فهذا مَمَّ يستبعده، بل يهرب من مواجهته، ويقنع نفسه بأن ما يقدمه فيه الكفاية.

وفي صباح يوم من أيام نيسان امتلأ الجو عطراً بأزهار الربيع، وكانت العصافير تسرف في التغريد.. تقدم (حسين) من أبيه، فكانت طلعته عند الأب أحلى من الربيع وأزهاره والعصافير وتغريدها. وسأل الابن أباه أن يوافق على حضوره درساً في التفسير في مسجد القرية خصص للأطفال واليافعين.. ولم يتردَّد الأب، وافق بسرور مفعَم بالامتنان نحو الشيخ الوقور؛ فليس هناك أفضل مِن ولد تقرُّ به عينه، يتزوّد من معين الحق ونور الهداية.

كان الشيخ يزرع في قلوب الصغار حب الجهاد ومِمَّا قاله لهم: "أُذِنَ للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وأنَّ الله على نَصْرِهم لَقدير" صدق الله العظيم.. إن المقاومة وحدها هي طريق التحرير.. ولا يعرف الاحتلال إلاّ لغة القوة والنار.. آه.. ودِدْتُ لو أستطيع المقاومة.. كنت في العشرين من عمري حين جاهدت من أجل فلسطين.. وكم تمنيت أن أستشهد.. لكني خرجت من المعركة وقد بترت ساقي ولم أظفر بالشهادة.. والآن بلغتُ من الكبر عِتياً، ووَهَن العظم مني، واشتعل الرأس شيباً.. آه.. إن الشمس لا تضيء النهار في آخره كما تُضيئه في أوله.. أنتم رياحين الجنة.. أنتم أمل هذه الأمة.. اضربوا هؤلاء الأعداء بالحجارة ليعلموا أننا عنهم غير راضين.. وإذا نلتم الشهادة فأنتم أحياء عند ربكم تُرْزَقون.

ارتشفَ الأبُ القهوة في صباح آخر من نيسان.. لقد أشرق فجر جديد رقراق كماء الينبوع، فواح كعطر الورود، وتفتحت أزهار جديدة ندية، وبدأت العصافير الصغيرة تنتقل من غصن إلى غصن.. وتذكَّر الأب حسيناً حين كان طفلاً صغيراً ينتقل بين الأشجار الخضراء والورود والأزهار والرياحين مستمتعاً بزقزقة العصافير وغناء البلابل، يصطاد الفراشات بين سيقان الأشجار المستلقية في الغابة المحيطة بالقرية.. وتحت دفء الشمس يكبر حسين.. سيزوِّجه حين الانتهاء من الدراسة الثانوية ليملأ أولاده البيت ضجيجاً وحباً وحياة ودفئاً. بل سوف يزوجه في الربيع القادم وهو ابن سبعة عشر ربيعاً حين يُولّي الشتاء بأمطاره وبرده، ويقبل الربيع بزهره وورده.

وبينما كان الأب غارقاً في أحلام اليقظة كان (حسين) يحمل الحجارة في يده بين مجموعة من الفتيان والأطفال. وصرخةُ (الله أكبر) تشقُّ عنان السماء مضمخة بعبق النضال وعبير الجهاد.. أحسّ (حسين) بنبض الحجارة في يده.. إنها صفعات لاهبة تدمي الباغين.. كان يردد مع ضرباته قوله تعالى: "تَرْمِيهِمْ بِحجارةٍ مِنْ سِجِّيل، فجعلهم كَعَصْفٍ مأكول" فيمتلئُ صدرُه نقمة وغضباً.

(الله أكبر) تُلْهِبُ الأكف، وتُضرم النار في القلوب، وتحثُّ الخطا نحو الجنان.. والملثمون يتقدمون.. وفلول الصهاينة يتوارون خلف الجُدُرِ والسيارات.. ثم يظهرون تِباعاً ويطلقون الرصاص على الذين أقضّوا مضاجعهم.. ورمى (حسين) الضابط الكبير بحجر فقأ عينه، وأسال دمه.. واستمر في ضرب المعتدين بوابل من الحجارة.. وسرعان ما ارتمى الضابط وهو يصرخ مثل كلب مسعور: سدِّدوا ضرباتكم نحو هؤلاء الأوغاد.. فُقِئَتْ عيني.. قُتِلْت..

وتعالى أزيز الرصاص.. والقلوب التي مُلِئت حقداً وكراهية ليس في قاموسها معاني الشفقة والرحمة.. توجَّهت بنيرانها إلى القلوب الغضّة الصافية النقية التقية.. إلى البراعم الواعدة بالخصب والخير.. وهوى النجم (حسين) وابتسامةٌ تزيّن ثغره، وأسلمَ روحه وهو يقول: أنغامُ فردوس ورفيف ملائكة.. إني لأشعر بحنان الأفياء الندية، وعطر الأنفاس الزكية.. إني أشم رائحة الجنة.. كانت يده تقبض على حفنة من التراب الممزوج بنجيع الشهداء وصوت مذياع من بعيد يهتف بآية من الذكر الحكيم: "رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدوا الله عليهِ، فمِنهم مَنْ قضى نَحْبَهُ، ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ.. وما بَدَّلوا تَبْديلاً".

البابُ يُقرع قرعاً متواصلاً.. وينصبُّ النبأ على الأب الحالم كالصاعقة، إن ابنك قد استشهد. دارت به الدنيا.. أحس بدوار ثقيل وغشاوة على عينيه.. غدا كتمثال تنقصه الحياة.. اصفرّ لونه وخانته قدماه، ثم استعاد قواه.. كان (حسين) الشهيد ملفوفاً بعلم فلسطين.. يحمله فتيان في مثل عمره على رؤوسهم.. كلمات التعزية تتوالى على مسمعيه: "إنه شهيد.. هنيئاً لك يا أبا حسين.. إنه مسك الختام.. مثواه الجنة.. الله أكبر لقد قَتَل كبيرهم.. هذا هو البطل، وهذا هو أبو البطل". والأب ساهم زائغ البصر وكأن عقله قد شُلَّ، وتوقَّف عن التفكير، يُمسك به شابان عن يمينه وشماله.. يسير كأنه رجل آلي..

ووصل الشيخ الوقور متَّكِئاً على عصاه وقد تقوس ظهره.. الناس يوسعون له الطريق.. وهو يمشي بصعوبة. رآه أبو حسين، فعادَتْ إلى نفسه طمأنينتها، وآبَ إليه رشده وتوازنه؛ فهو يُكِنُّ له الحب والتقدير والإجلال والإكبار. وبنبرة مفعمة بالإيمان قال الشيخ وهو رابط الجأش: ما جئت معزّياً بل مهنِّئاً؛ فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.. أشكر لك تربيتك يا أبا حسين.. ربيته على حب الجهاد، وفاز بالشهادة.. اليوم عرسه، وقد دفع دمه مهراً للحور العين.. إنه ابنك وابني.. وسالت دمعة على خد الشيخ، حاول منعها مِراراً فلم يفلح، وعانق أبا حسين..

ارتعش الأب، واهتز كطائر رشقه المطر، وذرف دموعاً غِزاراً، وأصبح يناجي نفسه: أجل هذا هو العرس يا أبا حسين.. إنه العرس مع إشراقة الشمس الدافئة وبداية الحياة الحقيقية ورفة السنونو الخاطفة. كانت حياة حسين – على قِصَرِها – غنية مثرية.. أما حياتي ففارغة تافهة.. يظنون أني ربيته وأعددته لهذا اليوم.. آه.. كنت أطرد من خاطري كل خاطرة تصوّر نهايته المشرفة.. إنهم يشيدون بالتربية المثلى التي استقى منها حسين حب الشهادة وعشق الجهاد.. آه.. لو كنت عند حُسْنِ ظنّ الناس بي.. يظنونني بطلاً أنجب بطلاً.. ويحيطونني بمَظاهر الفخر.

وسار موكب تشييع البطل.. وبدأ شريط حياة أبي حسين أو جزء من الشريط يُعْرَضُ أمام ناظِرَيْه:

حين وقعت النكبة لجأ كثير من أبناء فلسطين إلى البلاد العربية المجاورة لكن عمي الذي رباني لم ينـزح مع النازحين، بل ظل متمسّكاً بأرضه، متشبّثاً بترابه.. وحين سألته عن سر بقائنا في البيت قال لي: يا بني سنبقى شوكة في عيون الأعداء، كقطعة الزجاج، كالصبار، كزوبعة من نار.. لن نرحل.. وبالدم الزكي لا نبخل.. يا بني ليس الوطن حقيبة نحملها معنا أينما اتّجهنا وحيثما حَلَلْنا.. الأرض هي العِرْض، ولا وطن لم اجتُثَّتْ جُذوره.

هذا هو ابني حسين حقق ما لم أستطع تحقيقه.. كنت أظن أنني قدَّمت ما فيه الكفاية نحو وطني.. دعمت المقاومة بالمال والكلمة.. نُشِرَت لي قصائد عديدة في حب الوطن، شَهِدَ بها القاصي والداني، وأحسُّوا أن فيها نبض التصدي والتحدي.. وكم ألهبت من أحاسيس، وسعَّرَتْ مِن مشاعر..

كنت معتقداً أن الكلمة الهادفة اللاهبة قذيفة ألقي بها في ساحة الوغى.. كم دَكَّتْ عرشاً وكم أضاءت دروب الكفاح.. لا شك أن للكلمة دورها، ولكني أشعر بضآلتي.. إن الجود بالنفس أقصى غاية الجود.. وحجر يلقيه طفل على الأعداء خير من ألف كلمة نضال تُلقى في إحدى المناسبات.. كما أن تقديم رغيف للفقير خير من ألف مقال يُنَدِّدُ بالجوع، ويستنكر البؤس والشقاء.

وصل الموكب إلى القبر قريباً من النهر، وأفاق الأب من مناجاته وتداعي خواطره وانسياب ذكرياته على أصوات عصبة من الفتيان تقدموا إليه وهم يقولون: "كلنا أولادك يا أبا حسين". وأحس في قولهم نبرة الصدق والإخلاص، وكان له أبعد الأثر في نفسه.

وامتدت الأكف الصغيرة القوية نحو السماء كأنها براعم زهر متفتحة تنتظر قطرات الندى، وكانت الأفواه الصغيرة تلهج بالدعاء إلى الله بطلب الرحمة والنصر.. ورأى أبو الشهيد في عيونهم بريق الأمل وإشراقة النصر وبزوغ فجر جديد. وشعر كأنه إنسان آخر وُلِدَ من جديد، وودَّ لو تكون له نهاية كنهاية ابنه حسين.. ثم التحق بالمقاومة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى