يـوم جمعــــة
حين كان الصباح ...
قام فأخذ السرير يئز ويتأرجح كأنما بين الحياة والموت .. الملاءة مغضنة الملامح مثل وجهه الذي لطمته السنون بسمْتها .. الصنبور يقطر ماءً ضئيلاً كأنه ينزفه .. في سخط حاول إغلاقه .. أخذ يلف و يلف و يلف .. فأدرك أنه صار خرباً ككثير من الأمور .. لم يستطع أن يتناول كوب الشاي الأسود المر في البيت ... لذا ارتدى ثيابه الوحيدة على عجل .. ترك زوجته نائمة .. سيعرج على المقهى قبل أن يذهب إلى عمله .. عيونه مازالت مغلقة وهو يصب الكوب إلى جوفه لا يدرك أساخن هو أم بارد ؟! لاحظ أن عدد الزبائن قليل .. لم يزدد تساؤله أكثر من ذلك ..
حانت منه التفاته إلى جريدة بين يدي جارٍ له .. و في اللحظة التي همّ بالتحول عنها قرأ كلمتين في ركن الصفحة الأولى كانتا ((عدد الجمعة)) .. و للمرة الأولى يدرك أن اليوم عطلة ..
ما الذي حمله على الاستيقاظ مبكراً إذن ...
إستنكف أن يعاود النوم بجوار زوجته برائحتها الخانقة .. حتى هو .. لا يطيق رائحته شخصياً .. كم كان يود لو أنه أستحم قبل نزوله ..
استغنى عن جلسته و استخدم قدميه لبعض السير .. عاودته الرغبة في التساؤل .. وجد نفسه قد غادر حارته .. بل حيه بأكمله ..
تأمل وجوه من حوله .. هل هناك أحد يعرفه ؟ بآلية أخذ يغذّ السير حثيثاً كأنما هو على موعد هام .. استرعى إنتباهه أحد المحلات الكبيرة .. وقف أمام واجهة العرض .. في ذهول أخذ يتأمل المعروضات غالية الثمن تافهة القيمة .. مازال المحل مغلقاً .. حارس أمن شاب يجلس أمام المحل متظاهراً بقراءة مصحف في يده و الزبيبة تغطي جبهته .. استمر يراقب واجهات المحلات .. متخيلاً ملكيته لكل ما يرى .. لا غرامة على الخيال .. و إن لم يكن باستطاعته أن يملك .. فعليه على الأقل أن يحيا بالحلم .. وهم ؟! .. لا يهم .. حتى الوهم لا يخلو من جمال .. و الجمال نادر .. و الندرة شيء قيم .. كم الساعة الآن ؟!
خلع ساعته فهو لا يريد أن يعرف ..
على البعد شاب وشابة .. يبدوان كخطيبين .. حبيبين .. زوجين حديثين .. كلٌُ منهما يميل على صاحبه كأنما ليظله .. و للمرة الأولى أيضاً يدرك أن الجو لا يخلو من حرارة .. و أن العرق يتصبب عليه غزيراً كأنما هو حمّامه الذي لم يدركه قبل نزوله .. إنه لا يذكر إن كان قد مال على زوجته هكذا قبل أن يتزوجا .. هل كان يحبها ؟! لابد أنه كذلك .. إذن لِمَ تزوجها إن لم يكن كذلك ؟!
كان دائماً يحلم بزوجته غادة حسناء .. بيضاء مشرّبة بالحمرة .. شعرها ينسدل على كتفيها كشلال من ماء عذب .. فمها ثمرة كرز جاهزة للقبل .. كلامها همس .. و همسها غزل .. تشيع البهجة في مجلس هي تحضره .. و آخر هي غائبة إلا من ذكرها والكلام عنها .. إذا نظر إليها استنكر أن يتداخل معه في الرؤية شيء آخر.. و إذا تكلم معها ود لو انتهى حديثهما حينما تحين ساعته .. الابتسامة تملأ وجهها نوراً و إشراقاً .. و على وجهه هو ارتسمت ابتسامة رضا .. كأنما تحقق له ما أراد ..
رأى عربة فول على البعد .. فتذكر أنه لم يفطر بعد .. الفول الساخن .. طعمه لذيذ .. و هو ساخن .. بل .. لماذا فقط و هو ساخن ؟!
تناول قطعه من المخلّل وقضم من الساندوتش و هو يقول لنفسه أنه لا يعرف .. رأى – و هو يهم بتناول الساندوتش الثاني - شحاذاً رثّ الهيئة ينظر إليه في حسرة .. توقف لوهله بفمه الفاغر .. تبادلا النظرات .. قلّب نظره فيمن حوله كي يتأكد أنه هو فقط المقصود .. عادت عيونهما تتلاقى .. تتناقش .. تتبارز .. في خطوات قصيرة بطيئة أخذ الشحاذ يقترب منه .. الساندوتش مازال في يده كما هو .. عيونهما مثبتة .. يقترب أكثر .. الحوار الصامت يعلو ما بينهما .. تمتد يده - مهتزة - بالساندوتش .. دون أن يخفض عينيه ، يتناوله الشحاذ كأنه حق مكتسب .. وبينما هما لا زالا ينظران لبعضهما البعض قضم قضمة صغيرة في تلذذ .. و ارتسمت على شفتيه شبح ابتسامة .. ثم قضم قضمة ثانية .. فثالثة ..
استأنف السير وهو مازال يختلس النظر ما بين اللحظة و الأخرى إلى الشحاذ ، الذي فقد اهتمامه به و بدأ ينظر جهة أخرى مؤملاً في رزق جديد ..
نفض يديه .. كأنما من بقايا عمل يدوي صعب .. و رغم استمرار إحساسه بالجوع ، إلا أنه لا يريد أن يأكل ثانية ..
أحس بالتعب يغزو قدميه .. يصعد إلى ساقيه .. ففخذيه .. إنه محتاج للراحة .. كم الساعة الآن ؟!
نظر إلى معصمه لم يجد ساعته .. نظر خلفه على الأرض .. شك لوهلة أن يكون الشحاذ قد سرقها منه إلا أنه تذكر فجأة أين وضعها فتنفس الصعداء ، إذ من أين له أن يشترى غيرها .. هنا سمع آذان صلاة الجمعة .. صلاته الوحيدة .. دخل المسجد و توضأ .. و انتحى ركناً يرتاح فيه فغلبه النوم .. ليستيقظ على الإقامة .. و يقف جنباً إلى جنب مع حارس الأمن و الشحاذ الذين تركهما منذ قليل ..
و حين انتهت الصلاة ...
قام الشحاذ يهتف في المصلين .. ذكر كثيراً من قبيل الزوجة الميتة والأطفال المرضى .. العملية اللازمة ، الديون المتراكمة ، الغرامة المستحقة الدفع ... إلخ ... إلخ ... انهالت عليه صدقات المصلين .. و هو يراقبه في حسد .. متمنياً لو واتته بعض من شجاعة .. فقام مثله زاعقاً في الناس .. بل آمراً إياهم .. بأن يقتسموا معه جنيهاتهم القليلة .. فقراء يضحك بعضهم على بعض .. و بالرغم من عدم مواءمة المكان أو المناسبة .. انفجر ضاحكاً متخيّلاً نفسه بدلاً من الشحاذ .. يلاحقه سخط رهيب من جموع المصلين و إمام المسجد .. و حتى الشحاذ الذي وجد في ضحكه شيئاً شتت انتباه الناس عن تأدية فريضة التبرع له .. إلا أن كل السخط الذي في القلوب والوجوه والألسنة ما لبث أن استحال شفقة حينما تعالت الأصوات مدعية جنونه .. فخرج من المسجد مترنحاً .. متقناً لدوره .. محيلاً ضحكه إلى هستيريا .. فأخذ يضحك و يضحك و يضحك حتى كاد يتقيأ .. و طفرت عيونه بالدمع و احمرّت .. ثم ما لبثت أن انقلبت سحنته كآبة مطلقة .. كأنما هو قد استنفذ طاقة الضحك داخله و لم يبق له سوى الاكتئاب .. فتابع سيره و قد امتلأ الطريق حوله بالناس .. المدينة الآن مستيقظة .. نشطة .. مزدحمة .. كأنها نفس بشرية تعج بالأحاسيس والانفعالات .. تصطرع .. تصطخب .. تعلو أصواتها .. تنزف الدمع غزيراً .. تمنى لو كان مقاتلاً .. غنياً .. ذكياً .. عالماً .. أو حتى لاعباً للكرة .. أي شيء مميز .. أي شيء يجنبه الدخول في صراعات مع الآخرين .. مع الأيام .. مع الزمن .. مع زوجته .. و حتى مع نفسه ..
دار بعيونه فيمن حوله .. لماذا ينظرون إليه هكذا جميعاً .. هل هو مخطئ .. هل أجرم في حق نفسه و الآخرين .. عيونهم الآن تلسع جسده المشرّب بالعرق .. السياط تلهب جلده الساخن .. تفقأه و تتوغل داخله .. يسرع في سيره .. العيون تلاحقه .. أخذ يجري من مجهول لديه .. يجري و يجري و يجري .. بأقصى ما يستطيع .. لابد أن يغادر هذا المكان .. يخرج من مجال الرؤية .. يخرج من هذه الدنيا التي يحياها على غير اختيار .. أشار إلى تاكسي .. توقف .. و حينما همّ بالركوب .. وجد عيون السائق تسبقه .. في عنف صفق الباب في وجهه مستأنفاً الجري .. بينما السائق يتابعه بالنظر ضارباً كفاً بكف .. عبر الشارع مسرعاً فكادت تدهمه السيارات .. صدره يعلو و يهبط في جنون .. عيونه زائغة ونفسه مضطربة كمجرم هارب .. كم الساعة الآن ؟!!
إنه جائع جداً .. و يريد النوم و الاستحمام .. ألا يوجد هنا حمّام .. هل كان يحب زوجته حقا ؟!! هل مال عليها هكذا من قبل ؟!! اصطدمت نظراته بنظرات الشحاذ الناقمة .. ما الذي أتى به إلى هنا .. لماذا يلاحقني .. يكاد قلبه يغادر صدره من الهلع .. لابد أنه يريد أن يسرق ساعته .. و لكنه لن يسمح له .. لن يسلبه أحد شيئاً يملكه بعد الآن .. يكفى ما يسلب منه كل لحظه و كل ساعة و كل يوم .. وقت السلب انتهي .. شخص آخر هو الذي يرتدى حذاءه الآن .. يلبس ملابسه .. يعرق بدلاً منه .. أنفاسه المنتظمة - الآن - تدل عليه .. نظراته الواثقة .. و نفْسُه الهادئة المطمئنة .. ابتسامة ثقة تعلو شفتيه كأنما هو خارج لتوه - منتصراً - من معركة حامية الوطيس .. و من جيبه العلوي أخرج علبة سجائره .. أشعل سيجارة ، و تناول نَفَساً في بطء .. مستمتعاً بكل لحظة يرتشف فيها .. كأنها رحيق زهر .. شفتي محبوبة - بالطبع ليست زوجته - مثل ثمرة الكرز .. يخرج الدخان على شكل حلقات صغيرة لا تلبث أن تتلاشى ..
الحر يزداد .. و العرق صار لا يطاق .. ماذا لو خلع ملابسه الآن ؟!! سينظر الناس إليه كمجنون .. و لكن ألم ينعتونه بالجنون فعلاً بعد صلاة الجمعة ؟! تذكّر الموقف ثانية فعاودته نوبة الضحك .. و هو واقف وسط البشر .. في قلب الطريق .. فاستحالت نظرات الشحاذ الناقمة إلى أخرى مندهشة .. الناس حوله يسيرون فلا يعيرونه انتباهاً .. فتوقف وهلة و تساءل .. لماذا لم ينعتونه بالجنون الآن .. لماذا لم يتجمعوا حوله .. هل فقد- حتى - اهتمامهم بجنونه و أفعاله اللا معقولة .. هل اعتادوا عليه فلم يعودوا يعبأون بما يأتيه مجدداً .. يا لها من خيبة أمل .. ليت رئيسه في العمل يراه الآن .. كم يود لو يرى تأثير أفعاله على وجهه المبتئس الكالح .. لابد أنه كان سيصعق .. هل كان سيفصله ؟!!
ربما حوّله لمستشفى المجانين .. تذكّر وجهه حين طلب سلفة لأن ما معه انتهي والشهر لم يزل في ثلثه الأول .. كان خليطاً بين المعرفة والدهشة .. التصديق و الاستغراب .. القبول و الامتعاض .. لا بد أنها تلك السجائر اللعينة التي تمتص راتبه فلا تُبقي منه شيئاً .. في سخط ألقى سيجارته و انهال عليها دعساً حتى فتتها .. ثم تحسّر على ثمنها .. ألم يكن من الأجدر أن ينتهي منها أولاً .. ثم يفعل بعقبها ما يشاء .. اكتسى وجهه بلمحة حزن .. إلا أنه ما لبث أن قال لنفسه فلتكن تلك السيجارة الأخيرة .. و أوفر ثمنها لبيتي و ما يحتاجه .. ماذا عن المقهى ؟! .. إنه يدفع فيه جزءً كبيراً أيضاً .. كلا .. لن يجلس على المقهى ثانية .. بل سيقلع عن القهوة تماماً .. و يكفى كوب شاي واحد في اليوم .. ثم لا يهم أن يفطر .. سيكتفي بغذاء دسم .. و لكن منذ متى كان يتناول في غذائه شيئاً دسماً .. إن وجود قطعة من اللحم أو ربع فرخة في وجبة الغذاء لهو حدث أسبوعي خطير .. لا يحدث سوى يوم الإجازة ..
يوم الإجازة !!!! أي يوم الجمعة .. أي اليوم .. كم الساعة الآن ؟! .. كم الساعة الآن ؟!! في لهفة أخذ يبحث عن الساعة بين جيوبه ..
كم الساعة الآن ؟!!
لم يجدها ...
أجل هذا ما حدث .. لم يجدها .. الآن .. لم يجدها .. قلب جيوبه للخارج .. خلع قميصه .. انكب على الأرض بحثاً .. كالمجنون يكاد يثقب الأرض بحثاً عن الساعة .. بعد بحث مضن .. جلس على الأرض القرفصاء .. و قد نسى كل شيء عن الغذاء و الأكل و السجائر و القهوة و الجلوس على المقهى ..
أين هي الساعة الآن ؟!!!
طفرت عيونه بالدمع حزناً وكمداً .. و فقط الآن أيضاً .. رآها .. قابعة على الأرض .. بجواره تماماً .. كأنما هي تخرج له لسانها .. لقد كانت ها هنا منذ البداية إلا أن عيونه فشلت في رؤيتها .. ضرب الأرض بجوارها عدة مرات .. إلا أن أصابعه رفضت أن تلمسها .. جيوبه لفظتها في التو واللحظة إلا أنها أبت أن تدله على مكانها ..
و بيد مرتعشة و نفس مضعضعة ..
اقترب منها جاثياً على ركبتيه .. كأنه يركع لها .. يؤدى صلاة أخرى غير صلاة الجمعة .. و فى حركة واحدة التقطها .. كاد يقبّلها .. يضمها إلى صدره .. يبكي فوقها .. إنها الساعة التي أهداه إياها والده - رحمة الله عليه - بعد حصوله على الثانوية العامة .. و رغم قدمها .. و بشاعة شكلها إلا أنها ثروته الوحيدة .. كان سيهديها لولده بالتبعية حين حصوله هو أيضاً على الثانوية العامة .. فارتدى قميصه بنفس تلهج بالشكر .. ثم قام من الأرض و نفض ملابسه كأنه ينفض التراب - ليس عنها - بل عنه هو شخصياً .. ملّس على شعره الأشعث .. و بدأ يلتقط أنفاسه .. إرتدى الساعة مرة أخرى .. و أحذ يحرك ذراعه مستعرضاً إياها ..
كم الساعة الآن ؟! .. إنها الثالثة و الربع ...
أين هو الآن ؟! .. يا إلهى ها هو النيل أمامه .. لا بد أنه على الكورنيش .. قلب نظره فيمن حوله فوجد الكراسي تغص بالعاشقين المنفصلين عما حولهم .. و كل يقسم لصاحبه ألا أجمل و لا أحلى و لا أظرف و لا أرق منه في الوجود .. لو أن الأمر كذلك حقاً .. فلِمَ كل هذا الشقاء في هذه الدنيا ..
إلا أن دكة واحدة كانت خالية ...
هرول نحوها سريعاً قبل أن يتم إشغالها .. لم يجلس عليها .. بل مددّ جسده كله .. نظر إلى السماء الزرقاء .. رغم سحابات الأتربة و الدخان الأسود التي تكاد تخنق كل الكائنات ..
بدأت أجفانه تثقل ..
ثم ما لبث أن استسلم للنوم و لعالم الأحلام ..
***
حينما أستيقظ ..
لفه الظلام .. بأعين نصف مغلقة تلفت حوله .. العاشقون ازدادوا التصاقاً وهمساً .. كل إثنين استحالا كائناً عاشقياً واحداً متكرسياً .. لا صوت .. لا حركة .. لا شيء .. صورة ثابتة هو المتغير الوحيد داخل إطارها الحديدي الصدئ .. لكن منذ متى كان العشق يعترف بالصدأ .. الزواج فقط يعترف به .. و هو متزوج .. حياته فقط تعترف به .. و هم لا يحيون حياته .. الفلس .. الجوع .. الحاجة .. كم الساعة ؟!!!
خيل إلية أن الزمن قد توقف .. أو ربما هو الذي توقف بالزمن .. قام عن دكته .. و أخذ يتمطع .. ثم تثاءب طارداً كل أثر النعاس .. فرد ذراعيه عن آخرهما مستقبلا نسيم الليل العليل .. العرق قد جف على جسده وصار احتياجه للاستحمام أكثر من ذي قبل .. لا أثر للحرارة الآن كأنه عالم غير الذي كان بالنهار .. دنيا غير الدنيا .. ولكن هو لا زال كما هو .. ماذا لو أنه الآن صاحب سياره فارهة .. تماماً مثل تلك الواقفة هناك .. و بصحبته غادة حسناء كالتى كان يتخيلها .. ثم لو أنه معه من النقود ألف .. كلا .. بل عشرة آلاف .. كلا .. كلا .. بل مليون .. أجل مليون جنيه .. لا بد أنه حينئذ سيبدو في غاية السعادة لوأنه كذلك حقاً لأعطى الشحاذ نقوداً بدلا من ساندوتش الفول ..
ياإلهى .. كم هو جائع .. إنه لم يأكل سوى ذلك الساندوتش اليتيم .. حتى الغذاء الدسم فوّته .. و هنا كان بائع بطاطا يمر بجواره فأشار إليه .. ثم اشترى بخمسين قرشاً .. و عاد إلى دكته .. يلتهم البطاطا الساخنة في نهم .. ترى لو كان معه المليون جنيه .. هل كان سيلتهم البطاطا في سعادة كما يفعل .. إنه يشك في هذا .. لكنه لن يغير من الأمر شيئاً ..
ثم فجأة .. تذكر شيئاً هاماً جداً ..
زوجته .. أجل زوجته ..
إنها لا تعلم أين هو .. لابد أنها في غاية القلق عليه .. إنها حتى لم تره حين نزل في الصباح .. كيف لم يفكر فيها قبل الآن .. بل إنه فكر فيها كثيراً و لكنه أبداً لم يخطر على باله مبلغ قلقها في غيابه ..
إنه مخطئ حقاً ..
لابد أن يعود إلى منزله في غاية السرعة ..
كم الساعة الآن ؟!!!!
سيستقل تاكسياً حتى يضمن وصوله بأسرع طريقة ممكنة ..
فتش في جيوبه .. تأكد من وجود ما يكفى من نقود .. في لهفة أشار إلى تاكسي .. لم يتوقف .. فآخر .. كلا .. و الوقت يمر .. الثالث .. عليهم اللعنة جميعاً .. ثم أخيراً توقف أحدهم .. رجل عجوز يبدو أنه يقود التاكسي ليتكسب منه ما يكفيه وعائلته .. إنه لزمن صعب .. المهم الآن زوجته .. ترى هل أبلغت البوليس .. هل بحثت في المستشفيات كالمجنونة .. إنه يذكر يوم تاه ابنهم الأصغر .. لقد كادت تلقى بنفسها تحت عجلات المترو من أجل أن تعلم أين هو .. و حينما اكتشفت أنه كان يلعب في بئر السلم وغلبه النعاس .. صفعته صفعة ارتج لها كيان الصغير كله .. بل ارتج لها كيانه هو شخصياً .. ليختلط بكاء الطفل بالأم التي ضمته إلى صدرها في اعتذار فوري .. هو أيضاً غلبه النعاس .. بل غلبه كل شيء .. ترى هل ستصفعه و تضمه إلى صدرها كما فعلت مع الولد الصغير .. أمر السائق بالإسراع .. و ما أن توقف حتى كان يلقى له بالنقود و يسرع كما لو أن قطاراً سيفوته .. ولج الحارة .. و أخذ يجري و يجري و يجري .. تماماً كما في الصباح .. أمام عينيه تجرى صور للشحاذ و فرد الأمن و المصلين و إمام المسجد و العاشقين أمام النيل .. ثم صورة للزوجة التي لطالما تمنّاها .. البيضاء المشربة بالحمرة .. الشعر المنسدل على الكتفين كشلال من .. .. .. ثم .. اختفت الصورة .. بل اختفى كل شيء .. لم يعد هناك سوى صورة بيته و زوجته و أولاده .. و ....
إنهم يعتمدون عليه في كل شيء ..
ضاعف من سرعته .. إنه يحبهم .. صدره يعلو ويهبط .. و يحب زوجته .. على باب المنزل .. وجد زوجته .. حولها نفر من الجيران ... شعرها مشعث و ملابسها متهدلة .. كتفاها ساقطان .. و عيونها محمرة من أثر البكاء .. قد افترشت الأرض وغير بعيد عنها أطفاله .. نيام حولها .. كقطة و صغارها .. دون أن يتوقف .. استمر جارياً باتجاههم .. الدهشة تعلو وجوه الجيران .. في بطء محسوب .. تبدأ الزوجة تبعد يديها عن عينيها .. كأنها زهرة تتفتح .. أجل إنها زهرته هو ..
و في مشهد ظل عالقاً في ذهن كل أهل الحي كنموذج للغرابة ....
تلقف زوجته بين ذراعيه .. واحتضنها في قوة أدهشتها هي .. وسربت الحمرة من عينيها إلى خديها .. غالبت دموعها و هي تقول :
– قلقتنا عليك .. خير ..
واضعاً يده على كتفها .. و اليد الأخرى على الأولاد الذين استيقظوا من نومهم مندهشين ككل الموجودات حولهم .. بدءوا يصعدون الدرج إلى شقتهم الضيقة .. بينما تفرّق الجمع من حولهم ضاربين كفاً بكف ..
على السلم قال في صوت هو أشبه بالهمس .. أو الصلاة ..
- هاموت من الجوع .. وعايز أستحمى ..
فسبّلت الزوجة بعينيها وهي تقول :
- الغدا لسه زي ما هوّه .. ما حدش لمسه في غيابك .. خش يا خويا خد لك حمام على بال ما أسخن الأكل ..
طفرت دمعتان ساخنتان من عينيه ..
و قد أحس الآن ...
الآن ... فقـط ...
كم هي جميلة ........
... الحيــاة .....!!!!