السبت ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم عمر حكمت الخولي

يونغ ودرويش!

تنويهٌ لا بدَّ منه

بغضِّ النظرِ عن آلافِ المشكلاتِ التي تواجِهُ مجتمعَنا العربيَّ كلَّه، الاقتصاديَّةِ منها والاجتماعيَّةِ والثقافيَّةِ والسياسيَّةِ والعسكريَّة، إلاَّ أنَّ هنالكَ مشكلةً أظنُّها قد استفحلتْ في عقولِنا وضمائرِنا تماماً حتَّى أصبحتْ جزءاً من تراثنا المجيدِ، ودينِنا الحنيف!

ماتَ درويش، فانبرى لمهاجمتِه أولئكَ الذين امتهنوا الشعرَ الخالي مِنَ الشعورِ، واعتنقوا العروبةَ بامتراءٍ، وآمنوا بعقيدةٍ لا وجودَ لها إلا في خيالاتِهم. بين لحظةٍ وأخرى أصبحَ درويشُ (شاعرُ القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ) خائناً وملحداً وزنديقاً وزيرَ نساءٍ وسكِّيراً وعربيداً، وأُلحقتْ بشخصِه جميعُ تلكَ الصفاتِ الأخرى التي أستحي مِنْ ذكرِها في مقالي. هاجموه كما هُوجمَ مِنْ قبلُ نزارُ، وكما حوربُ أدونيسُ، وكما يحدثُ كلَّ يومٍ لألفِ شاعرٍ عربيٍّ!

لستُ أنافحُ في مقالي هذا عن محمود، ولا عن نزار قبَّاني، ولا عن سواهما، فأنا لَم أعرفهم شخصيَّاً، ولا حتَّى عن نفسي -وقد نالَني ما نالَهم مِن تكفيرٍ وتشهيرٍ- فمعظمُكم لا يعرفُني أيضاً، جلُّ ما في الأمر أنَّني أرغبُ في مناقشتِهم بمنطقِهم، ومحاججتهم بحججِهم.

قالَ أحدُهم تعقيباً على قصيدتي (هل مات محمود) المهداةِ إلى روحِه في يومِ رحيلِه: "هل محمود هو شاعرُ القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ؟ هل ذاكَ الذي شكرَه السفيرُ الإسرائيليُّ في باريسَ لأنَّه استنكرَ المؤتمرَ الذي سيفضحُ الهولوكست، والذي كافأَهُ وزيرُ التربيةِ الإسرائيليُّ على نضالِه وأدرجَ بعضَ قصائدِه في المناهجِ العبريَّةِ هو شاعرُ قضيَّتِنا؟" وفي تعقيبٍ آخرَ على ذاتِ القصيدةِ، لم يكتفِ صاحبُ التعليقِ بتكفيرِ وتخوينِ محمود درويش، بل وكفَّرني أنا أيضاً لأنَّني رثيتُ محموداً (الشيوعيّ) بقصيدتي!
وأنا أقولُ لهما ولنا جميعاً: هل علَّمتنا العروبةُ والإسلامُ أن نتَّبعَ قاعدةَ (لا تقربوا الصلاة – ولا إله)؟

عندما رحلَ الرئيسُ جمال عبد الناصر، نعتْهُ الصحفُ ووسائلُ الإعلامِ الإسرائيليَّة، وقالت: "بقدرِ فرحِنا اليومَ لموتِ شبحِ الرعبِ العربيِّ، نحزنُ على رحيلِ فارسٍ مقدامٍ وسياسيٍّ محنَّكٍ"، وعندما رحلَ الرئيسُ حافظ الأسد أعلنت إسرائيلُ الحدادَ ثلاثةَ أيامٍ. فهل هذا يعني أنَّ جمال وحافظ مرتبطونَ بإسرائيل؟ أو أنَّهم خونة؟

عندما استتبَّ الأمرُ للمسلمينَ وفتحوا الأقطارَ العربيَّةَ كلَّها، لَم يمسُّوا آثارَ الحضاراتِ القديمةِ (الوثنيَّةِ) كالفرعونيَّةِ والآشوريَّةِ والآراميَّةِ بأيِّ سوءٍ، بل حافظوا عليها وعلى لغاتِها وأساطيرِها، بل وفيما بعدُ أنشأ العربُ المسلمونَ متاحفَ ليحفظوا تماثيلَ الآلهةِ التي عبدتْها تلكَ الحضارات. فهل هذا يدلُّ على أنَّ العربَ المسلمينَ قد اعتنقوا تلكَ الدياناتِ وقدَّسوا تلكَ الآلهة؟
عندما رفضَ السيِّدُ المسيحُ عليه السلامُ رجمَ المرأةِ الزانيةِ، وقالَ: "مَن كانَ بلا ذنبٍ فليرجمْها بحجر". هل كانَ يشجِّعُ على الزنا والفحشاءِ والزندقة؟

بل عندما امتدحَ النبيُّ المصطفى محمَّدٌ (ص) حاتمَ الطائيَّ (الكافرَ) أمامَ جمعٍ مِن المسلمينَ ومِن أبناءِ طيء، هل هو بذلكَ يُقرُّ بصوابِ جميعِ أفعالِ ومعتقداتِ حاتمٍ ويدعو إليها؟
فلماذا إذاً أصبحَ محمود درويش خائناً عندما اقترحَ وزيرُ التربيةِ الإسرائيليُّ (يوسي ساريد) في العام 2000م إدراجَ قصائد محمود ضمنَ البرنامجِ الأدبيِّ الدراسيِّ للمدارسِ الإسرائيليَّةِ؟ علماً بأنَّ هذا الاقتراحَ ظلَّ في فكرِ الوزيرِ وحدَه، ولَم يُنفَّذ!
ولماذا أصبحَ محمود أيضاً ملحداً وكافراً لمجرِّدِ أنَّه انتسبَ للحزبِ الشيوعيِّ؟ أليسَ مِن الممكنِ أن يكونَ ذا فكرٍ شيوعيٍّ مِنَ الناحيةِ السياسيَّةِ فحسب، أي بعيدٍ عن (الدين أفيونُ الشعوب)؟
ولماذا حُشرتُ أنا أيضاً في تلكَ الخانةِ لمجرَّدِ أنَّني في السابقِ قد هاجمتُ بعضَ رموزِ السياسةِ العربِ وبكيتُ حالَنا بلا خوفٍ، واليومَ لأنَّني رثيتُ محمود؟

باختصارٍ شديدٍ، لماذا تُجرُّ ذيولُ الكفرِ والانحلالِ والخيانةِ دوماً على الشعراءِ والأدباءِ والمبدعين؟ ما سببُ تلكَ العقدةِ التي تجعلُ منَّا -أي الشعراء- محطَّ أنظارِ التكفيرِ والتخوينِ عندَ البعض؟

لحلِّ هذه المعضلةِ، وللإجابةِ عن هذا السؤالِ، هنالكَ طريقتان:
الأولى: أن نرجعَ بتاريخِنا إلى ما قبل التدوين! فإيديولوجياتُنا اليومَ هي نتيجةُ مئاتِ الألوفِ مِنَ الأعوامِ التي عاشَها بنو الإنسانِ جميعاً، وملايينِ الحوادثِ والظروفِ التي أثَّرتْ في الشعورِ واللاشعورِ البشريِّ، كما قالَ العالِمُ والفيلسوفُ (يونغ) صاحبُ نظريَّةِ (اللاشعور الجمعي)، ونحاولَ تغييرَها والحؤولَ دونَ وقوعِ تلكَ التغيُّراتِ في مرآتِنا النفسيَّة!.

الثانية: أن نكونَ أكثر مصداقيَّةً، وأكثرَ شفافيةً، وأن نتوخَّى الدقَّةَ في تحليلاتِنا (العشوائيَّةِ) التي نقصفُ بها جميعَ مدائنِ الشعرِ، وحضاراتِ الأدبِ، ونهاجمُ من خلالها نخبةَ النخبةِ في مجتمعاتِنا!
ولكم يا سادتي حريَّةُ الاختيارِ بينَ الطريقتين!

تنويهٌ لا بدَّ منه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى