إطلالات تربويّة من شبابيك الوطن
فدوى وإبراهيم طوقان يبتكران نماذج أصيلة في "مدرسة البيت" و"التّثقيف الذّاتيّ" و"بناء الذّات" و"التّعلّم بالمراسلة"
فَرْحَةُ الطّالبة فدوى طوقان بإطراء السّتّ "فخريّة الحجّاوي"، أعزّ معلّماتها إلى قلبها، المذكورة في إطلالتنا الأولى لم تَدُم طويلًا، فبعد هذه الحادثة بفترة وجيزة قرّر أخوها يوسف حرمانها من متابعة دراستها في المدرسة وإدخالها إلى "سجن الدّار"، كما أسمته وهي في الثّالثة عشرة من عمرها. تكتب فدوى في سيرتها الذّاتيّة "رحلة جبليّة رحلة صعبة" أنّ قوى الشّرّ "تقف دائماً ضد الإنسان وتعمل على تحطيمه[...]"، فقرار أخيها يوسف يعني هدم حلمها الذي رسمته بعد تلقّيها الإطراء من معلّمتها بنشر أشعارها كما أشعار أخيها إبراهيم والشّاعرة العراقيّة رباب الكاظمي، كما يعني هذا القرار انقطاع فدوى عن المدرسة وعن معلّماتها وصديقاتها اللواتي أحبَّتهنّ وأحبَبْنها وسلبها ذلك الحيّز الضّيّق من الحرّيّة الذي أتاحه لها مجتمعها وعائلتها. والحالة هذه، كيف لصبيّة في هذا العمر أن تتحمّل هذا الانقطاع؟ وكيف بمقدور هذه الفدوى ألّا تتحطّم؟ في "سجن الدّار" هذا بلغت فدوى حالات من الإحباط واليأس دفعتها إلى درجة التّفكير في الانتحار، إلّا أنّ إبراهيم "الأخ"، بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من المعاني، قدم إلى "سجنها" النّابلسيّ من بيروت حاملًا شهادته من الجامعة الأمريكيّة في شهر تمّوز 1929. حضرتْ قوى الخير. تؤكّد فدوى "مع وجه إبراهيم أشرق وجه الله على حياتي". ولمن ستكون الغلبة لقوى الشّرّ أم لقوى الخير؟! في قصّتنا هذه لم يكن هناك أيّ خيار، إذ كان لا بدّ لقوى الخير أن تنتصر، فإمّا الموت أو الحياة، ولا بدّ للحياة أن تنتصر. لكن لتحقيق ذلك يجب أن تتوفّر شروط عدّة، أوّلها منوط بالسّجينة؛ بمشاعرها وبفكرها وبِفِعلها. بدأ بصيص الأمل الأوّل حينما تكثّف لديها "الشعور الساحق بالظلم". تصف فدوى ذلك بقولها: "فحين يصل المرء الى قاع هوة اليأس تدب فيه شرارة الحركة لتدفعه الى العمل على الخروج من الهوة". وكانت حركة فدوى الأولى على مستوى الخيال، فبدأت تستغرق "في أحلام اليقظة .. فمن خلال تلك الأحلام كنت أنطلق خارج قضبان السجن[...] أسافر الى بلاد لا أعرفها، وألتقي بغرباء يحبونني وأحبهم". ها هي "سجينة الحرّيّة" تحلم وترفرف بجناحيها خارج أسوار السّجن. هذه لبنات أساسيّة في طريق النّصر، نصر صاحبة الحقّ المظلومة، ولكنّها غير كافية.
ذات مساء كانت الصّبيّة فدوى ابنة الثالثة عشرة قابعة في "سجن الدّار" وهي تحتضن دفترًا ذا لون حشيشيّ باهت وقلمًا أزرق. كتبتْ على ذلك الدّفتر بخطّها الرديء، كما وَصَفَتْه، ما يلي:
"الاسم – فدوى طوقان
الصف – (شطبت الكلمة وكتبت بدلا منها "المعلم"): إبراهيم طوقان
الموضوع – تعلم الشعر
المدرسة – البيت".
وتضيف فدوى "ولم تكن هذه بعيني كلمات، بل شموسا وأقمارا قبلها كانت حياتي واقفة لا تسير مع الزمن ولا أعرف ماذا أفعل بها".
ما سِرُّ "مدرسة البيت الطّوقانيّة" هذه؟ وما سِرُّ تحوّل الأخ إلى معلّم؟
تأسّست "مدرسة البيت الطّوقانيّة" في "سجن الدّار" الّذي قبعت فيه فدوى، وكانت بدايتها محضَ صدفةٍ، وما أكثر الصّدف في حياة هذه الفدوى، كما تشهد على ذلك في سيرتها الذّاتيّة. فبعد عودة أخيها إبراهيم من بيروت في تمّوز 1929 بدأ بممارسة مهنة التّعليم في مدرسة النّجاح الوطنيّة في نابلس، وفي أحد الأيّام، بينما كان يتناول الغداء، حدّث أمّه عن تلميذين من تلاميذه نظما قصائد خالية من عيوب الوزن والقافية، وكان إبراهيم فخورًا ومسرورًا وهو يتحدّث عن الموضوع، وكانت فدوى المحرومة من المدرسة جالسة هناك تستمع إلى هذا الحديث، فبادرَت "وبعفويّة مطلقة وبصوتي الخافت الضعيف قلت: نيالهم!". شكّلتْ "نيالهم" الشّرارة الأولى في انطلاق المدرسة. نظر إليها إبراهيم وصمت ثمّ قال فجأةً "سأعلمك نظم الشّعر، هيا معي." هكذا كانت الانطلاقة. كان معلّم هذه المدرسة مثقّفًا وحاذقًا، فاختياره الأوّل لطالبته فدوى كان قصيدة "امرأة ترثي أخاها" من كتاب ديوان الحماسة لأبي تمام. قال لها: "لقد تعمدت ان أختار لك هذا الشعر لتري كيف كانت نساء العرب تكتب الشعر الجميل". قرأ المعلّم إبراهيم القصيدة لطالبته وفسّر لها أبياتها وطلب إليها أن تنقلها إلى دفتر وتحفظها غيبًا. نعم، إنّه الدّفتر المذكور في بداية إطلالتنا هذه. ومع حلول مساء ذلك اليوم أسمعت الطّالبة فدوى معلّمها إبراهيم "القصيدة غيباً دون خطأ أو تلكؤ في تلاوتها". إضافة إلى الدّفتر والقلم كانت تحمل الطّالبة فدوى في ذلك المساء "عيداً من أعياد الشعور! ها أنا أعود الى الدفاتر والأقلام والدراسة والحفظ. ها أنا أعود إلى جنتي المفقودة".
لكن، بعد ستّة أيّام متتالية من مسيرة الشِّعر مع طالبته وإلقاء المهمّات التّعليميّة عليها توقّف المعلّم إبراهيم، بشكل مفاجئ، عن ذلك كلّه، ومرّ على ذلك التوقّف يوم فاثنان فثلاثة، فعاد الشّعور بالثّقل إلى قلب فدوى، لكنّها استمدّت بعض الجرأة في اليوم الرّابع وسألته هل غيّر رأيه في موضوع تعليمها، فكان جوابه "كلا لم أغير رأيي، ولكنني توقفت لأتأكد من صدق رغبتك في التعلم. سنواصل اليوم الدرس". قلنا إنّ المعلّم إبراهيم كان حاذقًا، فلا إكراه في التّعلّم في هذه المدرسة من ناحيته، وعلى الطّالبة أن تتعلّم عن طيب خاطر. منذ تلك اللحظة استمرّت مدرسة البيت بشكل منتظم، ووصفت فدوى أثر هذه المدرسة عليها بالكلمات التّالية: "نسيت شقائي كله، وانسحاقي كله، ورحت أعيش المستقبل في حاضري الذي جعله إبراهيم مرجاً أخضر وحقلًا من حقول القمح الواعدة. رحت أرى الحصاد الآتي في أحلام يقظتي، وأصبح بمستطاعي ان اسبق الزمن على جناح الحلم".
الصّبيّة فدوى كانت ذكيّة ومفكّرة وصاحبة مسؤوليّة ذاتيّة، فأدركَت أنّه "لا يكفي ان نحمل آمالًا كباراً وأحلاماً واسعة، حتى الإرادة وحدها لا تكفي ... لقد ادركت ان العمل هو الوجه الآخر للحلم والإرادة ... وقررت أن أتعامل مع هذه العملة ذات الوجهين: الإرادة والعمل". بناءً على هذه الفلسفة لم تتَّكل الطّالبة فدوى، بشكل مطلق، على معلّمها إبراهيم، ووضعت لنفسها برنامجًا يوميًّا، فكانت تستيقظ مع أذان الفجر أو قبله وتبدأ بعملها الدّراسيّ بضع ساعات قبل أن يستيقظ أفراد الأسرة وقبل أن تبدأ بأداء مسؤوليّاتها في الأعمال المنزليّة. تكتب فدوى عن ذلك: "في استغراقي في عالمي الجديد عرفت مذاق السعادة. كنت مستغرقة في عملية خلق نفسي، وبنائها من جديد، والبحث الجديد عن امكانياتي وقدراتي مما شكل ثروة وجودي". أصبح الشِّعر شغلها الشّاغل حتى وهي تقوم بالأعمال المنزليّة "كنت أقوم بأعمال المنزل وبجيبي دائما قصيدة للحفظ؛ أكوي قمصان اخوتي وبنطلوناتهم وأنا أحفظ الشعر، ارتب الأسِرة وأنا أحفظ الشعر[...]". حفظتْ فدوى في تلك الفترة الآلاف من أبيات الشّعر.
لكن،
كان لا بدّ لتلك المدرسة، "مدرسة البيت الطّوقانيّة"، أن تُقْفِلَ أبوابها، ففي هذه المدرسة طالبة واحدة ومعلّم واحد ويكفي أن يترك أحدهما المدرسة ليتسبّب في إغلاق أبوابها. فدوى الأنثى "سجينة الدّار" وساكنة "قمقم الحريم" قابعة هناك بأوامر من الذَّكَر – أخيها يوسف، فليس ثمّة إمكانيّة أن تكون المبادِرَة إلى إغلاق أبواب هذه المدرسة الّتي أحبَّتها. أمّا إبراهيم، الأخ الرّجل، معلّمها فله كامل الحرّيّة في التّنقّل والعيش أينما شاء والعمل فيما شاء. في تلك السنة، 1930، اقترح أستاذ الّلغة العربيّة في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، أنيس المقدسي، على إبراهيم التّعليم في الجامعة. وهكذا كان. انتقل إبراهيم إلى بيروت الّتي أحبّ. كانت وحشة فدوى بعد سفر إبراهيم ثقيلة، لكن سرعان ما استحدث الأخوان استراتيجيّة جديدة جمعت "التعلّم بالمراسلة"، بين فدوى في نابلس وإبراهيم في بيروت، إلى جانب "التّثقيف الذّاتيّ" و"بناء الذّات" اللّذين مارستهما فدوى. استمرّت هذه السّيرورة مدّة عامين تقريبًا (1930 – 1932). من حسن حظّنا، نحن القرّاء، أنّ فدوى وافقت على أن يقوم المتوكّل طه بجمع رسائل (أو بعض رسائل) إبراهيم إليها التي كانتْ تحتفظ بها، وقد أصدرها في كتاب عام 2000. لكن، للأسف، لا تتوفّر بين أيدينا رسائل فدوى إلى إبراهيم.
وعندما نتحدّث عن الرّسائل فإنّنا نقصد رسائل تلك الأيّام المكتوبة بخطّ اليد بالحبر، وفي رسالته الأولى (14 تشرين الأوّل 1930) يَذْكُر إبراهيم موضوع ذلك النّوع المفضّل لديه من الحبر ولم يكن يومها متوفّرًا في بيروت، فيطلب من أخته فدوى ما يلي: "فأرجوك إذا كان موجوداً منه عند الحجاوي أن ترسلي إلي زجاجة وأنا أدفع ثمنها". أضف إلى ذلك أنّ هذه الرّسائل تُرسل عن طريق "البريد العاديّ" فيستغرقها عدّة أيّام للوصول إلى هدفها. والقضيّة لا تقف عند هذا الحدّ، فكيف ستتمكّن فدوى من دراسة "تصليحات" واقتراحات أخيها إبراهيم، فيكتب إبراهيم في الرّسالة ذاتها: "يجب أن تحفظي نسخة من التحرير الذي ترسلينه لتقابلي فيها الأغلاط[...]". وهذا يعني أنّ على فدوى أن تكتب نسختين من التّحرير ذاته بخطّ يدها. وقد فعلت ذلك بكلّ سرور.
تكتب فدوى عن هذه الفترة وعن الرّسائل الّتي وصلتها من أخيها إبراهيم: "خلال العامين الدراسيين اللذين قضاهما في الجامعة ببيروت عشت على رسائله التي لم يقطعها عني، والتي كان يوجهني من خلال سطورها، ويشجعني على نظم الشعر، وكتابة النثر، والدراسة. كان قد اختار لي مجموعة من الكتب للمطالعة والتثقيف الذاتي، ولقد نظمت اوقاتي ضمن برنامج وضعته لنفسي. كرست ساعات الفجر لدراسة قواعد النحو والصرف[...] واذا كنت قد خصصت ساعات قبل الظهر لحفظ الشعر مع القيام بأعمال المنزل في ان واحد، فقد كرست ساعات بعد الظهر للمطالعة المركزة".
ومن قراءتها لرسائل إبراهيم تستنتج فدوى أنّها كانت تتقدّم بسرعة "[...] لا أكاد الآن أصدقها. فها هي رسائله تكشف لي انني أصبحت خلال عامين قادرة على كتابة رسائل وقصائد سليمة من عيوب الصرف والنحو والعروض[...]، يضاف إلى هذا حقيقة أخرى، هي عدم وجود من يوجهني في البيت أو يساعدني".
حقًّا، فمن خلال الاطّلاع على هذه الرّسائل يبدو جليًّا تقدّم فدوى السّريع وفق تقييم أخيها ومعلّمها ومحفّزها إبراهيم. يظهر هذا التّقييم جليًّا حتّى من خلال افتتاحيّات رسائله إليها، فعلى سبيل المثال يفتتح رسالته الأولى (14 تشرين الأوّل 1930) بقوله "أختي العزيزة والدرة المكنونة، القايمة من الجونة، القاعدة على أذنيها". وإبراهيم كان يحبّ الفكاهة وبهذه الطريقة كان يمازح أخته. وفي رسالته الثانية (26 تشرين الأوّل 1930) يثني على اجتهادها كطالبة بقوله "اختي العزيزة المجتهدة النشيطة فدوى دام بقاؤها[...] نهار أمس أخذت تحريرك الجميل فسررت به جدّاً". بعد مرور ستّة أشهر فقط، وفي رسالته المؤرَّخة في 25 نيسان 1931، يمنح إبراهيم أخته لقب الشّاعرة، فيكتب: "أختي العزيزة والشاعرة الماهرة". وفي رسالته المؤرَّخة في 19 أيّار 1931 يكتب: "أختي الشاعرة الماهرة فدوى دام بقاؤها" وبعد مرور أقلّ من سنة، في رسالته المؤرَّخة في 24 آذار 1932، تترقّى هذه الشّاعرة وفق تقييمه، فيطلق عليها لقبًا جديدًا بقوله "يا عروس الشاعرات".
يبدو للوهلة الأولى أنّ الإفادة من هذه الرّسائل كانت في اتّجاه واحد من المعلّم إبراهيم إلى الطّالبة فدوى. نعم، رسائل إبراهيم خدمت فدوى في الدّرجة الأولى، لكن من خلال الاطّلاع عليها يبدو أنّها خدمته هو أيضًا على المستويين الشّخصيّ والعائليّ وعلى مستوى أدائه المهنيّ في عمله كمعلّم لفدوى. فقد شكا إبراهيم همومه لأخته، ففي رسالته الثّانية المؤرَّخة في 26 تشرين الأوّل 1930 شكا لها همّه كمعلّم بقوله "منذ ثلاثة ايام وأنا في شغل مستمرّ متعب، كنت اصلّح الانشاء للتلاميذ وعددها مئة واربعون دفتراً فتأمّلي ما اكبر هذه الكمية، ثم تفكّري بصعوبة هذا العمل ومشقته عندما يكون اكثر التلاميذ ضعافا[...]". على العكس من تجربته في عمله الرّسميّ كمعلّم لم يتذمّر إبراهيم أو يشكو من "عمله" مع أخته الطّالبة، بل يبدو أنّ الرسائل بينهما كانت بمثابة مُتنفَّس يعطيه الاكتفاء المِهنيّ والشّعور بالسّعادة مقارنةً بشقائه الذي وصفه في تصليح إنشاء طلّابه، فكان دائمًا يحثّها على المزيد من الكتابة وإرسال نتاجها إليه، فيكتب إليها في تاريخ 16 شباط 1932 "خبرني الوالد أيضا انك نظمت ابياتا للانسة الممرضة فرجيني أخت فاني خميس فلماذا لم ترسليها اليّ، يجب أن ترسليها مهما كانت حتى أقرأها وانبسط بتقدمك". ولنا عودة إلى فدوى والوالد.
على مستوى آخر، كانت الرّسائل بين الأخوين بمثابة حلقة وصل بين إبراهيم المقيم في بيروت وبين البيت وأطفال العائلة، وكان إبراهيم مولعًا بأطفال العائلة، فيكتب في رسالته المؤرَّخة في 12 تشرين الثّاني 1930: "أختي العزيزة فدوة: ليست ساعةٌ عندي أجمل من ساعةٍ اتناول فيها كتابك لأنني اجد فيه اخبار البيت والأطفال فأشعر كأنني بينكم، وكأن نبيهة ونزيهة وحنان قريبات مني ألاعبهنّ واقضي معهنّ وقتاً جميلا انشّط فيه عقلي بفكاهاتهنّ الحلوة[...]".
نعم، ارتقت الطّالبة بأدائها شعرًا ونثرًا، لكنّ انطباعاتي من قراءة الرّسائل أنّ المعلّم إبراهيم ارتقى هو الآخر في أدائه كمعلّمٍ وكمربٍّ. هذه الرّسائل جديرة بدراسة متعمّقة، وسأكتفي في هذه الإطلالة ببعض الملاحظات الأوّليّة. في الرّسائل الأولى بدأ إبراهيم بالتركيز على الأغلاط في مكتوب أخته مع أنّها قليلة، ثمّ انتقل إلى ذكر مواضع القوّة. يكتب إبراهيم في رسالته الأولى المؤرَّخة في 14 تشرين الأوّل 1930: "يوجد في مكتوبك اغلاط يجب أن تتجنبيها في المكتوب التالي". ويبدأ بتفصيل هذه الأخطاء وبتصليحها. بعد ذلك ينتقل إلى الثّناء بقوله "لا يوجد غير هذه الأخطاء وهذا جيدٌ جداً وأنا مسرور كل السرور بإنشائك واعتقد أنّ في الصفّ الثاني العلمي شبّاناً يغلطون أكثر منك في أقل من صحيفة". ثناؤه كان عامًّا دون أن يذكر نقاط القوّة العينيّة فيها كما في حالة الأخطاء. وقد ركّز على دوره في تصليح الأخطاء قائلًا "اكتبي وأنا دائماً مستعدٌ لأُصلّح لك الأغلاط[...]".
في رسالته الثّانية المؤرَّخة في 26 تشرين الأوّل 1930 كتب: "[...] نهار أمس أخذت تحريرك الجميل فسررت به جدّاً ولا سيما عندما أكدتِ لي فيه انك تكتبين بدون مساعدة احد، وسررتُ جدّاً فوق ذلك بنشاطك واجتهادك ومواظبتك على الدروس والحفظ". لكن عند تطرّقه إلى تحريرها يبدأ هنا مرّة أخرى بالإشارة إلى الغلطات مع أنّها بسيطة، "في تحريرك هذا غلطات بسيطة وهي أخفّ من غلطات التحرير السابق، فانتبهي لتصليحها[...]"، وقام بتفصيل الغلطات وبتصليحها. لم يتطرّق هنا إلى نقاط القوّة في تحريرها، وتكرّر هذا التوجّه في رسالته الثالثة المؤرَّخة في 12 تشرين الثّاني 1930 رغم تأكيده لها "عندك هذه المرة غلطات قليلة[...]". مع مرور الوقت يبدأ إبراهيم بتبنّي توجّهٍ آخر يستهلّه بالتأكيد على نقاط القوّة في النّصوص الّتي يتلقّاها من فدوى، شعرًا كانت أو نثرًا. في رسالته المؤرَّخة في 22 شباط 1932 بدأ بالثّناء عليها بقوله "ولا أدري من أي شيء اتعجب اكثر من نثرك الجميل ام من شعرك المتين[...]"، وبعدها انتقل إلى تفصيل نقاط القوّة في الوزن والتّراكيب والألفاظ والنّحو والإعراب، وفي النهاية انتقل إلى ذكر الأغلاط. لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فيبدو أنّ إبراهيم كان يشعر بوحدة أخته في البيت، ففي رسائله المتقدّمة شرع يحدّثها عن صديقات وأصدقاء له في بيروت ويذكر لها في رسائله أنّه يحدّثهم عنها وعن شعرها حتّى وصل به الأمر أن طلب منها في رسالته المؤرَّخة في 16 شباط 1932 أن تكتب قصيدة عن طفلة اسمها رياض الخطيب "وترسليها الي لانني قلت لهم عنك وقرأت لهم قصائدك فتعجبوا واندهشوا وقالوا ما شاء الله هذه ستكون شاعرة كبيرة". وهكذا تقوم فدوى بكتابة قصيدة لرياض وتردّ عليها "سارة" أمّ "رياض" بقصيدة، وفدوى وإبراهيم يتشاركان في نقد القصيدة، وبعدها يشجّع إبراهيم فدوى على الكتابة بشكل مباشر إلى سارة دون وساطته واتّخاذها صديقة، ويقول إنّ سارة "ستكون مسرورة جدا بمكاتبتك كما أنك ستسرّين بمكاتبتها وتكون لك صديقة ترتاحين إلى محادثتها ومناجاتها بالتحارير[...]". وبذلك بدأت فدوى، "سجينة الدّار"، في بناء علاقات وصداقات بالمراسلة. وهي تكتب في هذا السياق: "لقد ظل إبراهيم معنياً بإعادة بنائي النفسي، وابتعاث ما لدي من ميل طبيعي الى إبراز إمكانياتي وقدراتي الكامنة. لقد ظل طيلة حياته يتغلغل بنظره الثاقب في تلك المساحات الواسعة الممتدة في قلبي، ويلمس عذابي وشقوتي بفراغ تلك المساحات، ويحس بطموحي الذي كان يغطيها. كان هو وحده الذي يراني ويحس بكينونتي ووجودي".
تؤكّد فدوى: "اذا التقى الميل الفطري بالحوافز الدافعة لتحقيق الذات أصبح الانسان مملوكاً وأسيراً لمطامحه وتطلعاته، كما ان حياته تصبح كلها وقفاً على العمل لتحقيق هذه المطامح والتطلعات، فلا تدور الا على محورها، متحدية كل المعوقات والمثبطات ومن ثم تبدأ في الظهور نتائج لا تكاد تصدق". ظهرت على وجه السّرعة نتائج لا تصدّق حتّى من قبل فدوى نفسها. وطالما حلمت فدوى برؤية قصائدها منشورة في مجلّة "الرّسالة" لصاحبها أحمد حسن الزيّات، والطريق إلى هذه المجلّة ذات السّمعة الأدبيّة في العالم العربيّ كلّه لم تكن سهلة المنال. لن يقف شيء أمام فدوى وتصميمها. ففي عدد مجلّة "الرّسالة" الصّادر في 27 آذار 1939 كانت قصيدة فدوى هناك، وتشدّد فدوى: "للمرة الاولى دائما مذاقها الخاص ونكهتها التي لا تعود بالتكرار. لقد توهج اسمي في عيني حين رأيته بين الأسماء الأدبية اللامعة المدرج في فهرس[...] مجلة الرسالة". ومن خلال الاطّلاع على فهرس ذلك العدد من مجلّة "الرّسالة" نجد اسم "فدوى" ابنة الثّانية والعشرين قد توهّج إلى جانب كبار الأدباء مثل عبّاس محمود العقّاد ونجيب محفوظ وآخرين. اللافت أنّ عنوان القصيدة كان "أبي"، وكلّنا نذكر قساوة أسرتها عليها، بمَن في ذلك أبوها. تكتب فدوى عن هذه العلاقة مع أبيها: "ظلت علاقتي الشعورية بأبي تتأرجح بين الحيادية أيام السلام والعافية، والحنو الغامر أيام السجن أو المرض". كان أبوها من الثّوّار خلال الثّورة الفلسطينيّة الكبرى (1936 – 1939) وقد اعتقلته القوّات البريطانيّة سنة 1939 وزجّت به مع مئات الثّوّار في سجن عكّا في شمال فلسطين. كان الوالد مريضًا واشتدّ المرض عليه وهو في السّجن. ما أعظم هذه الشّابة المسامحة الكريمة الّتي تكتب في تقديمها لقصيدتها المنشورة في "الرّسالة": "إلى النبراس الذي يضيء أفق حياتي، إلى ذلك العزيز الذي يتململ الآن على فراش المرض في ظلمات السجن، إلى أبي". وفي ذيل القصيدة وقّعت اسمها "فدوى"، أمّا اسم مدينتها فوقّعته "جبل النّار"، وهو لقب مدينة نابلس – مدينة الثّوّار البواسل.
لم يكُن لدى إبراهيم أيّ علمٍ بالقصيدة. أرادت فدوى أن تفاجئه بقصيدتها بعد نشرها، وكانت مفاجأة الأخ إبراهيم كبيرة، وكتب لها رسالة بريديّة قصيرة بدأها بقوله "يا أم التمام[...]"، وأضاف: "ان الأستاذ اسعاف النشاشيبي والأستاذ خليل السكاكيني واخرين قد حدثوه بشأنها وكلهم يثني عليها أطيب الثناء!". وهذه شهادات غير سهلة المنال من رجلين من كبار الأدباء والعلماء في الّلغة.
تتالت كتابات فدوى في مجلّة "الرّسالة" كما في مجلّات أخرى، وإلى جانب ثناء كبار الأدباء كان ثمّة ركنٌ دافئ في قلب فدوى لثناء ودعم أعزّ معلّماتها إلى قلبها السّتّ فخريّة الحجّاوي، أتذكرونها؟ تكتب فدوى "كانت (الست فخرية) تفرح بما تقرأ لي في الصحف، وبالذات في مجلة "الرسالة" المصرية، وكانت تملأ نفسي وتفعم شعوري وهي تشجعني وتثني على تقدمي في مسيرتي الشعرية. كنت حين التقي بها لا أجفل من التحدث اليها عن كتاب قرأته أو قصيدة نظمتها، اذ كنت أجد عندها تجاوبا واصغاء مرهفا يبعث في نفسي وهجا لطيفا وغبطة عميقة".
أمّا بعد،
تؤكّد فدوى: "وخرجت بنت الحياة الى أمها الحياة، وكانت صادقة كل الصدق، فطالعتها بوجه طبيعيّ أصيل هو الوجه الذي يصرّ المجتمع بقوانينه وتقاليده الصارمة على تزييفه، وإضفاء قناع كاذب عليه. ولم تكن بنت الحياة أنانيّة، أخذت وأعطت، وكان العطاء قانونها في الحياة تعمل به، فقد كان جزءاً لا ينفصل من طبيعتها[...] وحان الوقت لتتكلم بنت الحياة، وحين تتكلم امرأة صادقة فالحياة هي التي تتكلّم". وهل من شاهد على عطاء بنت الحياة شاعرة فلسطين فدوى طوقان أفضل من المتوكّل طه، ففي مقدّمته للكتاب الّذي جمع فيه رسائل إبراهيم إلى فدوى يكتب: "أما تواضع شاعرتنا الكبيرة الجمّ والعفوي فهو أول ما يستوقفك منها، هو تواضع تشعره من طريقة كلامها وتقديمها لنفسها وحديثها عن شعرها أو عن معارفها وأصدقائها، وهو تواضع يكاد يشعرك بأنها غير موجودة رغم حضورها الساطع والطاغي[...] وهي أم روحية لنا جميعاً، فعلى أشعارها كبرنا وتفتحنا[...] تواضعها الشديد جعلها تقدمنا على نفسها في الأمسيات الشعرية في أماكن مختلفة، رغم أننا لا نطاولها قامة، ولا ننافسها على قمة تتربع عليها".
والحياةُ بالحياةِ تُذْكَر، فلبنت الحياة فدوى ولأخيها إبراهيم طوقان "قصّة عجيبة غريبة" في موضوعات الشِّعْرِ والحياة والموت مع الطّفل إبراهيم نصر الله. وللتّعرّف على هذه القصّة فإنّ طائرات أطفال مخيّم الوحدات للّاجئين الفلسطينيّين ستعود بنا في إطلالتنا القادمة من بيروت ونابلس إلى المخيّم في عمّان لنلتقي بالفَدوَيَين وبالإبراهيمَين.
ألقاكم/نّ بخير.