السبت ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٠
بقلم أحمد الغرباوي

‏«عاطف عباس» إنسان غير كُلّ الناس.. (4)

إنّه الصديق الراحل (عاطف عباس).. إنسان غير كُلّ النّاسِ.. مُتميزًا ومتفرّدًا بما حَباه الله.. وفى أشدّ لحظات المرض (هو) نفس المخلوق النّادر وأكثر.. صالح السَّريرة.. عَذْب فى صبره.. وراضيًّا مُبْتسمًا بمُرّ البلاء؛ وبِكُلّ ماتأتى به الأقدار..
جميلُ الصّفح... كريمُ العفو والصفح؛ حتى يستحى منه المَكْر واللؤم.. لايفسر ولايُبدى رأيًا إلا بالخَيْر.. ولايرى فى النّاس ـ كُلّ الناس ـ إلا خيرًا... وفى ظلّه؛ يسترُ برودة ورعشة حضورك بألف ألف ودّ ودفء وعشرات الأعُذْار..

هو حقا (اسثنائى) الوجود.. ويعلو فوق كُلّ ماهو موجود.. ولا فرق عنده بَيْن الوجود حيًّا.. والوجود مَوْتًا.. إنّه العبد العائش على الأرض.. يُرافقُ العُمْرِ والأقْدارِ رَضِيًّا..

وكم من عَيْن أبْصَرته مَرّة واحدة.. فسكنت الروح نبتًا.. وأثمرت فى النفس عطاءً أبدًا..
لمرّة واحدة يرى صديقى وجه الملائكى؛ وهو يأتى ليسلّم علىّ بمكتبى؛ عقب عودتى للعمل من رحلة طويلة والمرض.. فلمّا علم برحيله، يجد نفسه تلقائيًا يدعو له يوميًّا..
سبحان من يهيئ للعبد الصالح بميزان حسناته؛ من يدعو له بعد موته بظهر الغيب..!
وكم من صديقٍ لم يكن ذا قرابةٍ... ولكنّه في القلب دومًا من الأهلِ وأعزّ الأحباب.. وورزقٌ من الربّ من غير موعد..

إنّه الصديق الراحل (عاطف عباس).. رجلٌ من شركة بترول بلاعيم (بتروبل).. مُجَرّد (إنسان) .. ولكنه أيقونة كُلّ المعانى المقدّسة بالرسالات السماويّة، والمفتقدة بحاضر (الإنسانيّة).. والتجسيد الحَىّ للزمن الجميل قولًا وفعلًا.. غيّب الموت جسده عنّا.. واستدعاه ملك الملوك..

ولكنه الشّعور بالفقد يجْلدُنا.. وفيوضات الحُبّ تسرى بحنايْا الرّوح مروّعًا غصبًا..
وفي أيّامٍ تمرُّ كالأحلام.. نهارها براء وطهر ونقاء سرائر الخَلْق الأول.. كنّا أنا وأنت كالروح للجسد.. والجسد للروح..

مَنْ هذا..؟ ومَنْ ذاك..؟ لايهمّ..

رزق الله الأعظم أن نظلّ معًا.. وإنْ لم نعُد نقف خلفك فى صلاة ظهر.. أو يحتوينا حُضن تحايْا الصباح.. أوأنعمُ برؤيتك؛ وأنت تعبرُ الشارع لتدخل الشركة، حيث أتابعك من نافذة مكتبى..فيُشرق بدايْات العمل أريحيّة وتفاؤل، ونبوءة نجاحات مسارات عَبْدٍ، وانتظار خَيْرات سماوات ربّ..

ويتهادى إلى بصيرة النفس هدوء صَوْتك.. ينقلُ إلىّ بوح الأمن والسلام.. وابتسامات المَرْضىّ عنه من الخالق عزّ وجلّ.. ومن الشجر الوارف خلف حجرتى؛ تهبّ ينع الخُضرة.. وكأنّها تأبى أن نستأثر بإشراقات الدّوْحِ.. وتمرّغات العصافير بحشائش الرَوْضِ؛ تدغدغ جوانبى..

تجذبنى نداهةُ وجودك الأثير الآثر.. وأصعدُ إلى مكتبك بالدور السادس.. فرحة طفل ذى شعر أبيض.. وتدلّل شاعر، يلهو واستراحة المُبْدع بظلال نشوة الخَلْقِ الفنىّ.. وربّما خطو شارد لايزل يحبو.. تدفعهُ الريح.. ويتدحرجُ مابَيْن الفقد والتيه.. وأحملُ إليْك إخلاص الوَجْدِ.. وأمانة دُرّ تكوينك بداخلى.. وأؤكّد لك أنك (هو)..

(هو) أنت صديقى الجميل بكامل تفاصيلك.. لم أضع شيئًا.. وأعلن لك كَمْ فى الله نحبّك أخى العزيز..

كانت أيّامنا حبيبى ـ عاطف ـ كالعطر تفترشُ الطرقات.. إطلالات أوّل حُبّ يعسّس بقلب عذراء؛ أوّل وشوشات زخّات فجر على نافذة القلب.. سطورخالدة.. كرمٌ دائمٌ؛ لا يلتمش شكرًا؛ ولا جزاءًا بشريًّا.. كُلّ حرف يبدأ منك، ويرتدّ إليك.. و
وكنت أنتّ الغَيْمة.. تسّاقط غيْثًا من سموّ ورُقىّ حَيْاة.. أجملُ ما يرزقنا الله بكّ؛ مسيرة كرّنا وفرّنا؛ التى يتسابق على اقتناصها الليل والنهار دون جَدْوى..

وكنت أنتَّ على الأرض لنا رَوْعات ألوان قوس قزح.. تمهّد رَواحنا ومجيئنا.. ومنذ عرفناك؛ لم تعدّ مُعلّقة بالسماء بلا طائل.. بعيدة المنال..

وكنت أنتًّ لنا سُلم الآمال، ومنتهى سفح الأمنيّات.. وأجنحة الأفراخ التى لا تزل تتعلّم الطَيْران.. وريح الشتاء تحملُ ببطن كفيّها أوراق الخريف الصّفْراء.. وتصعدُ بها إلى الأشجار.. ولم تتأخّر عن حاجتنا أبدًا.. وتُعِن الغرباء دون سؤل.. وتأوى دون ذُلّ أو إنكسار نفس.. وعليك تنهالُ وتنهالُ الدعوات..

وتتساءل شقيقتك:

ـ أخى ماذا كان بَيْنك وبَيْن الله من أسرارِ وصلٍ؛ حتى يدعو لك كُلّ هؤلاء الناس..!
،،،،،
وكنت أنت ـ حبيبى عاطف ـ الإنسان النادر.. كأزهار الياسمين؛ شذاها المعجز؛ يكفى ليراه الأعمى..

وترحلُ.. ويخيّم الضباب الكثيف. ونشعرُ أنّنا عُراة، لايسترنا شئ..

بمن نتدثّر..؟ بمن نتزمّل..؟

وفقدك يحملنا وأجنحة المجهول عَنْ الملاذات الآمنة بالدنيا.. وعن عمد؛ نستفق؛ فنجدُ العالم وقد يختفى.. وكُلّ المعانى اللازمة لسُبل العيْش تتشوّه.. والوجوه باهتة.. والخداع يأبى أنْ يتركنا.. فما أغلب من قرّر أنْ يرتدى الأقنعة.. ونتعثّرُ فى ظلمات دروب.. وتفرُّ الشمسُ، هاربة خلف سَواد السُّحب؛ بسجن غَيْمات كئيبة؛ تُعَاندُ الزوال..
مكتبك بالدور السّادس.. سجادة الصلاة بالبوفيه.. الكراسى التى كانت تجمعنا.. وحولك الشباب.. لآخر لحظة تعلّمهم كُلّ معانى الأصالة والأمانة والوفاء.. و.. ونستمرّ سويًّا نذكّر أنفسنا بدوام الدّعاء لك.. ووهبك ثواب الفاتحة..

ولا يزل اّلحزن داخل حَيْاء الصّمت.. شرنقة سُرادق عزاء حُبْلى بالأسى والبَأسِ.. وكأننا أحلام مُتعسّرة.. مُعَلّقة بمايأتى به صندوق بريد الغَدّ.. رغم يقيننا؛ أننا ننتظر ما لايجئ.. نوعٌ مِنْ التذكّر.. وأمنية لحَيْاة ثانية بَيْن أطلال جمال سيرتك.. وعذوبة بَعْث حضورك.. مَنْ يدرى؟

رُبّما تنقذنا من عالمٍ مشنوق فى نفسه.. طُرقاته مُمْتلئة بعصافير مُرتعدة، فتربتُ عليها.. وفى سكونٍ مُميت؛ ترقدُ الطيورعلى الأرصفة المهجورة دامعة العينين.. تتطلّع إلى الأعلى؛ مُلتمسة أجنحة الفَجْر..

وأعلمك حبيبى؛ أنّ اليمامتين العاشقتين على السطح المعدنى بالدور الثالث بشركتنا (بتروبل)؛ صرعهما الجوّ القارص.. ولم يجد إلا الذباب الطنّان ينعى حُبّهما..

وهانحن دونك؛ أمام الراكية الناريّة؛ طويلًا طويلًا ينامُ قطّ الوفاء.. يأس من العالم كأرملة وحيدة.. وباتت شجرة الحُبّ، التى كُنْتُّ أنتظرك وسيارتك بجوارها أمام سورالشركة؛ صلعاء الأغصان.. وترمينا بروائح الغابة.. وبصوت أجشّ لضفدع نافق؛ تلفّنا أمواج حُزْن.. وتلطمنا أسماك نافقة..
،،،،،،

وترحلُ أخى الحبيب (عاطف)..

وبَيْن أرْوَاحنا تلفظُ أزهار الياسمين أنفاسها.. ويخلفُ لنا الشتاء مِعْطف اليُتم الكثيف.. وبشحوبٍ مُخيف يرمينا القمرُ المَخْنوق.. وتوصد الأسَّحَار أبوابها عن تسلّل الحَيْاة.. وتكادُ تختفى الصَّباحات.. ومن ليالينا تهربُ الأمنيّات وأمان الأمسيّات، إلا مِنْ نسائم دون معنى.. بشحوب مخيف..

وليس لدينا القدرة على تنفّس الصّعداء.. مَجْرَى الدّمع بالشرايين والأوردة غصب روح.. والضّفاف تنساب نحو الأعماق..

حبيبى الغائب الحاضر:

ـ هل الأرض لم تعُد ترغبُ فى الإنجاب..؟
كيف تسأمُ مِنْ الأمومة، وهى رَحم ونبع الحَيْاة..؟
حبيبى.. هنيئًا لك بجنان الرحمن.. وأنعم المنّان..

......

رحمة الله على الزميل العزيز (عاطف عباس) مدير عام بمكتب المدير العام الإيطالى بشركة بترول بلاعيم.. ولا تزل سيرته تؤكد أنه النموذج الأمثل للخلق البشرى.. والقدوة المُثلى.. الجديرة بالاقتداء فى مسيرة رجالات بتروبل..

مع الشكر والتقدير لنشر المقالات الثلاث السابقة؛ تحية واعتزاز لروح الراحل العظيم، والإنسان النادر، والعبد الصالح (عاطف عباس).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى