الاثنين ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
مساقات
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

6-من الحكايات الأُسطوريَّة في جنوب الجزيرة العَرَبيَّة

(الأصول والهجرات والتلقِّي: مقاربات مقارنة)

 1-

أشرنا في المقال السابق إلى نموذجٍ من تراثنا القصصي الشَّعبي في جنوب الجزيرة العَرَبيَّة، وإلى أنَّ النموذج الآخَر منه هو تلك الحكاية الأُسطوريَّة التي تُعْرَف في جبال (فَيْفاء) بحكاية «مَيَّة ومَجَادَة»(1)، والتي تلقَّيناها من أُمَّهاتنا أطفالًا، قبل أن نعرف التِّلفاز والأفلام والعالَم الآخَر. وبالمقارنة، يبدو أن تلك الحكاية تُـمَثِّل الأصل العتيق لما أصبح يُعْرَف عالميًّا بأُقصوصة «سندريلا»، التي اتَّخذتْ صِيَغًا عالميَّةً متنوِّعة، وبلُغاتٍ شتَّى. لعلَّ أشهرها النُّسخة العالميَّة التي صاغها الفرنسي (شارلز بِراولت Charles Perrault، 1628- 1703)، والتي أُنتِجت فيلمًا للأطفال، 1950، مع الرسوم المتحرِّكة من قِبَل شركة (والت ديزني Walt Disney).

ثمَّ في القرن الثامن عشر ظهرت قِصَّة الألمانيَّين (الأَخَوَين جريم Jacob and Wilhelm Grimm)، بعنوان «كلّ أنواع الفِراء Allerleirauh»، ضمن كتاب «الأطفال وحكاياتهم المنزليَّة Kinder- und Hausmärchen»، الذي نُشِر في (برلين، بألمانيا)، في جزأين، صدرَ أوَّلهما، للمرَّة الأُولى، عام 1812، والآخَر عام 1815.(2)

كما وُظِّفت فِكرة (سندريلا) في الكثير من الأعمال الأدبيَّة الكلاسيكيَّة في القرنَين التاسع عشر والعشرين، فضلًا عن الأفلام السينمائيَّة، منذ فيلم «سندريلا أو النَّعْل الزجاجي الصغير Cinderella or The Little Glass Slipper»، (نيويورك: ماكلوكلين براذرز، 1887).(3)

 2-

ومن أصداء حكاية (مَيَّة ومَجَادَة) ما نجده في تراث بادية الجزيرة العَرَبيَّة في قِصَّة المَثَل الشَّعبي:

عُلِّمَتْ (مَيْ) واخْذَتْ العِلمْ (ماجْدةْ)
عَلّ (مَيْ) ما جابتنْها الوالدةْ!

ونقرأ نحو هذه الحكاية لدَى أهالي بعض دول الخليج العربي أيضًا.(4)

أمَّا البحث المقارن في أصول (سندريلا) ونُسَخِها العالميَّة، فيبدو عتيقًا في الغَرب، وبحرًا زاخرًا، كما ذكرنا في المقال السابق. وثمَّة، إذن، فئتان من نماذج سندريلا في العالم، الأُولى نماذج حُوِّلت إلى أعمال سينمائيَّة عالميَّة، والأخرى نماذج مأثورة شعبيًّا من ثقافات مختلفة، في إيطاليا، والسويد، وفينلاندا، وسَرْدِينيَة، وإنجلترا، وروسيا، وآيسلندا، والولايات المتحدة الأميركيَّة، وكَنَدا. غير أنَّ أوضح النماذج شَبَهًا بأُسطورة مَيَّة ومَجَادَة: (النموذج الفرعوني)، وهو أُسطورة الفتاة المِصْريَّة (رودوبيس)، التي تُدعَى حديثًا: «سندريلا المِصْريَّة»، والتي سجَّلها المؤرِّخ الإغريقي الروماني (سترابو)، في القرن الأوَّل قبل الميلاد، وأعادت إنشاءها الأميركيَّة (شيرلي كليمو Climo Shirley) ، في بناءٍ سرديٍّ متخيَّل. وهناك (النموذج العراقي)، وهو قِصَّةٌ منسوبةٌ إلى المأثور الشَّعبي العراقي، نُشِرت باللغة الإنجليزيَّة، بعنوان «الصندل الذهبي: سندريلا الشرق الأوسط»، تأليف (Rebecca Hickox ربِكَّا هيكوكس)، من (جامعة ولاية بنسلفانيا)، في (الولايات المتَّحدة الأميركيَّة). وهي مؤلِّفة كُتبٍ للأطفال. نَشَرت هذه القِصَّة في 32 صفحة، عبر دار نشر (هوليداي هاوس Holiday House )، 1998. ولم نعثر على الأصل العراقي لهذه القِصَّة. على أنَّنا نقف على نماذج في كتاب (كوكس) تحمل ملامح شَبَهٍ مع هذا النموذج المنسوب إلى (العراق). وكذا (النموذج الأفغاني)، الذي نشره (دوندس أَلِن Dundes Alan)، في (نيويورك)، 1982، ضِمن كُتيِّبٍ حول سندريلا.

 3-

وليس من العجيب، ولا النادر، أن نقف على توارد الشعوب على بعض الحكايات الشَّعبيَّة. وقد يكون تشابُه حكايتين ناتجًا عن اقتباس إحداهما عن الأخرى، وقد يكون لاقتباسهما معًا عن حكاية ثالثة. ولا يحفل الأدب المقارن من ذلك- حسب مدرسته الفرنسيَّة التقليديَّة- إلَّا بما ظهرت بين نصوصه أوجه تشابهٍ بارزة، لا تكفي التجربة الإنسانيَّة، المشتركة بين البشر، وحدها لتعليله. وعندئذٍ يأتي البحث عن العلاقات التاريخيَّة بين النَّصَّين، بما يسوِّغ الزعم بأن هذا أخذ عن ذاك، وليس العكس، أو عن منبعٍ مُشترَكٍ بينهما. ولا معلومات أمامنا يُستَند إليها للإجابة عن الأصل والتقليد في شأن سندريلا. وأنَّى، ومثل هذه المأثورات الشَّعبيَّة مجهولة التاريخ والمُنشِئ، حتى في موطنها الأصلي؟ ولكن هل معرفة الإجابة في هذا مرهونة بالوقوف على علاقات تاريخيَّة بين نَصَّين؟ إنَّ دراسة نَصَّين مقارنَين بإمكانها أن تكشف عن تلك الإجابة؛ من حيث هما الوثيقة العِلميَّة، الأحرى- إذا دُرِست بِنياتها- بتِبيان الأصيل من التقليد، ومِن ثَمَّ الأخذ بيد القارئ إلى أصل الحكاية، ورَحِم النصِّ الأوَّل.

للحديث بقيَّة.

(1) يُرجَع إلى تفاصيل تلك القصَّة في كتابنا: هِجرات الأساطير: من المأثورات الشعبيَّة في جبال فَيْفاء إلى كلكامش، أوديسيوس، سندريلا (مقاربات تطبيقيَّة في الأدب المقارن) ، (الرِّياض: كرسي الأدب السعودي- جامعة المَلِك سعود، 2015)، 81- 104.
(2) تضمَّنها كتاب: (Lang, Andrew (ed.), (1892), The Green Fairy Book, (London: Spottiswoode & Co.), 276- 000)، تحت عنوان: «Allerleirauh; or, The Many-Furred Creature».
(3) وقُدِّم الفيلم [بتصريح من مجموعة (إلويس رمزي) لأدب الشباب، مكتبات الجامعة، جامعة ولاية واينWayne State University].
(4) انظر: الفَيْفي، عبدالله بن أحمد، هجرات الأساطير، 105- 111.

(*) هذا المقال جزء سادس من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّم موجزها في (نادي جازان الأدبي)، مساء الأربعاء 3 مارس 2021. للمشاهدة على موقع "يوتيوب": https://bit.ly/3j1diLd
(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى