السبت ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
مساقات
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

8-من الحكايات الأُسطوريَّة في جنوب الجزيرة العَرَبيَّة

(الأصول والهجرات والتلقِّي: مقاربات مقارنة)

«1»

أشرنا في المقال السابق إلى أنَّه من المقطوع به- مَنْطِقًا وواقعًا- أنْ لا احتمال يُذكَر في أنْ تكون الحكاية الأُسطوريَّة التي تُعْرَف في جبال (فَيْفاء) بحكاية «مَيَّة ومَجَادَة» قد جاءت محاكاة لأقاصيص (سندريلا)؛ وذلك لأسباب موضوعيَّة: نصوصيَّة، وثقافيَّة، وتاريخيَّة. فإذا صيغ السؤال على النحو الآتي: تُرى أيّ نصَّين من النصوص يبدو أقرب إلى الأصل، أ حكاية بدائيَّة طويلة- مركَّبَة، ذات أسبابٍ اجتماعيَّة، في نسيج أقرب إلى المعقول والواقع، ذات نهايةٍ طبيعيَّةٍ متساوقةٍ مع بدايتها- أم قِصَّة مقتطفة، مجهولة البدء والمنتهى، محلَّاه بعناصر حضاريَّة: كفكرة تلك النَّعْل الخرافيَّة، والمجتمع المَلكي، وما إلى ذلك؟ ستبدو الإجابة: إنَّ الأقرب إلى التصوُّر أنْ يكون النصُّ الأوَّل هو الأصل، لا المحاكاة. ولو كان هو المحاكاة، لما غاب من عناصره أبرزُ المكوِّنات الرمزيَّة، في معظم «سندرلَّات العالم»، ونعني: فكرة «الحذاء»، و«القصر المَلكي»، و«زواج البطلة بأميرٍ أو مَلِك». فكيف يصحُّ افتراض أن أُسطورة «مَيَّة ومَجَادَة» متأثرةٌ بتلك القِصص النمطيَّة، ولم تسمع بأبرز ما فيها من عناصر، ظلَّت تتردَّد أصداؤها في «سندرلَّات العالَم»؟!

لكن ماذا عن النموذج الذي يُعْزَى إلى زمنٍ سحيقٍ، كالنموذج المِصْري؟

إن ما ساقه المؤرِّخ والجغرافي، الفيلسوف الإغريقي الروماني، (سترابو)، في كتابه المعروف بـ«جغرافيا سترابو»، حول الحكاية الخُرافيَّة، لاقتران (رودوبيس) بمَلِك مِصْر، وهو ما سُمِّي حديثًا بـ«سندريلا المِصْريَّة»، إنَّما تتمثَّل الفكرتان المحوريَّتان، اللتان يشترك فيهما مع أقاصيص سندريلا، في: فِكرة التحوُّل من حالٍ وضيعةٍ- نسبيًّا- إلى ذُروة المجد والجاه والسعادة. ثمَّ فكرة أن تكون النَّعْل هي الوسيط لحدوث ذلك التحوُّل. وقد أجرت الكاتبة الأميركية (شيرلي كليمو) تكييفًا لحكاية (رودوبيس)، لتبدو نموذجًا من نماذج (سندريلا)، بإضافة تفاصيل من خيالها، مع الإغراق في تصوير مأساة البطلة- التي كانت امرأةً لا فتاة صغيرة- قبل أن يحالفها القدر، على نحوٍ خرافيٍّ، فتصبح مَلِكة (مِصْر).

يبقَى السؤال: ما شأن (سندريلا الألمانيَّة)، أو الأوربيَّة، التي حُوِّلت في القرن العشرين إلى فيلم؟ كيف تألَّفت ممَّا تألَّفت منه من عناصر؟

من الواضح أن تلك الأُقصوصة المُفَلْمَنَة جاءت نتاج تأليفٍ بين حكايتين: (أُسطورة مَيَّة ومَجَادَة)، و(حكاية رودوبيس) المنسوبة إلى مِصْر. أخذتْ من الأُولى فكرة اليُتْم، واضطهاد امرأة الأب للبنت اليتيمة، وما ترتَّب على ذلك من معاناة هذه البطلة، ثمَّ أضافت من الأخرى فكرة (motif) الحذاء، (مفتاح التحوُّل الفجائي في حياة البطلة)، من فتاةٍ متواضعة الحال إلى مَلِكة متوَّجة.

«2»

فكيف ترحَّلت حكاية (مَيَّـة ومَجَادَة)؟

إنَّ هناك أسبابًا تاريخيَّة محتملة كثيرة لانتقال حكايةٍ شعبيَّة ما، أو نصٍّ أدبيٍّ، بين الشرق والغرب، نذكر منها ما يأتي:

1) ما يشير إليه بعض الدارسين من أن الحروب الصليبيَّة كانت جسرًا لنقل كثيرٍ من القصص التي كانت منتشرة بين الشعوب المشرقيَّة، عربيَّة وغير عربيَّة، في القرون الوسطى. وبوسعنا أن نُضيف هنا أنَّ ذلك النقل لم يكن مقصورًا على المكتوب، إنْ وُجِد، بل إنَّ المحكيَّ، بطبيعته، أكثر قابليَّة للتَّفَشِّي والانتشار والهجرة.
2) عامل السَّفَر والمحادثات، الذي عن طريقه كانت تنتقل بعض الحكايات الشرقيَّة إلى الغرب.
3) ثَمَّةَ مَعْبَرٌ أهمُّ ممَّا سبق، هو مَعْبَر (الأندلس). بل حضورها الوهَّاج في خاصرة القارَّة الأوربيَّة. وقد ظلَّت تَضُخُّ الثقافة العربيَّة في عُروق (أوربا) طوال ثمانية قرون. وفي ما يتعلَّق بموضوعنا، لا ننسى هاهنا أن معظم قبائل الأندلس العربيَّة، الفاتحة أو المستقرَّة، كانت من (اليَمَن).
4) إنَّ العَرَب والمسلمين، ومهما تعدَّدت مواطنهم وتباعدت ديارهم، كانت تجمعهم مواسمُ سنويَّةٌ للحَجِّ، وملتقياتٌ كثيرةٌ خلال أداء العُمَر أو الزيارات. وهي مواسمُ وملتقياتٌ ثقافيَّةٌ، بمقدار ما هي دِينيَّة، تَلُمُّ شتات الشعوب الإسلاميَّة من أطراف الأرض. حتى إذا عاد هؤلاء من رحلاتهم الدِّينيَّـة، عادوا محمَّلين بالأحاديث والحكايات والأخبار، ممَّا كانوا قد أخذوا بأطرافه بينهم وسالت بأعناق مطيِّهم الأباطح، كما عبَّر (كعب بن زهير). مُزَجِّين أيـَّام سَفَرهم وليالي سَمَرهم بتلك الحكايات والأخبار والأحاديث.
5) عُنِي الغربيُّون في القرون الأخيرة برواية الأخبار والحكايات عن شعوب العالم، ومنها شعب الجزيرة العربيَّة، الذي نقل عنه المستشرقون- من رحَّالةٍ وباحثين أنثروبولوجيِّين وسواهم- تراثًا واسعًا وبالغ الثراء، اندثر بعضه بين ظهرانيِّ أهله.
لذلك فإنَّ الطُّرق المحتملة لانتقال الحكايات الشَّعبيَّة بين المشرق والغرب جِدُّ متعدِّدة، وعَبر العُصور.

(*) هذا المقال هو الجزء الأخير من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّم موجزها في (نادي جازان الأدبي)، مساء الأربعاء 3 مارس 2021. للمشاهدة على موقع "يوتيوب": https://bit.ly/3j1diLd

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)
p.alfaify@gmail.com
https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى