السبت ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم ميلود بنباقي

تشابـــــــــــــــــــــــــــــــــك.

حين يتعب من النظرإلى الجرح النازف في قدمه اليسرى، يحول عينيه الذاويتين إلى الأفق البعيد الممتد أمامه كطفولته وأحلامه الغابرة. يترقرق دمع دافئ ومالح على خديه المتورمتين ويسيل أنفه، فيبتلع السائل أو يمسحه بيديه. يضطرب تنفسه ويكاد يجهش بالبكاء.

يعض على شفتيه الشاحبتين ويتنهد عميقا كالبحر، كموجة هاربة من الماء والملوحة. يفرقع أصابعه ويستلقي على ظهره. تصله رائحة الصباح رطبة مضمخة بأحلام الليل ونباح الكلاب الضالة. تدوخه رائحة التراب. آه! كم تبدل هذا الوجع! كنا نشم حكايات الأجداد وعرق الآباء وشقاوة الصبا كلما انبطحنا على هذه الأرض، الآن أصبحنا نشم البكاء والحنين ورائحة الدم والخيانة وصدى لغط الأطفال وهم يهربون من قصف إلى قصف. صرنا نشم روائح جثث فر مشيعوها قبل إتمام صلاة الجنازة باحثين عن أقرب ملجإ إلى المقبرة. صرنا نشم رائحة الألم فيك أيها التراب.

الريح كانت تعصف جنبه، وفي صدره كان الحزن يحتل مساحة أكبر من حجم الصدر وأعتى من أضلعه. تعتصر الهواجس السوداء قلبه الواجف ويكاد حلقه يختنق من الألم والضياع. حين رفع رأسه إلى السماء وهو مستلق على ظهره فوق التراب، رأى السماء تنظر إليه مذهولة وعلى وجهها بقايا نعاس. رأى الشمس تحدجه بنظرة متسائلة، معاتبة، باحثة عما كان في هذا المكان ولم يعد.

أحس برغبة عارمة في بكاء عنيف وصاخب. بكاء مر، طويل، يبتدئ بشهقة مجلجلة ورجفة عنيفة تخض أطرافه وبواطنه، وينتهي باسترخاء كامل، فتنمل الأطراف ويدب الوهن في سائر البدن ويشل الفتور المفاجئ الحركة والفكر والهواجس السوداء. أحس برغبة عارمة في الانفجار، في التشظي، في الانكسار، في الانمحاء من هذا الوجود، في الهرب من ذاته، في الاختفاء عن نفسه... في شيء لم يحدث أبدا... في التحول إلى شخص آخر أو كائن آخر... لكنه لم يستطع شيئا. لم يقو حتى على البكاء. خانه الدمع وأبى صوته أن يترهل ويتقطع ويختنق. خانته الشهقة والرجفة وأبى الحزن الرابض في سراديب نفسه وممراتها السرية أن ينفجر ويتناثر حمما وشظايا...

آه, كم تبدل هذا الوجع! الدمع يجفوه وهو في أمس الحاجة إليه, يرحل عن عينيه الحمراوين ولا يهطل منهما مدرارا كأمطار الخريف الأولى. الشهقة اللازمة للبكاء تنأى عنه واختناق الصوت يجفوه في هذه اللحظة الصعبة. تخونه القدرة على تحرير الهموم المنتصبة جبالا شاهقة في ثنايا نفسه، في أعماق أعماقه، أو فيما تبقى من أعماقه. ما عاد قادرا على شيء سوى الاستسلام للحزن والألم، والاستلقاء على ظهره فوق تراب لم يشف بعد من ندى الليلة الماضية. هو ينتظر شيئا لن يأتي، لن يحدث، وينظر ببلاهة المستسلم وبلادة المهزوم إلى الأشياء وإلى قدمه اليسرى. يتنفس بصعوبة، يتجرع ريقه الناشف يعالج به بحة وحرقة في حنجرته.

الجبل يرتفع أمامه كالقدر العنيف، يطاول السماء، يطارد الشمس في النهار والنجوم في الليل، ويذكره بما كان. برائحة التراب الأولى. يذكره بقوة الشباب وحماقات الصبا، بمغامرات طفولة بئيسة تبددت أحلامها على صخرة الاحتلال الجاثم على الأرض والصدر، وتكسرت عرائسها وطائراتها الورقية وأحصنتها الخشبية... على فوهات المدافع وهدير الدبابات وأحذية جنود لم يلعبوا في طفولتهم بما فيه الكفاية، واتفاقات هدنة تنهار قبل غروب شمس اليوم الذي وقعت فيه. طفولة شاخت في أقبية الملاجئ وذوت زهرته في عتمة حصار لا يرفع إلا ليخلي المكان لحصار آخر أطول وأقسى من سابقه. طفولة تساقطت وريقاتها وتبدد عنفوانها بين خيبة وأخرى، خبأت لعبها ودفاترها وممنوعاتها وأسرارها تحت الردم وتلال الأنقاض المنتشرة في الدروب والحواري والساحات. أضاعت غنائمها الصغيرة بين حرب وحرب. بين هوس وهوس.

الجبل وحيد مثله في هذا الصباح، مهجور، موحش وحزين حد الانهيار والانتهاء. يبدو مقفرا على غير عادته في هذا اليوم العصيب. حتى الطيور هجرته زاهدة في أعشاشها وفراخها وذكرياتها القريبة والبعيدة. قطعان الماشية لم تطأ سفحه منذ اشتداد حمى الوعيد والتهديد واقتراب أسراب الدبابات وجحافل الجنود منه.

لو كان اليوم غير هذا اليوم الأسود، لو لم تزمجر الدبابات وتسحق التراب والحصى والأرواح التي في الأجسام المنهكة تحت أقدامها الفولاذية الرهيبة، لو لم تمطر الطائرات هذه المدينة الصغيرة حقدا وقذائف ودمارا، لو كانت الأرض تدور ضد عقارب الساعة، لو كان القطب الوحيد غير وحيد ويتيم. لو كان العالم غير العالم والإنسان غير الإنسان... لرأى هذا الجبل كما تعود أن يراه دائما، منذ طفولته الغابرة إلى الآن، أي إلى كهولته البئيسة... لو كان العالم غير العالم والإنسان غير الإنسان، لرأى ألسنة النيران تلمع وسحب الدخان الأسود تسبح فوقها معلنة للملأ أن الرعاة والحطابة قد تحلقوا حول مواقد النار للاستدفاء أو تهييء الشاي. ولامتلأت خياشيمه بروائح تلك السحب وهي تشق عنان السماء وترتفع فوق أطراف المدينة ممزوجة بأعمدة غبارتثيرها حوافر المواشي والدواب وترتفع في الجو متمايلة، متموجة، ملتوية، ترسم أشكالا ومناظر ودوائر كدوائر هذا الزمن الصعب، البئيس... ولرأى كواكب الأطفال والرجال والنساء وهم يغدون ويروحون ويتسلقون قمته وصخوره ويختفون وراء أشجاره وأعشابه البريةالطويلة، الملتوية. ولسمع رجع أصواتهم وصدى صياحهم، ولعادت به ذاكرته إلى أمجاد الطفولة وحيوية الشباب، فتتوق نفسه إلى الالتحاق بتلك الأفواج ليصعد معها إلى الجبل، يقفز وينط ويصيح بطلاقة ملء حنجرته ويرفع صوته بغناء شجي يذيب الصخر وقلوب الصهاينة...

يفرقع أصابع يديه ويتحسر. رحل الأهل وأقفرت المدينة والجبل. أقفر خاطره، ولا يدري في أية ثانية ستعود الطائرات من جديد لتكمل المهمة وتسوي بالأرض هذه الجدران العنيدة التي لم تنحن في الليلة الماضية، تدكها فترتفع أعمدة الغبارعاليا وتحجب صفحة السماء الشاحبة ورحمة الله الواسعة.

يتنهد بصعوبة، يتنفس بعمق، يملأ رئتيه برطوبة الصباح وبقايا نعاس الأرض. يفترش وحدته وصمتا مطبقا يلف المكان فيجعله موحشا مثل مقبرة مهجورة. يحصي الأنقاض حوله ويسند رأسه لأحزانه وأوجاعه وغربته عن نفسه وعما يحيط به. يلتفت يمينا فلا يرى غير نفسه، ويستدير شمالا فلا يلمح غير جرحه ويصيخ السمع فلا يسمع غير نبضه. يصيح فيعود إليه رجع صوته مبحوحا حسيرا،
ويصمت فلا يكسر أحد أو شيء صمته. وحدها الهواجس تصخب في داخله، ووحده الألم يرفع صوته عاليا ويهدر فيرتج جسده وتنكتم أنفاسه ويكاد قلبه يتوقف عن النبض.

رائحة الموت تزكم حواسه، تراوده عن نفسه وتدعوه للرحيل. تقول له: لملم جرحك يا رجل
واتبع آثار من فر قبلك ولا تلتفت للوراء. يصم أذنيه ويعض لسانه لينسى ألم القدم اليسرى، وينأى ببصره المكلول عن جرحه النازف. رحل الأهل ولم يبق أحده سواه في هذا المكان. لم يبق أحد سواه... والسماء تنظر إليه مذهولة وفي عينيها بقايا نعاس، والشمس تحدجه بنظرة متسائلة، معاتبة، باحثة عما كان في هذا المكان ولم يعد.

عندما انتشرت خيوط الفجر الأولى جمعوا حقائبهم وصررهم وصورهم القديمة. التقطوا ما تبقى من أمتعة وأوراق وحنين، وامتطوا السيارات والشاحنات والجرارات والدراجات وظهورالدواب والأقدام العارية والأقدار الصعبة... وغابوا عن ناظريه. تدافعوا في الطريق واختلط حابلهم بنابلهم، وأبصارهم على الساعات في معاصمهم، وقلوبهم تخفق بعنف. أيديهم مرفوعة للسماء يدعون الله أن يبعدهم عن المدينة ومحيطها قبل انتهاء المهلة القصيرة. سأموت هنا، قال لهم. فاستعطفوه وجادلوه وطيبوا خاطره وهموا بحمله فأبى وصرخ في وجوههم.

يفغر فاه ويغمض عينيه قليلا. يعاوده الألم بحدة لم يعهدها من قبل. كل دقيقة تمر عليه تضاعف ألمه مرتين أو أكثر. القدم تلتهب والألم يخرج عن نطاق سيطرته ويدخل في منطقة العصيان والفوضى. الشظية التي استقرت جوار العظم المكسور، تقطع الآن أوصاله وتعصف بكبريائه وما تبقى لديه من جلد واحتمال. تجعل جلوسه صعبا ووقوفه مستحيلا وتنفسه عسيرا كالولادة في سن متأخرة. يفرقع أصابع يديه ويلعن الطائرة الرعناء التي عربدت في الجو وبصقت صاروخا بددت به ظلمة الليل وذكرت الأحياء بوصايا من ماتوا، وكسرت عظمه وجعلته يقعي في هذا المكان كالكلب المحتضر ينتظر موتا وشيكا ينقله إلى الضفة الأخرى من العمر وسط صمت مطبق ووحدة قاتلة. يرحل رحلته الأخيرة دون جنازة أو قرآن أو بكاء أو شاهدة تستريح الطيور الصغيرة فوقها لتهمس له بكلمة أو كلمتين نافرتين قبل أن تضرب بأجنحتها وتهرب.

يفغر فاه ويغمض عينيه قليلا ويحاول أن يتذكر ما حدث ليلة أمس. لم تنم الطائرات ولم يخلع الجنود أحذيتهم. لم يتحررالطيارون من خوذاتهم وأوامر رؤسائهم. لم يتحرر الأهالي من خوفهم. لم يجدوا الوقت الكافي للبكاء على موتاهم وجرحاهم والحزن لما هم فيه ولما سيأتي. لم يحصوا خسائرهم ولم يزيحوا الردم عن أبواب منازلهم. لم ينتشلوا أحبتهم وحقائبهم وأحذيتهم... من تحت الأنقاض. لم يتعش الأطفال ولم يسندوا رؤوسهم إلى صدور أمهاتهم. لم يربت الشيوخ على لحاهم ولم يصلوا الفرائض في أوقاتها. لم يذهب أحد إلى سريره.

لم تنم الطائرات ولا نام الجنود. القصف يخرق هدأة الليل والصواريخ ترش شهبا فوق الرؤوس والجدران و أحلام الصبيان. تكتم الأنفاس وتطوح بالأقدار ذات اليمين وذات الشمال, تعبث بالأعمار التي كانت بيد الله قبل قليل، فصارت بيد الجنود والنظام العالمي الجديد والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وبورصة الأسهم ومخطط التسوية واللجنة الرباعية وخارطة الطريق والجولات المكوكية بين الشرق والغرب والمؤتمرات الصحفية وحالة الطقس وسعر النفط والذهب والحنطة وأعراض الناس...

لم تنم الطائرات ولا نام الجنود. الصحفيون أيضا لم يناموا ولم يخلدوا للراحة في تلك الليلة العصيبة. باتوا يستقبلون الأخبار العاجلة، والصورالحية وتقاريرالمراسلين والمتعاونين... يقطعون البرامج الاعتيادية ويطلون بوجوههم المرهقة ليعلقوا على المشاهد ويضيفوا لأرقام الضحايا أرقاما أخرى. الموت كان سيد الليلة، وكانت المشاهد والصور حية. دخان ونيران وقصف وطائرات... صواريخ وشظايا وجدران تهوي. سيارات الإسعاف لا تستطيع الوصول إلى الضحايا، والضحايا لا يصلون إلى ذروة الألم ولا يبلغون قمة الصراخ فتتقطع أوصالهم في صمت. يرحلون في صمت. ينامون دون وسادات. تختلط دماؤهم وجراحهم، فيضحكون ثم يصمتون. يحكون جباههم ويرحلون. الكاميرات لا تصلهم أيضا. الكاميرات ترصد النيران والأدخنة والطائرات البعيدة، ولا ترصدهم.

تراجعت الدبابات عند هبوط الليل وأخلت المكان للموت القادم جوا، متدفقا كالإعصار، ملفوفا بأسرار الليل وحكايات النجوم. وما طلع النهار حتى كانت المدينة قفرا لا حياة ولا أحياء فيه. مات من مات وفر من فر قبل نهاية المهلة القصيرة، وظل هو حيث كان. تمزقه الشظية في قدمه اليسرى وتنهشه الأوجاع.

يعاوده الألم فيفغر فاه ويغمض عينيه قليلا. يعض لسانه ليداري الألم في قدمه اليسرى. يرهف سمعه فلا يسمع شيئا. صمت مطبق يلفه ويلف المكان. يرهف من جديد... يلعن الشيطان، ويرهف. لا يصدق نفسه ولا يصدق أذنيه. يوقف أنفاسه المضطربة حتى لا تشوش على سمعه. يحاول، يجهد نفسه
ويرهف السمع أكثر. يزم شفتيه وتتجمد النظرة في عينيه. صراخ خافت، أو شبه صراخ. بكاء أو ما يشبه البكاء... لعله صوت أمعائه الخاوية، لعله وساوس وتخيلات، لعله صوت الوحدة القاتلة، لعله صوت الصمت الكثيف المخيم على المكان. يصيخ السمع ويوقف تنفسه... الصوت يأتيه من مكان قريب جدا، من تحت قدميه، من تحت الردم الذي يفترشه. أنين متقطع، بكاء خافت... راح يصرخ كالمجنون ويضرب الأرض بقبضتيه، وراحت أصابعه تنهش التراب وتعري الردم. يلهث ويتصبب وجهه عرقا. يحاول أن ينهض فلا يستطيع، الألم في القدم اليسرى يكبر ويثنيه عن الحركة.

تكسرت أظافره وغطى التراب أصابعه الغليظة. خارت قواه وتبدد صراخه دون نتيجة، ولكنه ظل يحفر وينبش الردم والأنقاض. توقف لحظة وأرهف السمع من جديد فلم يسمع شيئا هذه المرة. أوقف تنفسه وتمنى لو يستطيع أن يوقف نبض قلبه أيضا، فلا يشوش على سمعه شيء. لم يسمع شيئا... عادت أصابعه تحفر وتنبش وتنهش التراب. توغلت في الردم المتراكم... اشتبكت بأصابع أخرى. أصابع باردة، صغيرة ويابسة. ذهل وغاص بكل جوارحه في الحفرة تحته. نبش ونسي الألم في قدمه اليسرى، نسي القدم نفسها. اتسعت الحفرة واتسعت دائرة الحيرة والرعب في داخله... تجمدت النظرة في عينيه اليابستين. تدلى لسانه وترقرقت دمعتان على خديه... رأى أصابعه تتشابك مع أصابع بنته الصغرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى