الخميس ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٥
بقلم عبد الهادي الفحيلي

الجبــــــــــليــــــــة

تبتسم لي وتمد ساقيها. تجلس أمام بيتها. أحاول أن أبتسم. تخرج ابتسامتي مثل خط مرسوم بقلم رصاص. جاءت من قرية بعيدة في "جْبالة". في الشمال. تقول زوجة سائق الطاكسي. قال لها زوجها. جاب البلاد طولا وعرضا. كان سائق حافلة. يعرف الشمال جبلا جبلا. يقول. تعب من السياقة ليلا. يسوق الطاكسي لأنه أقل تعبا. تضع بين ركبتيها قطعة طويلة من خشب دقت مسمارين على جانبيها فصارت مثل صليب. تجلس وتضفر خيوطا زاهية الألوان وتلويها على رأس الصليب وتبتسم. تعيش وحدها في كوخ من قصدير. لم أرها يوما منكفئة على طشت تغسل الثياب كما تفعل نساء الزقاق. لا تنظف سردينا كما يفعلن. فقط تضفر الخيوط وتبتسم.

حلت بالزقاق ذات خريف جاف. ما سر هذه "الجبلية" الجميلة؟ ما الذي أتى بها إلى هذا الزقاق الحقير؟ تتوالد الأسئلة. تتراكم مثل القمامة في ناصية الزقاق. لماذا تبتسم دائما؟ لماذا لا تتكلم؟ يتكلم السائق. يتكلم الفقيه. لا تتكلم. تبتسم. يغمزان. تحني رأسها. تضفر. تتسلل خصلات من شعرها الذهبي من تحت منديلها الأبيض. عيناها العسليتان تتعلقان بصليبها وتضفران. تضفران فقط. وجهها الأبيض المنقوع في حليب منمش تطل منه طفلة تنتظر دمية في عاشوراء، أقول، بالكاد فطمت من لعبة الحبل. شيطانة، تقول زوجة السائق. سيارة من طراز جيد تحتاج لسائق محترف، يقول السائق. وحيدة والشيطان يتربص بها، يقول الفقيه.

تجلس على كرسي خشبي واطئ. تضفر الخيوط صباح مساء. تتوقف عند الظهر وتغلق الباب ولا تظهر إلا عند العصر. أمر عليها صباحا. أحدجها بنصف عين. تكبر ابتسامتها. أعود في المساء. نصف العين الآخر يحدجها. تتسع ابتسامتها. أبصر شفتيها تتمددان قليلا وينكمش خداها شيئا ما. ترفع عينيها نحوي ويداها تضفران. ترفع حاجبيها فقط وتنظر إلي من تحت. يقف رجل على دراجة نارية أمامها في منتصف نهار يوم السبت. تسلمه كيسا مملوءا بالضفائر ويسلمها مبلغا من المال وينصرف. لا يتكلمان، تقول أمي، لم أسمع يوما صوتها. مر شهران. تكبر الابتسامة. في آخر يوم من الشهر الثاني انفرجت شفتاها قليلا. في اليوم الأول من الشهر الثالث بانت أسنانها قليلا. في نهاية الأسبوع بانت أسنانها أكثر. صفان مرصوصان من عاج أبيض. لا نتوء. إنها قاتلة، تقول أمي. قالت زوجة السائق ذلك. قتلت وجاءت تختبئ في هذا الزقاق. وجهها المنمش يقول إنها ولدت أكثر من مرة. تلد حراما وترمي أولادها مثل كلبة. تسلمهم لمن يتبناهم مقابل مبالغ كبيرة. زوجة السائق ستدخل النار، أقول لها، النصرانيات جميلات لأنهن منمشات. "تعجبك يا ولد الحرام؟" تقول أمي. لا أرد. تعجبني فعلا. طفلة بريئة وجميلة. ابتسامتها. عيناها. كفاها الرقيقتان. قدماها الصغيرتان. ملاك. أمرُّ ولا أبصر غيرها. أمشي فأحاذر أن أدوس ابتسامتها. آكل فتتلألأ نجومها في الطبق. أنام فأسرج شعرها الذهبي. يحلق بي في سماء أكثر زرقة. أكثر صفاء. ليست قاتلة.

الجبليات قاتلات، قال سائق الطاكسي لأبي وللفقيه في المسجد بعد المغرب في انتظار العشاء. جميلات. يساعدن رجالهن في زرع "الكيف" وحصاده. يعملن أكثر منهم. محظوظون. لا يفعلون شيئا. يأكلون ويشربون ويدخنون الكيف ويصلون. لا يتعبون إلا في الفراش. يغمز بعينه. يضغط على فخذ الفقيه. يضحكان. يضحك أبي. قالت أمي وضحكت. ضحكت.ُ سمعتها تقول ذلك لزوجة السائق. أردف السائق: "بنات الحرام يقتلنهم. إذا حانت منهم ولو مجرد التفاتة لغيرهن يقتلنهم. يفعلن كل شيء كيلا يتعبوا. كي يبقوا أقوياء". يتغامزون ويضحكون. لم يأت الرجل صاحب الدراجة النارية لأسبوعين متتاليين. قتلته، قالت أمي. قالت زوجة السائق ذلك. قال أبي. قال السائق ذلك."علم ذلك عند الله تعالى. ربَّنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا"، قال الفقيه وهز رأسه. لم أهز رأسي. صارت ابتسامتها أكبر. أسنانها أكثر بياضا. صار نمشها نجوما. لو ألمسها. صار نصفا عينيَّ عيينين كاملتين تتسمران على وجهها. حضر رجل آخر على دراجة أخرى في يوم آخر في وسط الأسبوع. كلمها. لم تكلمه. أعطته الخيوط وابتسمت. خط على ملتقى الشفتين وكفى. سلمها النقود وتكلم مودعا، تقول أمي وزوجة السائق. أنا تكلمت. كلمة واحدة. أمر في المساء. تجلس وتضفر. عيناي في وجهها. عيناها في وجهي. يداها لا تضفران. فمها ينفتح. ينكمش خداها أكثر. تتوقف قدماي. أمد يدي. تمد يدها. قطعة حرير يكاد يذوب. يذوب قلبي. يسرع دمي. يلتهب وجهي. تستقر حجرة كبيرة على لساني. تمد ابتسامتها وعينيها. تزيحان الحجرة. ينفجر لساني: "بخير؟" نقرة على وتر رقيق لكمان عبرت لقلبي:"بخير". تسحب يدها. لا أسحب عينَيّ. ترخي عينيها. تضفر. ألملم عينَيّ. تتعثر قدماي. أتحسس صدري. تركت قلبي في يدها. "سحرت لك؟" تنفجر أمي. "ليست ساحرة"، يهتف دمي. "قاتلة وزانية وساحرة"، تقول زوجة السائق. "تريد رجلا لتقتله"، قال السائق. "إن كيدهن عظيم"، يقول الفقيه ويخلل لحيته. "لا تكلمها ولا تسلم عليها"، يقول أبي. سأكلمها وأسلم عليها"، يقول قلبي. أمر من أمام كوخها ليلا. أتلمس خيوط ضوء الشمعة من الشقوق. تجلس على الكرسي الواطئ، يقول رأسي. تنزع منديلها الأبيض. تسكب شعرها على وجهها. تضفر خصلاته بيديها الحريريتين. تضفر دمي. أعود إلى كوخنا. أضفر عينيها وأعلقهما على صدري. أضفر ابتسامتها وأعلقها على السقف. أتوسد يديها. يدغدغ حريرهما وجهي. أنام. أمر في الصباح. لا تجلس على الكرسي الواطئ. لا تضفر. لا تبتسم لي. لا أتسمر. لا أمد يدي. لا تمد يدها. أمر في المساء. لا تجلس ولا تضفر ولا تبتسم ولا تمد يدا. أنام متوسدا عينيها وابتسامتها ويديها. أمر في الصباح وفي المساء. لا تجلس ولا تضفر ولا... أتوسد وجهها المنمش. أنام. أمر في الصباح والمساء. لا تج.. ولا تض.. ولا تب.. أتوسد شعرها المضفور. أمر وأمر. أتوسد وجيبا في قلبي. أنام. أمر. تدق عيناي على بابها. لا تفتح عيناها الباب. أمر. أمد عيني. أتوسد وجعا في بطني. لا أنام. "بنت الحرام كادت تسرقك مني"، تقول أمي. "ارتحنا وارتاح الزقاق"، تقول زوجة السائق. "هربت مع أحدهم، خافت من افتضاح أمرها. أكيد"، يقول السائق. "لو استفردت بابني لقتلته. الحمد لله"، يقول أبي. "كلام الله وبركة الشرفاء لا يقدر عليهما الشيطان"، يقول الفقيه. "الموت على يديها حياة ونعيم"، يقول قلبي. أنام. تقف عند الباب. ترسل ضفيرتيها على صدرها. تضحك. أمد لها يدي. تمد يدها. تجرني. ندخل. تغلق الباب. نجلس أرضا متقاربين. أمد يدي. أربت على النجوم في وجهها. تمد يدها. تربت على رأسي. على عيني. على خدي. أمسك يدها. أقبل خيوط الحرير. تقبل جبهتي. أقبل شفتيها. نغمض عيوننا. أغرق في الذهب والحرير والكرز والحليب. نفتح عيوننا. نضحك. تنتصب أمي أمامنا. ينتصب أبي. ينتصب السائق. تنتصب زوجته. ينتصب الفقيه. تنتصب الجبلية. تشير لهم بيدها. يجلسون على الأرض. يحنون رؤوسهم. خرفانا صاروا. أبتسم. تستل سكينا من صدرها. تذبح الفقيه. تذبح زوجة السائق. تذبح السائق. تذبح أمي. تذبح أبي. أبتسم. تضحك. أضحك. تمد لي يدا. أمد يدا. أنتصب قبالتها. نتلاصق. تستل سكينا آخر من صدرها. تضعه في يدي. نضحك. أغرزه في صدرها. تغرز سكينها في صدري. نضحك. نتهاوى. تمتزج دماؤنا. ينتصب السائق وزوجته والفقيه وأبي وأمي. يغادرون...


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى