الأحد ١٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم حسن المير أحمد

التكثير عند العرب

قد تبعث الليالي الطويلة في الأماكن النائية على جموح الخيال وتنامي قصص اللامعقول لتقتحم حياة بعض الناس فتصبح جزءاً من شخصياتهم؛ لا يستطيعون العيش بعيداً عنها، ولا التخلي عن تفصيلاتها التي تلتصق بأحاديثهم اليومية الجادة والهزلية، ما يجعل منها مصدراً ثراً للتندر والظرف والنكات، وصولاً إلى ضرب الأمثال، بحيث تتناقلها الألسن من جيل إلى آخر تارة بنصوصها الأصلية، وتارات أخرى بإضافات وزيادات تزيد من مساحات الكوميديا فيها .

وأولئك الأشخاص يصبحون مقصد أبناء محيطهم في النهارات والليالي ليستمتعوا بتلك الحكايات الظريفة والجلسات التي لا ينقطع الضحك خلالها، فيخففون عن كواهلهم أعباء الهموم والأزمات التي تحيق بحياتهم، وبالتالي ترتفع منزلة هؤلاء المحدثين في مجتمعاتهم إلى مرتبة عالية تسهل تنفيذ مطالبهم وأمورهم المعيشية.

في هذا المقام أتذكر "ابو صطيف" الذي كان مجرد إنسان عادي في مجتمع بلدتنا، لكن خياله الغرائبي أهّله ليكون محور اهتمام الشرائح كلها من وجهاء ومثقفين ومتعلمين.. شباباً ورجالاً.. نساء وأطفالاً، بفضل موهبته العالية في ابتكار القصص والحكايات الزاخرة بالشخصيات الافتراضية من دون أن يتخلى عن وضع نفسه محوراً أساسياً في كل واحدة منها.

ومن قصصه المضحكة التي لا تفارق الذاكرة ، أنه نهض في أحد الأيام قبل شروق الشمس وحمل منجله ، ثم توجه إلى أرضه الواسعة، على تخوم البلدة الواقعة في وسط سوريا، ليبدأ حصاد القمح مع شروق الشمس.

ويتابع "ابو صطيف" قصته قائلاً: مع بزوغ الشمس وضعت طرف ثوبي في عقدة سروالي وانحنيت جامعاً أول حفنة سنابل واقتطعتها بالمنجل، وبدأت العمل بكد ونشاط من دون أن أنظر إلى الخلف أو الأعلى، حتى تنبهت فجأة إلى أن الشمس باشرت مغيبها، فنهضت مستوياً بقامتي ونظرت حولي فلم در أين أنا؛ كان المكان غريباً عني ولم أمر به سابقاً.. تلفتت يمنة ويسرة فإذا بامرأة بدوية تمر حاملة جرة ماء بيدها، فلوحت لها ملقياً التحية : مرحباً يا أخت العرب. فأجابت: أهلاً "أبو صطيف". قلت : ما اسم المنطقة التي نحن فيها؛ فقالت: أنت في الموصل، مرحباً بك تفضل وشاركنا عشاءنا!

وهنا كان جمع الحاضرين يقهقهون حتى تتفجر الدموع من عيونهم، وعلى الرغم من ذلك لايتراجع "أبو صطيف" عن قصته، بل يحاول تقديم الدلائل والقرائن على صحتها، مازحاً أو جاداً!

تلك القصص البعيدة عن الواقع، قد لا تسيء إلى أحد ولا تضر بأحد، إلا أنها تعكس صورة التكثير والمبالغة عند العرب في لغتهم وتعاملهم مع الأشياء، فتتشوه الحقائق وتنقلب المعطيات وتتحول المسائل الصغيرة إلى كوارث والحوادث البسيطة إلى أزمات، والأفعال العادية إلى بطولات لا تضاهى، والواجبات على منح وهبات وتفضّل على الآخرين، خاصة عندما يتعلق الأمر بأشخاص في مناصب سلطوية أو بأصحاب مال وجاه.

ويجسد قسم من الإعلاميين العرب نماذج صارخة لهذه الظاهرة القديمة ـ الجديدة، حيث باتوا يمارسون الخداع والتضليل ويعكسون الحقائق، فيبالغون في جوانب ويتجاهلون جوانب أخرى، بحسب التيار الذي يسيّر مراكب زمانهم، متكئين على إرث من التكثير والمبالغة، تحدث فيه العديد من فطاحلة الأدباء والمؤرخين في أمهات الكتب، حتى باتت قصصهم وأخبارهم وتحليلاتهم لا تختلف مطلقاً عن قصص ومغامرات "أبو صطيف" التخييلية، إلا أن الفرق بين الاثنين أن هؤلاء الإعلاميين يؤذون ويوجهون ويهيجون الرأي العام لصالح فكرة ما، بينما الثاني يرسم البسمة على وجوه مجالسيه من دون غاية أو مقابل!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى