الخميس ١٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم يسري عبد الله

بعد حجب جائزة الدولة التشجيعية

عن المنح والمنع وتدجين الذائقة

أولا

تظل (الكتابة) بنتاً (للاختلاف)، مستعصية على (واحدية الرأي)، غير أنها تحتاج-دوماً- لمن يكشفون تنوعاتها، مدركين تحولاتها المتعددة، واعين بجينات التطور الكامنة فيها، وعبر هذا الفهم تتأسس مشروعية (النقد) الذي يصير بمثابة (رؤية للعالم) تحاول أن تصنع إبداعاً موازياً للنص الأدبي، عبر استجلاء جمالياته، وملامسة العصب العاري بداخله، ولعل السياقات (السياسية/ الثقافية) المأزومة والمتحولة التي عاشها التسعينيون ومن بعدهم، قد أفرزت تحولات كتابية تكاد أن تعصف بالمواضعات المستقرة بالفعل في بنية الإبداع المصري، لنصبح- وباختصار- أمام سياق سردي فائر وموار لم يلتق كتابه على حلم، ولم يتوحدوا حول مشروع كما حدث مع جيل الستينيات مثلاً، ولم يكونوا أبناء للانكسار والخديعة معاً كما الحال مع جيل السبعينيات، بل إنهم أبناء السياقات المهتزة، والرؤى الغائمة، لتتأسس- ومن ثم- مشروعية (كتابة جديدة) لها مواضعاتها الفكرية والجمالية الخاصة، غير أنها تحتاج- فحسب- إلى الرصد والمتابعة، وإلى رؤى نقدية لها ضمير ( القاضي ) ونزاهته.

وما حدث من حجب لجائزة لجنة القصة يمثل - في رأيي- إقصاء لمقولتي التنوع والتحول المشار إليهما؛ إنه يعبر- في ظني- عن أمرين مهمين : أما الأمرالأول فإنه يكشف عن عدم وجود قراءة دقيقة ومستقصية للمشهد القصصي الراهن، والمسكون بتحولات رؤيوية وتقنية يمكن للراصد أن يحددها. وأما الأمر الثاني فإنه يكشف عن وجود ذائقة بعينها (قديمة في الأعم الأغلب) قد ترى في التجريب (مقامرة)، وفي المغايرة (مروقا )، وكلا الأمرين المشار إليهما ينبئ عن (سلطة ثقافية) قد شاخت في مواقعها، وتكلست بداخلها حتى صارت الكتابة بنتاً (لواحدية الرأي) لا (للاختلاف) وأضحت الذائقة التي يحكمها الهوى، وتحددها آليات المنع والمنح في الهيئات الثقافية هي المحرك المركزي لاختيار النصوص ( كيف يشارك مندوبون من الوزارات في اختيار جوائز الدولة – من الأساس - ؟) إن ثمة أسئلة مهمة ينفتح عليها ما حدث تتجاوز في جوهرها حد (الحجب) إلى حيز (الإدانة ) لواقع ثقافي باطش بأبنائه.

ثانيا

لنسلم بداية أن فكرة الجائزة - أية جائزة- تقوم على إثابة المجيد، لكن في حالة جوائز الدولة يجب أن تكون الجائزة (للمائز) وليس (للمجيد) فحسب، لكن أن يقال إن السنوات الثلاث السابقة قد خلت من مجموعة قصصية واحدة تستحق الجائزة أمر يجافي منطق العقل والحقيقة معاً، ويكشف -مع الإشارتين السابقتين- عن إقصاء للمنجز القصصي الذي تسطره مجموعة من المبدعين- سواء من التسعينيين أومن الكتاب الجدد- في السنوات الأخيرة، أعي تماما أن من حق اللجنة أن تحجب الجائزة ولكن يجب عليها أن تصنع ذلك بعد أن ترصد المشهد في شموله وكليته، والتعلل بتعذر ذلك مسألة غير مقبولة منهجياً، وهذا أمر يدعونا إلى النظر في كيفية تشكل لجان المنح وآليات عملها (كان مقرراً أن تنعقد اللجنة لمناقشة ترشيح أعمال أخرى من خارج الأعمال المقدمة، ولكن حال ضيق الوقت دون حدوث ذلك!!! (راجع ما قيل في أخبار الأدب عدد 8/7/2007).

إن المسألة أعمق من حجب جائزة بعينها، حيث يجب أن تحدث مراجعة لآليات عمل لجان المنح جميعها، خاصة مع حدوث حالة من الإقصاء لتيارات إبداعية فاعلة في المشهد الثقافي المصري مثل " قصيدة النثر "، والتي تصنع منجزها الخاص مبتعدة عن سطوة "المؤسسة الرسمية ". ( ملحوظة مهمة : تم تخصيص جائزة غريبة تحمل عنوان الأشكال السردية الشعرية، وكأنها محاولة للإفلات من أسر مأزق "وهمي" يتمثل في الاعتراف بقصيدة النثر- الرافد الشعري الأكثر حضورا الآن -).

في لجنة القصة أكاديميون نحترم فيهم أمرين : التمكن العلمي الرصين، والتماس مع الواقع الإبداعي، لكن ثمة خللاً يتبدى في عمل اللجان المعنية بمنح الجوائز بشكل عام، وهذا ما يجب الاعتراف به ، والالتفات إليه، بدلاً من حدوث سجالات كلامية لا طائل من ورائها تصرفنا عن جوهر الأمور وحقائقها، فثمة لجان عديدة تحوي إما أدباء توقفت مشاريعهم الابداعية، أوأكاديميين انفصلوا عن واقع الكتابة وتحولاتها.

في السنوات السابقة، صنعت " القصة القصيرة " اقتراحاً سردياً مغايراً، حيث ثمة كتابة تتشكل في رحم الإبداع المصري، وتتخلق على مهل، كاشفة عن تنوع قصصي خلاق، وإنه لضيق المقام، سأشير لبعض االمجموعات القصصية التي استوقفتني، ومن أهمها في ظني: (وجوه نيويورك) لحسام فخر، (أحب نورا أكره نورهان) لعزة رشاد، (غرب النيل) لخالد إسماعيل، (مثل واحد آخر) لسيد الوكيل، (ضوء مهتز) لمنصورة عز الدين، (شجرة جافة للصلب) لهاني عبد المريد، (بنت ليل) لمحمد الفخراني، (العودة إلى جوبال) لسعيد رفيع، (تجاوزت المقهى دون أن يراك أحدهم) لوليد خيري، ( أحلام منسية) لعمارعلي حسن، وهذه النصوص تنبئ - كما أشرت - عن تنوعات سردية تشي بزخم المشهد القصصي وثرائه.

وبعد... على الرغم من فداحة ما حدث إلا أنه يطرح أفقاً يجب التشبث به، ويتلخص في ضرورة إحداث متابعة نقدية دءوب ومنهجية للمشاريع السردية، بعد أن تسلطت لغة المصالح، وأصبح مانحو الجوائز إما مبدعين (كباراً) يعطونها لمن يبثونهم آيات الولاء والطاعة من المبدعين(الصغار)، أوموظفين، أوأكاديميين صار (التكلس) نقطة البدء والمعاد بالنسبة لهم.

عن المنح والمنع وتدجين الذائقة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى