الأربعاء ١٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

الخوف ومدى انعكاسه على الأدباء الفلسطينيين

هل ينعكس الخوف على المبدع؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فهل يؤثر تأثيراً إيجابياً أم سلبياً؟ ومم يخاف الأديب، من السلطة الدينية أم من السلطة الاجتماعية أم من السلطة السياسية، وفي حالة الشعب الفلسطيني، من سلطة الاحتلال الإسرائيلي! ثم كيف سيتصرف لو وجّه إليه تهديد بالقتل، كالتهديد الذي وجه لسيد القمني المفكر المصري المعروف الذي خضع وتنصل من كتاباته حين هدده تنظيم القاعدة؟ ثم هل يخفي المبدع بعض ما يكتب نتيجة لخوف ما؟ هذه الأسئلة وجهناها إلى كتاب فلسطينيين لنصوغ منها هذه الورقة، وقد أجابنا سبعة منهم هم: محمود شقير وزكي العيلة وهما قاصان، وأحمد دحبور وباسم النبريص وجمال سلسع وفاروق مواسي وعبد الناصر صالح.

الأدباء المدروسون: نبذة عنهم:

أقام محمود شقير في مدينة القدس، وبدأ كتابة القصة القصيرة في الستينيات من ق20، وبعد هزيمة حزيران 1967 سجنته سلطات الاحتلال الإسرائيلي ثم أبعدته إلى لبنان، ولم يتمكن من العودة إلى القدس إلا في العام 1994 إثر اتفاق ( أوسلو )، وقد أصدر مجموعات قصصية عديدة. انتمى إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني.

وبدأ زكي العيلة يكتب القصة القصيرة في سبعينيات ق20، وسجن إبان الاحتلال الإسرائيلي لغزة، وهو مقرب من حركة فتح، وأصدر العديد من المجموعات القصصية، وما زال مقيماً في غزة.

وولد أحمد دحبور في حيفا، وهاجر منها طفلاً في الرابعة، ليقيم في مخيمات اللاجئين في الشام، وقد كتب الشعر في سن مبكرة، وأصدر ما لا يقل عن تسع مجموعات شعرية. عدا ذلك فإنه كاتب مقالة أدبية ومقالة سياسية. عاش في الشام، وعاد إلى غزة إثر اتفاق (أوسلو )، وما زال يسهم في الحركة الثقافية هناك وفي فلسطين كلها، ولعله أكثر هؤلاء الأدباء حضوراً في الصحافة.

ويقيم باسم النبريص في خان يونس، وهو شاعر متميز فيما نرى، وربما كان أقل حضوراً أدبياً من سابقيه، إذ نادراً ما يسهم في الكتابة في الصحافة والمجلات، ولكن أشعاره ذات نكهة خاصة، وقد أصدر مجموعات شعرية عديدة أولها: " تأملات الولد الصعلوك "، وهي مجموعة لافتة، مع أنها الأولى التي نشرها.

ويقيم جمال سلسع في بيت ساحور، وهو طبيب أصدر غير مجموعة شعرية، وأسهم في الحركة الأدبية في فلسطين من خلال دراسات نقدية جادة. ويكتب المقال السياسي والاجتماعي، وقد سجن إبان الاحتلال الإسرائيلي للضفة في العام 1967.

ويقيم عبد الناصر صالح في مدينة طولكرم، بدأ ينشر الشعر في سبعينيات ق20، وأصدر غير مجموعة شعرية، وينتمي، مثل د. جمال سلسع أيضاً، إلى حركة فتح، وقد اعتقلته القوات الإسرائيلية، لكتاباته، غير مرة، وما زال يقيم في طولكرم.

وربما اختلف فاروق مواسي عن هؤلاء كلهم، فهو يقيم في باقة الغربية – أي في فلسطين المحتلة في العام 1948. وهو – عدا كونه شاعراً وكاتب قصة وناقداً – يحمل درجة الدكتوراة في الأدب العربي، ويدرس في كلية جامعية فيها طالبات، ما يجعل من مكانته مكانة حساسة. وربما تذكرنا هنا ما كتبه الناقد ( ليونل ترلنج ) في معالجته لموضوع الفنان والعصاب، وذهابه إلى أن الفنان ليس مصاباً بالعصاب دون غيره من أصحاب المهن الأخرى الذين، خلافاً للفنان، يلجأون إلى ما يعرف بالإخفاء والملاءمة، بسبب طبيعة مهنهم. ومواسي الأستاذ الجامعي يخبرنا أنه يكتب أشعاراً لا يستطيع نشرها لهذا، وهذا ما سنوضحه في سياق الكتابة.

سنحاول هنا قراءة إجابات الأدباء السبعة لنعرف موقف عينة من أدباء فلسطين من موضوع الخوف وانعكاسه عليهم. وربما وجب هنا الإشارة إلى مقدمة ديوان الشاعر المرحوم عبد اللطيف عقل " حوارية الحزن الواحد "(1985) تحت عنوان " في الذكرى الأربعين لميلاد الخوف "، وقد أتى فيها على دال الخوف مفصحاً عن تجربته معه، وربما يكون ما كتبه أوفى ما كتبه أديب عن الخوف تنظيراً، وقد تتقاطع إجابات كثيرة معه، من ذلك مثلاً الخوف من الطبيعة والنظام السياسي والنظام التربوي حيث شخصية المعلم ... الخ.

عدا ما ذكر آنفاً، سنأتي في الجزء الثاني من الدراسة على دال الخوف لدى شعراء آخرين، وربما احتاج بحث هذا الدال في الشعر الفلسطيني إلى دراسة موسعة ينجزها باحث أكاديمي للحصول على درجة علمية، وقد يتوصل إلى نتائج مهمة في هذا الجانب، وستكون الدراسة أكثر جدوى حين يوظف فيها المنهج النفسي، إذ يتطلب موضوعاً مثل هذا، هذا المنهج.

هنا سنحاول أن نصوغ من إجابات الأدباء السبعة إجابةً على الأسئلة المثارة.

انعكاس الخوف على الإبداع:

هل ينعكس الخوف على الإبداع؟ لم ينكر الأدباء هذا، وقد أقروا بأنه انعكس على نتاجهم، فلقد رأى قسم منهم أنه انعكس سلباً ( باسم النبريص ومحمود شقير ) في حين قال آخرون إنه انعكس إيجاباً ( عبد الناصر صالح ).

لا يمكن أن ينعكس الخوف على المبدع إيجاباً إلا في حالات شديدة الندرة، يقول النبريص ويضيف إنه عانى منه، فحين استدعته المخابرات الإسرائيلية غير مرة كف عن نشر الشعر وإن لم يكف عن كتابته. ويذهب شقير إلى أن نتاجه يعاني من الخوف، وأنه كان يمكن أن يكتب كتابة على قدر أكبر من التألق لو لم يكن ثمة محظورات، ولو أتيحت له ولغيره فرص الكتابة الحرة المبرأة من القيود.

يختلف عبد الناصر صالح عن هذين. لا ينكر أنه يخاف، ولكنه يرى أن الشجاعة تكمن في التغلب عليه وتحويله إلى قوة دافعة في مواجهة حالات واقعه. ومع أن زكي العيلة يقول إنه يكتب قناعاته إلاّ أنه لم ينكر أنه في بداية حياته الأدبية لجأ إلى الكتابة باسم مستعار هو هاني فخر الدين، خوفاً من بطش الاحتلال الذي عاقبه فسجنه.

لم يقتصر انعكاس الخوف وتأثيره على الكتابة في الموضوع السياسي، ففاروق مواسي يرى أن الخوف أثر سلباً على قصائد كتبها في الغزل وثانية في الضعف وثالثة في الموت.

مصدر الخوف:

لم يكن هناك إجماع على مصدر الخوف، أكان السلطة الدينية أم الاجتماعية أم السياسية أم سلطة الاحتلال! فعدد من الأدباء يخاف من السلطتين الاجتماعية والدينية لدرجة كبيرة، ( شقير والنبريص ومواسي )، وآخرون لم يخافوا من هاتين السلطتين قدر خوفهم من سلطة الاحتلال الإسرائيلي ( دحبور والنبريص ).

ذهب بعض الأدباء إلى أنهم خافوا ابتداءً من الطبيعة وما وراء الطبيعة، بخاصة في طفولتهم ( عبد اللطيف عقل ودحبور )، تلا الخوف من الطبيعة الخوف من الكبار ممثلين في الأب والمعلم ( أيضاً عقل ودحبور ).

وإذا كان شقير، على سبيل المثال يخاف من السلطة الدينية والاجتماعية أكثر من خوفه من سلطة الاحتلال، فلأن السبب في ذلك يعود إلى انتمائه السياسي، حيث انتمى لتيار يقاوم الاحتلال مقاومة لا تجعل حياته عرضة للقتل. ولكنه – أي شقير – يدرك أن القوى المتشددة دينياً لا تغفر له إذا ما تجاوز المحرمات وخاض فيها بما لا يروق للمتدينين، وقد يدفع حياته ثمناً لذلك.

وربما لمح المرء في إجابات فاروق مواسي شيئاً مشابهاً، فلم يأت، وهو الذي يقيم في باقة الغربية تحت الحكم الإسرائيلي منذ العام 1948، على خوفه من السلطة الإسرائيلية. لقد أشار إلى خوفه من المتزمتين دينياً، وقال إنهم ضايقوه، ولذلك فإنه لم يجرؤ على قراءة قصائد معينة، مما كتب، في حضرتهم.

ولم يشر أحمد دحبور وجمال سلسع إلى خوفهم من السلطة الدينية، ويعود السبب في ذلك إلى أن الأول نشأ في أسرة دينية، فقد كان أبوه شيخاً، ولم يقف في طريقه حين درس في مدرسة مسيحية كانت على قدر من التسامح، بل إنه حين اقترب من الأفكار اليسارية الماركسية اكتفى أبوه بأن دعا الله لكي يهديه، وأما الثاني الذي يقيم في بيت ساحور فلا يخشى السلطة الدينية ولا يخافها عندما تكون في إطارها الصحيح، إنها جزء من نسيج الحياة الوطنية والهم المشترك.

ويكاد يتفق أكثر الأدباء في أنهم لا يخافون من السلطة السياسية الفلسطينية. لقد رأوا فيها سلطة مختلفة عن السلطات السياسية في العالم العربي، وهكذا لم تشكل خطراً على أكثرهم. ولكن هذا لا يعني أن عدداً منهم، تحديداً محمود شقير، رأى فيها سلطة منزهة دائماً، فقد يستغل بعض السياسيين نفوذهم ويهددون من يعارضهم، ويرسلون له أو لغيره، ممن يتطاول عليهم، مَنْ يعترضه في جنح الظلام.

تأثير الخوف على النشر:

يذهب بعض الأدباء إلى أنهم لا يكتبون نصوصاً لا ينشرونها، لأنهم يميلون إلى اعتناق خط سياسي وفكري معتدل يؤمن بالتدرج في تغيير المجتمع، ولا يرى هؤلاء ضرورة لمواجهته، وبالتالي فإن العقلانية التي يتسمون بها لا تجعلهم يكتبون نصوصاً فيها قدر من التحدي والتطرف. ( شقير ).

وأشار كتاب آخرون إلى أنهم كتبوا نصوصاً لم ينشروها، ومن هؤلاء أحمد دحبور. إنه لم يندم يوماً على ما كتب، ولكنه لم ينشر روايته " العد التنازلي "(1977) التي انتقد فيها الثورة الفلسطينية نقداً شديداً، وسبب عدم نشرها أنه افتقد المخطوط، عدا أنه – الآن – تجاوزها فنياً ووجودباً.

وقد تبدو قضية التجاوز الفني والخوف من نشر نصوص لهذا السبب قضية مهمة لم يقع فيها شاعر فلسطيني واحد. لم ينشر النبريص أعمال البدايات، ويعتبر هذا من حسن حظه، لأنها تشكل عبئاً عليه. هنا نتذكر ما أقدم عليه محمود درويش الذي لم يدرج ديوانه الأول " عصافير بلا أجنحة "(1960) وأكثر قصائد ديوانه الثاني " أوراق الزيتون "(1964) في أعماله الكاملة. وحَذْفُ درويش لهذه الأشعار يعود إلى أسباب عديدة منها تخليص الشعر مما ليس شعراً.

الشاعر فاروق مواسي كتب قصائد عديدة لا يجرؤ على نشرها لما فيها من فحش. وقد أشار إلى أنه لن ينشرها ما دام على قيد الحياة خوفاً على مكانته الاجتماعية كما أشرنا من قبل. ولربما تذكر المرء هنا قصائد الشاعر المرحوم إبراهيم طوقان الفاحشة والهجائية، فهذه لم تر النور في أية طبعة من طبعات ديوانه، على الرغم من أن بعض الناس في فلسطين يرددونها ويتناقلونها سراً. بل ولربما يتذكر المرء هنا شعراء آخرين يخافون من نشر قصائد سياسية سببت لهم مشاكل عديدة في أعمالهم الكاملة. لقد نشر هؤلاء قصائدهم في فترة من الفترات، ولكنهم لم يظهروها في أعمالهم الكاملة لتغير الأوضاع، ولأن إعادة نشرها قد يسبب لهم إشكالات عديدة، وقد تضر بمكان وجودهم الآن، وقد بلغوا من العمر عتيا. وما داموا ينشدون الآن الاستقرار فإنهم يؤثرون عدم إبراز هذه القصائد أو إعادة نشرها.

كيف يتصرف الأدباء لو هددوا بالتصفية؟

لقد وجه للأدباء الفلسطينيين المعاينين هنا تهديد مثل التهديد الذي وجه للمفكر المصري سيد القمني، فإن أكثرهم لن يتصرف كما تصرف – أعني أنهم لن يتنصلوا من كتاباتهم ولن يصمتوا. بعض الأدباء سجن، وآخرون ضويقوا واستدعوا لضباط المخابرات،

وآخرون أُغروا بمنافع شخصية، ومع ذلك فلم تلنْ لهم قناة وواصلوا الكتابة، وإن لم يستمر بعضهم في النشر. بل وأصر آخرون على التمسك بآرائهم:

أبعد محمود شقير عن فلسطين، وأغري جمال سلسع بالمال وسووم كي يتراجع عن مواقفه ولكنه رفض، أما باسم النبريص فإنه يؤثر، لو تعرض لتهديد بقتله، الرحيل إلى أوروبا ليواصل من هناك الكتابة.

ولا بأس من إيراد نماذج مما كتبوه. يقول باسم النبريص:

" أتصرف على عكس ما تصرف سيد القمني، فهذا الباحث الجاد اختار أسهل الحلول الفاشية الظلامية: اختار أن يموت معنوياً وفكرياً، خوفاً من الموت الفيزيائي، مع أن هذا الصنيع يفضي في النهاية إلى كلا الموتين معاً، فلا حياة للجسد مع أمثال هؤلاء المعتوهين الفاشست. قد أتفهم موقف القمني وأستوعبه إنسانياً، لكنني، كمثقف، أرفضه تماماً، وأختار بدلاً منه، إذا انعدمت الخيارات، وهي حقيقة معدومة في بلادنا، أختار الرحيل إلى أوروبا، ومواصلة طريقي، من هناك، ففي هذه الطريق معنى لحياتي، ولا معنى لها خارجه ".

ويكتب أحمد دحبور:

" ما كان ليخطر لي مجرد التفكير في التراجع، فلا يقطع الرأس إلا من ركبه، ولا ردّ على الظلام إلا التمسك بما نراه نوراً مع أنه لا أحد يحتكر الحقيقة، وليس من حق جهة أن تزعم أنها حاضنة النور ومحتكرة المعرفة ".

ويرى محمود شقير:

" لا أستطيع أن أتكهن سلفاً بما سيكون عليه سلوكي في لحظة حرجة جداً مثل تلك. أستطيع أن أسلط بعض الضوء على سلوكي انطلاقاً من تجربتي السابقة، فقد انتميت لأفكار اليسار في لحظة لم تكن فيها الحريات متاحة. وبقيت منتمياً لهذه الأفكار حتى هذه اللحظة من دون أي تراجع، مع أنني دخلت السجن مرتين، وطوردت مرة، واضطررت إلى الاختفاء بعض الوقت، وفصلت من عملي مرتين، وفرضت علي الإقامة الجبرية مرة، ومنعت من السفر غير مرة، وأبعدت عن وطني مدة ثماني عشرة سنة، كل ذلك بسبب انتمائي السياسي وبسبب أفكاري التي أومن بها، ولم أتراجع ".

ولكن شقير يرى أن ما تعرض له سيد القمني يعد لحظة حرجة يتمنى ألا يتعرض لها، وإن تعرض لها فيرجو أن يتمكن من الصمود أمامها مهما بلغت المعاناة، لأن التخلي عن المبدأ أمر مؤسف، ولا يليق بإنسانية الإنسان.

ويذهب فاروق مواسي إلى أنه لن يتراجع عما كتب، لكنه – الآن – ما عاد يركز، حين يقرأ أشعاره، على نصوص تزعج الآخرين إذا كانوا يرفضونها. لقد قرأ ذات مرة السطر التالي:

ما بال قراصنة تغتالك تغتال الله
( مجلد أول، ص152 )

واتهم بالكفر، وعليه فهو يقول إنه لا يقرأ اليوم مثل هذا السطر وأسطر أخرى وردت في ديوانه ( مجلد 1، ص 132 ) نصها:

مفتاح قيدي أنت يا ربا بسّر
عذراً إذا حاولت غصبا
اقتحام
أبوابك السوداء دوني مغلقة
... ...
لا رب لا غفران
إلا دماء راعفة
وأنا أصيح فمن تكون؟

يعقب مواسي على موقفه من هذه الأسطر:

" فهل يظن أحد أنني أقرأ اليوم مثل هذه القصيدة أمام متزمتين ؟".

خلاصة هذا الجزء من الدراسة:

يخلص المرء، بعد قراءة الإجابات، إلى أن الأدباء بشر يخافون، وأن مصدر خوفهم متعدد: هناك الخوف من الطبيعة ومن الأب المتسلط ومن المعلم الجهم، ومن السلطة السياسية والاجتماعية والدينية، ويؤثر هذا الخوف سلباً وإيجاباً على كتابات الأدباء، فقد يحول بينهم وبين قول كل ما يريدون، ولكنه قد يحرض بعضهم على المواجهة.

وإذا كانت سلطة الاحتلال الإسرائيلي أخافت النشيطين سياسياً وأدبياً، فإن السلطة الدينية المتشددة والسلطة الاجتماعية غير المتنورة تخيفان الأدباء، وربما أخافت هاتان السلطتان الأدباء أكثر مما تخيفهم سلطة الاحتلال التي ترى في الكلمة خطراً، ولكنها خطر يمكن التقليل من شأنه، إذ قد تغدو الكلمة مجرد تفريغ للمشاعر ليس أكثر.

ولم ير أكثر الأدباء في السلطة السياسية الفلسطينية خطراً على كتاباتهم، إذ تسمح لهم بهامش من الحرية يمكنهم من التعبير، وإذا ما قيست بالسلطات الحاكمة في العالم العربي بدت في نظرهم أكثر تسامحاً، ولا يدري المرء كيف سيغدو الحال إذا ما شكلت حركة حماس الحكومة واستلمت السلطة، بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي.

ولقد ترك الخوف أثره على نتاج بعض الأدباء، فلم ينشر هؤلاء نصوصاً معينة نقدوا فيها الثورة، لا خوفاً منها وإنما خوفاً عليها، فهم أبناؤها الحريصون عليها. وبعض الشعراء خاف من نشر أشعاره الأولى لأنها غير ناضجة فنياً، إذ ستكون، لو نشرها، عبئاً عليه، كما أن آخرين عزفوا عن نشر قصائد لكونهم يشغلون مراكز اجتماعية حساسة، وهذه القصائد، لو نشرت، تقلل من هيبتهم في وظائفهم.

ويتمسك أكثر الأدباء بما كتبوا ويرفضون التراجع عنه لأنهم مقتنعون به، وإذا ما تعرضوا للتهديد فإنهم سيتمسكون بكتاباتهم. ولا ينفي الأدباء تأثير الخوف على إبداعهم، ويقرون أنهم كان يمكن أن يكتبوا أفضل لو كان هناك قدر أكبر من الحرية.

أ.د. عادل الأسطة
31/1/2006
1/2/2006
2/2/2006

الجزء الثاني: قراءة في نصوص أدبية:

سوف أتوقف، في هذا الجزء من الدراسة، أمام نماذج أدبية متنوعة، شعرية ومسرحية وروائية، لتناول دال الخوف فيها، وملاحظة انعكاسه في الأدب الفلسطيني، وتبيان مم يخاف الفلسطينيون أو شخوص النصوص بشكل عام.

والنصوص المختارة هنا هي لشعراء هم محمود درويش وعبد اللطيف عقل، ولشعراء ومسرحيين معاً مثل معين بسيسو، ولروائيين مثل ليلى الأطرش. وهذا الاختيار لا يقوم على أساس دراسة استقصائية شاملة، قدر ما يقوم على قراءات سابقة وآنية لنماذج من الأدب الفلسطيني ظلت عالقة في الذاكرة، أو قرئت في أثناء إعداد هذه الدراسة.

1- محمود درويش: خوف متعدد الجوانب.
2- عبد اللطيف عقل: الخوف من المستقبل، اعتماداً على تجارب الماضي.
3- سعود الأسدي: الخوف من عدم رؤية الوطن.
4- معين بسيسو: الخوف من الحاكم المتسلط.
5- وليد أبو بكر: خوف الناشر من قوى دينية وفكرية متشددة " حول طبعة رواية ليلى الأطرش: مرافئ الوهم ".

1- محمود درويش: خوف متعدد الجوانب

الخوف له حضور لافت في أشعار محمود درويش، وهناك أيضاً إتيان عليه في مقابلات أجريت معه، ومنها:

المقابلة التي أجراها معه عبده وازن الأديب اللبناني ونشرها في الحياة اللندنية وأعادت الأيام ( رام الله ) نشرها، ومن ثم الكرمل. سأقرأها، وسألتفت إلى الأمور التي يخاف منها الشاعر، والسؤال هو: مم يخاف محمود درويش؟

مثل أدباء كثيرين يخاف محمود درويش من التوقف عن الكتابة، علماً بأنه ليس من أولئك الذين ولدوا مرة واحدة مثل ( رامبو ) وطرفة بن العبد. إنه من الشعراء الذين ولدوا على دفعات، وقد بدأ الكتابة منذ نصف قرن، ومنذ 1956 وهو يكتب الشعر، ويصدر كل عامين أو ثلاثة مجموعة شعرية، وقد بلغت مجموعاته هذه اثنتين وعشرين، إن لم تكن تجاوزت هذا العدد.

ويخاف درويش أيضاً أن يكون معجمه الشعري فقيراً، مع أنه يعرف أنه ليس كذلك. أنا مرة أتيت على هذا الجانب في أشعار درويش، وقلت إن مفرداته عادية، لكن ما يكسبها ثراءً أنها ذات مدلولات متعددة، والمدلولات الكثيرة للدال الواحد في أشعاره هو ما يغني معجمه الشعري.

وثمة أمور أخرى يخاف منها درويش تتعلق بمهنته شاعراً، مثل عدم التنظير الشعري. درويش يقول في المقابلة إنه لا يُنظر للشعر تنظير ناقد محترف، وإن ما يقوله عن الشعر، شعراً ونثراً – أي في القصائد والمقابلات، يأتي هامشياً. علماً بأنه نظّر للشعر في القصائد والمقابلات تنظيراً دفعني أنا لأن أكتب دراسة عنوانها " الشاعر من خلال شعره منظراً " ( الأسوار، عكا، ع25 )، وعلمت أيضاً أن ناقداً مغربياً هو صلاح أبو سريف أنجز ورقة عن تنظير درويش للشعر من خلال المقابلات التي أجريت معه. وكنا على وشك إلقاء الورقتين في مؤتمر أدبي أشرفت عليه مجلة الشعراء في العام 2000 لولا تفجر الانتفاضة في حينه.

لا يخاف درويش فقط مما يتعلق بمهنته وحسب، وإنما يخاف أيضاً من الإسرائيليين، هؤلاء الذين سجنوه يوم كان يقيم في حيفا. لم يخف منهم يوم كان طفلاً، إذ ألقى أمام الحاكم العسكري قصيدة يحمل فيها الإسرائيليين مسؤولية ما ألم بوطنه وبشعبه وبأسرته، ولكنه أخذ يخاف منهم حين كبر. يذكر درويش في المقابلة نفسها أنه في العام 1982، بعد خروج المقاومة من بيروت، ودخول القوات الإسرائيلية المدينة، تخفّى ولم يقم في منزله حين اقترب الجنود منه، وأنه ترك بيروت لذلك، ولاقتراف المذابح بحق أهل مخيمي صبرا وشاتيلا. يومها أدرك أن الأمر لم يعد يحتمل.

وربما وجب التمييز بين خوف درويش، فهو يخاف من، ويخاف على أيضاً. درويش الذي خاف في 1982 من الجنود الإسرائيليين، أخذ الآن يخاف من أن تدهسه سيارة. هذا ما تقوله قصيدة " كما لو فرحت " من كزهر اللوز أو أبعد:

" هل تغيرت؟ قلت تغيرت، فالموت / في البيت أفضل من دهس سيارة / في الطريق إلى ساحة خالية ".

وما من شك في أنه في مرحلة ما أخذ يخاف من الزمن / من الموت. ولكنه كان يخاف على ... في شبابه، حين كان مندغماً في الهم العام لم يخف على ذاته، وإنما خاف على الفلسطينيين، على الثورة، على الحلم الفلسطيني، وهذا ما يبدو في قصيدته " نخاف على حلم ". يخاف على الحلم ومنه يخاف أيضاً.

الآن، وقد كبر الشاعر، وهو يقم وحيداً في شقة يتذكر ما ألم بمعين بسيسو، ويخاف أن يحدث معه ما حدث مع معين. ونعرف جميعاً أن معين مات في لندن في العام 1984، في الفندق الذي كان يقيم فيه، في ظروف غامضة، وعثر على جثته بعد موته، بيومين.

2- عبد اللطيف عقل: الخوف من المستقبل اعتماداً
على الماضي

في مقدمة ديوانه " حوارية الحزن الواحد "(1985) التي عنوانها " في الذكرى الأربعين لميلاد الخوف " يأتي عبد اللطيف عقل على مكونات الخوف لديه منذ طفولته، وما تركه الخوف على حياته.

وتعد هذه المقدمة، فيما أرى، أبرز ما كتبه الشاعر في هذا الموضوع، وربما تفوق ما كتبه عن الخوف في شعره كله، وإن كان ما ورد في قصائده عن دال الخوف يمت، لما ورد في المقدمة، بصلة.

وأسباب الخوف لدى عقل ومكوناته عديدة، كان الأب
القاسي والمعلم الجهم والاحتلال الغاشم والنظام القمعي، كانت هذه كلها مصدراً من مصادر الخوف، وفوقها كان هناك الفقر والخوف من الطبيعة، وتعزز هذا كله يوم غدا يشعر باليتم الحقيقي، وذلك حين تزوجت أمه من رجل آخر، بعد وفاة أبيه، وتركته لغول الزمن.

لقد تركت هذه كلها أثراً سلبياً على عبد اللطيف، وكان عليه، حتى يتجاوز أثرها، أن يكد ويجتهد ويتثقف ويتعلم ويتزود بالشجاعة، وفيما بعد في المال. وكان عليه أيضاً أن يتعلم حب الأرض والصمود عليها ما أمكن، خوفاً من فقدانها، وربما يلاحظ قارئ أشعاره هذا التركيز الكبير على ضرورة عدم مغادرة أرض الوطن، وقد بدا هذا في أكثر دواوينه بعد العام 1972.

ويلحظ قارئ ديوان الشاعر " الحسن بن زرق ما زال يرحل "(1986)، وهي مطولة شعرية بدأ الشاعر كتابتها في العام 1975، ونشر أجزاء منها على صفحات مجلة " الجديد "، يلحظ أن عقل كان ضد رحيل ابن زريق الذي خاف من التتار فسافر " لضعف في إرادة المقاومة فيه، وخوفاً من الفشل في حماية من يحب "(ص28). وهو بذلك ضد رحيل الفلسطيني عن أرضه خوفاً من الاحتلال الإسرائيلي.

لقد مات ابن زريق في المنفى وحيداً، والفلسطيني الذي يغادر أرضه خوفاً لن يكون مصيره مغايراً لمصير ابن زريق البغدادي، علماً بأن ابن زريق هاجر، كما تقول قصيدته، طلباً للرزق، لا خوفاً من التتار. ويبدو أن زعم عقل بأن ابن زريق هاجر خوفاً، ليس سوى إسقاط من الشاعر على الفلسطيني المعاصر.

وفي ديوانه " حوارية الحزن الواحد "(1985) يكتب الشاعر قصيدة عنوانها " الأطفال يغنون للمذبحة "(9/11/1982)، أهداها لطفلتيه ليلى وسلمى بمناسبة عيد ميلادهما الأول. ويلاحظ، من خلال إمعان النظر في تاريخ كتابة القصيدة، أنه كان متأثراً بأحداث مجزرة صبرا وشاتيلا التي لم يكن مرّ عليها سوى شهرين.

لقد أفزع الحدث الشاعر وأرعبه، وإذا كان هو خاف في طفولته من الليل والأب والمعلم والنظام العربي، فإنه، وقد غدا في الأربعين من عمره، غدا يخاف على ابنتيه. ولهذا الخوف مبررات كثيرة أظهرتها مجزرة صبرا وشاتيلا. ثمة تجارب كثيرة مرّ بها الفلسطيني، وثمة مجازر أقدم من هذه، ثمة مجزرة دير ياسين وقبية وكفر قاسم، وثمة مجازر في الوحدات وفي تل الزعتر. ولقد استحضرت صبرا وشاتيلا هذه كلها في ذهن الشاعر الذي خاف من أن تتكرر في المستقبل لتكون ابنتاه ضحية الزمن الغادر القادم.

وبدلاً من أن يحتفل الشاعر بجلال المناسبة، ناسياً أو متناسياً في حضرتها كل ما يبعث الحزن ويحفل بالموت، نجده لا يستحضر إلا المجازر، ويعدد الفروق بين ما يعيشه أطفال الآخرين وما يعيشه أطفال الفلسطيني. ويقفل عقل بعض أسطره الشعرية بالسطرين التاليين:

فكيف سأمنع هذا الرصاص البذيء

اختراق ثياب ابنتي؟

إن خوف عقل الذي نجم عن تجارب ماضية ومعاصرة جعله يخاف من المستقبل، وولد لديه نوعاً من ( البارانويا )، فالقاتل هو العدو وهو أيضاً الأخ القريب.

3- سعود الأسدي: الخوف من عدم رؤية الوطن

ربما وجب على المرء، وهو يكتب عن الخوف في الشعر الفلسطيني، أن يتوقف أمام تلك الأبيات الشعرية الشـعبية للشاعر سـعود الأسـدي، الأبيات الـتي ذيّل بها عبد اللطيف عقل ديوانه " الحسن بن زريق "، وقد وردت أبيات سـعود الأسدي في ديوانه " نسـمات وزوابع "، وقد سمعها عقل مباشرة من سعود يوم زرناه في بيته وغناها لنا، وآثر أن يزيّن بها غلاف ديوانه الذي سيصدره. ونص الأبيات:

خوفي أنا من الموت مش عادي
بخـاف منّــو خـوف بـزيـادة

بـخاف وخوفـي مـش أنانية
وما هو خوف على أهلي ولا ولادي

ومـا هو على تحقيق أمنيّـة
كـل الأمـأنــي، إليّ مـنـقـادة

ومـا هو مرض أو زود حنيّة
الـمـوت زاتـو، نـوم ع وسـادة

وما هو جبن من شيء أو نية
فـي الهرب مـن نـيـران وقـادة

بخاف بكـرا إن متت عينيّ
ومـا يعودو يحظوا بشـوفة بـلادي

يخاف سعود على بلاده من ألا يراها إذا مات. إنه لا يخاف على شيء في هذه الدنيا، لا يخاف من الموت، ولا يخاف على أهله وأولاده، ولا يخاف من عدم تحقيق الأماني، ولا يخاف جبنا أو ما شابه. إنه يخاف من أن يموت، لأنه لحظتها لن يرى بلاده التي يحب ويعشق. ومع أن الأسدي يقيم في بلاده ويراها، إلاّ أن أبياته فيما أرى، تعبر ربما بوعي أو دون وعي عن خوف فلسطينيي المنفى خارج فلسطين من أن يموتوا دون أن يروا بلادهم التي ولدوا فيها وهجروا عنها، ولهم فيها ذكريات.

4- معين بسيسو: الخوف من الحاكم المتسلط

في مسرحيته القصيرة التي تتكون من مشهد واحد " محاكمة كتاب كليلة ودمنة " يستحضر معين بسيسو التاريخ ليقول من خلاله الراهن. وهكذا يعبر الشاعر عن الحاضر والماضي معاً، مبدياً رأيه في أنظمة القمع التي لا يحيا مواطنوها في ظلها حياة طبيعية، بسبب الخوف منها، ما يدفعهم إلى التهرب من قول الحقيقة، لأن قولها سيكلفهم حياتهم.

يحاكم عبد الله بن المقفع بسبب كتابه ذي الأبعاد الرمزية " كليلة ودمنة "، ولكي يثبت الحاكم أن الحكم الصادر بحق المؤلف شرعي، فإنه يعقد المحاكمة، ويصغي إلى ابن المقفع الذي أحضر إلى المحكمة مقيداً بالسـلاسل، ويطلب هذا من الحاكم أن يسأل حيوانات كتابه " كليلة ودمنة " ليقولوا رأيهم، فقد يُبرأ ولا تثبت التهمة ضده بأنه يسخر من الخليفة المنصور.

وحين تُستدعى هذه الحيوانات لتبدي رأيها، تعتذر، وتتذرع بأسباب عديدة تلخص في المقطع التالي على لسان الهدهد:

" مولاي القاضي العادل ...
إن كان الأسد مصاباً بزكام
والثعلب قد قطعوا ذيله ...
والجمل هرب
ماذا تنفع يا مولاي شهادة هدهد
كي تنقذ رأس المتهم المترنح بين الكتفين "(423)

يدعي الأسد، حين يطلب منه الحضور، أنه مصاب بزكام، فيم يقطع ذيل الثعلب، وهو لدى الحلاق، وهكذا لا يحضر، لأن المحكمة لا تقبل شهادة ثعلب مقطوع الذيل، وأما الجمل فإنه، بسبب الخوف، يهرب، ليقول في المنفى رأيه، لأنه لو ظل مقيماً في المملكة لما استطاع قول الحقيقة. إن بطش السلطة، كما يتضح من خلال النص، بلغ مداه، حيث باتت الأسد تخاف من الحاكم، وهكذا تخاف من الإدلاء برأيها. وحين يفصح الهدهد عن رأيه، ويقترب من قول الحقيقة، ويلمح بها يكون مصيره الموت والحرق، مثل مصير كتاب عبد الله ابن المقفع، بل ومصير ابن المقفع نفسه.

يقول الهدهد وقد سئل عن رأيه:
" لكن أكوام الحطب هنالك في الميدان
تفصح من غير لسان ...
ولهذا جئت بعود القش ...
لأساهم في محرقة كتاب ... " (ص424)

إن العيش في ظل النظام المتسلط يتطلب من الكائن الحي ألا يقول إلاّ ما يرغب الحاكم في قوله هو، لأنه لا يريد سماع صوت آخر غير صوته، ولا يريد رأياً آخر غير رأيه. وإذا كان الحاكم قد اتخذ موقفاً مسبقاً من ابن المقفع وكتابه، فما جدوى الآراء الأخرى. إن أي رأي آخر سيودي بصاحبه إلى الهلاك، وسيكون مصيره الموت، وهذا ما يلم بالهدهد الذي تجرأ قليلاً، وقال إن أي رأي آخر غير ما ترونه لن يجدي فأكوام الحطب معدة سلفاً لإحراق الكتاب، ما يعني أن المحكمة شكلية صورية، وأن الحكم صدر. ومع أن الهدهد أحضر عود القش معه، لأنه يدرك أنه سيكون مجرد شاهد لن يلتفت إلى رأيه، فقد كان مصيره مصير ابن المقفع وكتابه: الحرق. لم يسهم الهدهد في تأليف الكتاب، واكتفى بقول الحقيقة فيما يخص المحكمة الشكلية، وهكذا صدر الحكم عليه هو أيضاً بالموت.

وسيظهر موضوع الخوف في أعمال أخرى لمعين بسيسو، ولكنه فيها لا يجعله يلجم الآخرين ويحدّ من مقاومتهم، كما هو الحال في " محاكمة كتاب كليلة ودمنة ". إنه في مسرحيته " شمشون ودليلة " يجعل أبطاله يتغلبون على الخوف، ويتحررون منه، بل ويدفعهم إلى المقاومة ومواجهة آلة القمع الإسرائيلية العسكرية.

الإسرائيلي الذي ينتصر على ثلاث دول عربية في خمسة أيام، يطلب من سكان الأرض المحتلة أن يذعنوا ويستكينوا، وحين يبدي بعض هؤلاء الطاعة خوفاً من ناحية، وإيماناً بعدم جدوى المقاومة ما دامت دول ثلاثة هزمت/ من ناحية ثانية، يرفض آخرون الرضوخ لمطالب الجيش الإسرائيلي، ويشرعون في المقاومة، وهنا يبدأ الإسرائيلي يرتجف، وهو في دبابته. ويغدو الخوف من الآخر لا وجود له، وعلى العكس من ذلك، يتحول المنتصر إلى خائف.

لقد كتب معين بسيسو هذه المسرحية، والفلسطينيون، إثر هزيمة حزيران، يعيشون، في غزة، أجواء مقاومة حقيقية، كتب عنها بسيسو كتاباً تحت عنوان " يوميات المقاومة في غزة ". وكانت غزة تحتل من الإسرائيليين نهاراً، ويحررها الفدائيون ليلاً، وظل الأمر على هذه الشاكلة حتى بداية السبعينيات من ق20.

ولعلّ المرء، وهو يقرا مسرحية بسيسو " محاكمة كتاب كليلة ودمنة "، لعله يتذكر مسرحية الكاتب السوري سعد الله ونوس " الفيل يا ملك الزمان "، وفي هذه يقعد الخوف سكان القرية ويشلّهم، ويحوّل حياتهم إلى جحيم، ولا تجدي محاولات زكريا لإخراجهم مما هم فيه. بل إنه هو، بسبب خوف سكان القرية، يتحول إلى انتهازي يرتد عن أفكاره لكي ينجو برأسه. وهكذا يستمر الحاكم في بطشه وظلمه، كما نجح المنصور في إحراق ابن المقفع ووجد من يبرر له فعلته.

5- وليد أبو بكر: خوف الناشر من قوى دينية وفكرية متشددة
" حول طبعة رواية ليلى الأطرش: مرافئ الوهم "

يوم الجمعة، في السابع عشر من آذار (2006)، تعرفت إلى الأديبة ليلى الأطرش، وأهدتني نسخة من روايتها " مرافئ الوهم " ( دار الآداب2005 )، وكنت قرأت طبعة دار أوغاريت في رام الله(2006)، وقد لاحظت أن عدد صفحات الطبعة الثانية تختلف عن عدد صفحات دار الآداب، وذلك من خلال المعلومات التي قرأتها عن الشبكة العنكبوتية ( الانترنت ). وقد عرفت أن الثانية ليست صورة طبق الأصل عن الأولى، لاختلاف عدد الصفحات (148/176) وأشرت إلى هذا الفارق في دراستي، دون أن أجري مقارنة بين الطبعتين، لأنني، يوم أعددت دراستي، لم أكن أطلعت على طبعة دار الآداب.

وحين أهدتني ليلى الأطرش نسخة من طبعة دار الآداب تكلمت بأدب جم عن طبعة دار أوغاريت، وأخبرتني أن الأستاذ وليد أبو بكر قد حجّبها ( حجمها )، وأنها غير راضية عن الطبعة الثانية. وأوضحت لي أن الناشر استبدل كلمات بأخرى، وحذف كلمات وأسقطها. وحين أجريت مقارنة بين الطبعتين لاحظت أن التغيير يتمثل في ثلاثة جوانب:
 
  تغيير في علامات الترقيم.
  تغيير في بعض المفردات نحوياً.
  حذف مفردات وإسقاطها، لا لسبب جمالي، وإنما لسبب سياسي فكري.

وما من شك في أن هذه التغييرات كلها ذات دلالة تمس المعنى واللغة، وتعبر عن موقف ما قد يكون سببه الخوف. وأظن أنه لا يخفى على الأستاذ وليد أبو بكر أنّ علامات الترقيم، في النص الأدبي، لكاتب يدرك دلالاتها، لا توضع عبثاً. إن أية نقطة أو فاصلة أو علامة استفهام سوف تؤدي إلى معنى ما أو سيكون لها دلالتها. إن وضع النقاط المتتالية، مثلاً، حين يتكلم شخص ما، لا يكون هكذا عملاً اعتباطياً، وإنما يدل على أن المتكلم توقف قليلاً، وأنه لم يكن يتكلم بطلاقة وبسرعة وباندفاع. إنه يعبر عن حالة ما، حالة نفسية أو ذهنية، وبالتالي فإنّ انقطاعه ووضع النقاط للتعبير عن ذلك لا يكون بلا دلالة فنية.

وحين عدت إلى مواطن من الطبعة الثانية وقارنتها بالمواطن نفسها في الطبعة الأولى، ولاحظت التغيير في علامات الترقيم، اكتشفت أن التغيير لم يكن موفقاً إطلاقاً. إن حذف النقاط (....) واستبدال فاصلة بها، لا يعبر عن حالة المتكلم النفسية.

وربمـا يكـون التغيـيـر النحـوي أحيانـاً غيـر دقيـق أيضـاً، وقـد يكون في ذلـك اجتهـاد.

وربما يكون ما دفعني لهذه الكتابة النوع الثالث من التغيير – أعني إسقاط مفردات واستبدال أخرى بها. وقد يكون ذلك ناشئاً عن الخوف. هل خاف وليد أبو بكر، ناشراً، من طالبان والقاعدة؟ أم أنه خاف على المؤلفة نفسها، علماً بأنها نشرت روايتها في بيروت عن دار الآداب؟ وهذه أكثر انتشاراً واشتهاراً من دار أوغاريت؟

أنا واحد من الدارسين الذين يتابعون هذه التغيرات التي يجريها الكتاب أنفسهم وأصحاب دور النشر. ولقد أنجزت مقالات ودراسات عديدة حول هذا. لقد أشرت، مثلاً، إلى طبعة كتاب محمود درويش النثري " يوميات الحزن العادي " التي صدرت عن دار الأسوار في عكا، وأسقط منها الناشر فصولاً من الكتاب، ربما لأنه يقيم تحت الحكم الإسرائيلي، وقد لا يرضى هذا عما ورد في الكتاب عنه. ولقد أتيت في دراسات عديدة على ظاهرة الحذف في أشعار محمود درويش وسميح القاسم وفي قصص محمود شقير، وحاولت أن أقدم تفسيراً علمياً لهذه الظاهرة.

ليلى الأطرش أخبرتني أنها غير راضية عن طبعة ( أوغاريت )، وبالتالي فإنها ليست مسؤولة عن الحذف والإسقاط والتبديل. فأين هي مواطن هذا؟

سأورد فقرات من الطبعة الأولى، وأخرى من الثانية ليطلع عليها القارئ بنفسه:

1- " والأهم أننا كنا مع المجاهدين وطالبان ".(ص54).
2- " والأهم أننا كنا مع من يسطرون على الزراعة .. "(45).
1- " أقنعتهم بأننا سنعرض قضيتهم على الشاشة لمزيد من التعاطف وجمع الأنصار والتبرعات، فنحن مسلمون "(ص54).
2- " أقنعتهم بأننا سنعرض قضيتهم على الشاشة لمزيد من التعاطف وجمع الأنصار والتبرعات ...... "(ص45).
1- " أوووه .. بل أدمنت عليه "(ص54).
2- " أوووه .. بل تعودت عليه "(ص45).
1- " وهل أدخلته بلادك ؟"(ص55).
2- " وهل أدخلته ؟ "(ص45).
1- " قررت التوقف عنه إذا عدت سالماً من كابول "(ص56).
2- " قررت التوقف عنه إذا عدت سالماً من رحلة بعيدة "(ص47).
1- " طلبت من قائد أفغاني وبعض المقاتلين العرب كمية حشيش فأعطوني الكثير، قالوا تدبر أمرك في مطار بلادك، أما مطار كراتشي فإخراجك منه علينا .. تعرف أن حكومة بي نظير بوتو كانت تدعمهم وتساندهم. وكذلك الأمريكان " رأيتهم يدخلون ويخرجون من المطار كأنه مطار أبيهم "(ص57).
2- " طلبت ممن أعرف كمية الحشيش فأعطوني الكثير، قالوا تدبر أمرك في مطار بلادك، أما المطار القريب فإخراجك منه علينا. تعرف أن لهـم من كان يدعمهم ويســاندهم. رأيتهم بنفسـي يدخلون ويخرجون من المطار كأنه مطار أبيهم ".(ص48).
1- " هذا ما تريده زبانية الشيطان من الكفار والنصارى "(ص58).
2- " هذا ما تريده زبانية الشيطان من الكفار ".(ص48).
1- " أخبرته أنني قادم من تصوير المجاهدين في أفغانستان "(ص59).
2- " أخبرته أنني قادم من التصوير "(ص49).
1- " والله لأقص شاربي لو كان هذا البعثي الذي لا يحمل الابتدائي يريدك حليلة "(ص95).
و: " والله لو بقيت في العراق لتحولت إلى شرموطة البعثيين لا زوجة عميدهم "(ص95).
2- " والله لأقص شاربي لو كان هذا الغبي الذي لا يحمل الابتدائية يريدك "(ص80).

و " والله لو بقيت في العراق لتحولت إلى شرموطة لهم لا زوجة عميدهم "(ص80).

ثم لماذا أقدم وليد أبو بكر على ما أقدم عليه؟ علماً بأنه ليس صاحب الرواية، وصاحبها هو من يدفع الثمن أولاً، إذا رأى المذكورون أنه أساء إليهم. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فأظن أن الناشر، وهو ناقد روائي، يعرف، أكثر من غيره، أن الرواية تمتاز بأنها ذات أصوات عديدة، ما يعني أن الكلام فيها ليس صادراً كله عن المؤلف الذي قد يختفي وراء بعض الشخصيات، وينطقها باسمه، وفوق هذا كله فالكلام الذي ورد على لسان الشخصيات، وهي عربية من أقطار مختلفة، كلام معروف وشائع، عدا أن برامج تلفازية شاهدها ملايين المواطنين العرب، قالت ما قالته الشخصيات، بل وقالت أكثر منه.

لماذا إذن أقدم أبو بكر على ما أقدم عليه؟ من المؤكد أن الدافع ليس جمالياً. هل هو إذن خوف من طالبان والأمريكان والإمارات العربية، ورغبة في عدم الإساءة، في هذه المرحلة، للبعثيين، بعد أن حلّ بهم ما حلّ؟ ثم إن هؤلاء كلهم ليسوا ذوي شأن في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي مناطق العام 1948؟

وقد يقول الناشر إنهم ليسوا كذلك في مصر، ومع ذلك فإنهم هددوا سيد القمني، وإذا كانوا وصلوا إلى قلب أمريكا، وهدموا البرجين في 11/9/2001، أفلا يصلون إلى الضفة أو الأردن حيث تقيم الكاتبة؟

خلاصة الجزء الثاني من الدراسة

ظهر دال الخوف في نصوص أدبية فلسطينية عديدة، وكانت منابعه متعددة، وأفصح بعض الأدباء عن موقفه منه ودعا إلى ضرورة التغلب عليه، لأن الركون إليه يَشلُّ الحياة.

ولوحظ أن الفلسطيني، مثل غيره، يخاف من الطبيعة والفقر وفقدان الأشياء العزيزة عليه كالوطن والأم. وأنه يخاف على أبنائه كما يخاف على نفسه.

وليس الخوف الذي يعتريه نابعاً من فراغ، فتجاربه التي مرّ بها كثيرة؛ ثمة حروب فرضت عليها، وثمة حكام طغاة حكموه، وثمة انتداب واحتلال نجم عنه طرد الفلسطيني من أرضه وتشريده في بلاد الله.

وفوق ما سبق فقد تعرض الفلسطيني في المنافي، وتحت الاحتلال الإسرائيلي، إلى مجازر عديدة، جعلته يخاف من الماضي، ومن المستقبل أيضاً.

ولما كان من الفلسطينيين الأديب والشاعر، وكان هذا ذواقة للجمال وللفن، فإنه أخذ يخاف من ألا يتقن مهنته وحرفته أيضاً، وهكذا شكل الهاجس الجمالي لديه مصدراً آخر من مصادر الخوف، تماماً كما أنه، في كبره، أخذ يخاف من الموت ومن الدهس بسيارة ... الخ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى