السبت ١٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم محمد يحيى ذهني

ميكروباص

لا يمكن اعتباره ميكروباص فعلاً، ربما ميكرو ميكروباص. لأن حمولته المفروضة خمسة أفراد غير السائق والكرسي بجانبه. يتحول العدد خمسة إلى ستة بحشر السائق لشخص زائد بين الكرسيين خلفه. وأفضل تعبير عن تلك الميكروباصات هي لفظة"تونّاية" نسبة إلى علبة التونة لصغرها. وأحياناً إلى "تونّاية" الحشيش كما يقال.

لا أحد يحب ركوب تلك السيارة لكن المضطر يركب الصعب. قدرنا أننا ولدنا في عشوائيات ، لا توجد منها و إليها مواصلات محترمة، ويطلب سائقو التاكسي للتوصيل إليها مبلغاً تعويضياًً . لذلك معظم من يعيش هناك ينزل من المواصلات العادية في أقرب نقطة من منزله ،ويضطر لركوب "التونّاية" ، مفضلاً إياها عن الأوتوبيس. لأنها أسرع ،وهو أكيد مرهق.

يوجد على هذا الخط ما لا يقل عن عشرين سيارة ، كلها ملاكي وليست أجرة ، لأنها ليست مرخصة، بل هي استحداث ل"سبوبة " يحاول فيها بعض الشباب المتعطل طبعاً، و منهم المجرم وصاحب السوابق، أن يجدوا وسيلة شريفة للرزق. يقومون فيها بحل مشكلة لساكني العشوائيات وتلبية حاجة ضرورية لهم . منهم الأجير على السيارة ، ومنهم من يسدد أقساطها. المهم أن كلهم يأكلون الطريق لإنهاء الدور في أسرع وقت ممكن والعودة بدور آخر بسرعة، ويتشاجرون على الأدوار والزبائن. كل هذا لجني أكثر ما يستطيعون من مال ، ويقومون برشوة أي ضابط أو عسكري يتعرض لهم، وإن عاند يطل الوجه الإجرامي لهم وتنتهي الأمور بمأساة . يرحلون عدة أيام، ثم يعود الأمر كما كان، وقد اكتسبوا خبرة جديدة في صراع البقاء.

أكثر ما لفت نظري في أحدهم هو أنه ليس شاباً. رجل عجوز رصين ، يبدو على وجهه الهدوء والحكمة. ويعطي انطباعاً بالخبرة في القيادة، وكأنه ولد كقائد سيارات ليموزين، أو حتى قائد طائرة. هناك شيء جذبني إليه. لكن بمجرد أن جلست مكاني وانطلق بالسيارة حتى أدركت أنه مثلهم. طلع أمريكاني، وطبعاً لم يلتزم بالمسار الطبيعي، الطويل والمزدحم، أخذ طريقاً مختصراً، يسير فيه بسرعة مجنونة، مستعيناً بفرملة مفزعة قبيل أي عائق، أو أي شخص يسير مطمئناً في الشارع على أنه شارع جانبي. طبعاً لا أحد يجرؤ على الاعتراض لأن هذا هو الحال دائماً، لكنني تحسرت على ظني الحسن فيه . نظرت إلى وجهه فوجدته هادئاً أبداً. حتى و هو يرتكب الفزع الأكبر، ويعبر طريق سريع بدون إشارة ولا تنبيه. هو يقفز أمام السيارات الأكبر والأقوى فجأة ويعبر إلى الجانب الآخر، ويسير عكس اتجاه حتى يجد الفتحة التي توصله إلى الطريق الصحيح. هذه اللحظة بالذات، وكل مرة أشعر أنها النهاية. لكن يبدو أن سائقي السيارات الأخرى اعتادوا على ذلك فيتفادون تلك "التونّايات" لاعنين أصحابها وراكبيها.

لا أنتبه عادة لأشكال السائقين. لكن صرت أترقب الركوب معه لسبب لا أعلمه، هناك راحة عجيبة أجدها في تلك السيارة بالذات، ربما إعجابي برصانته وثقته بنفسه هو السبب. حفظت رقم السيارة وشكلها.وذات مرة وأنا سعيد لأن ميعاد قدومي صادف دوره، فوجئت بآخر يجلس مكان القائد، والعجوز يجلس إلى جانبه. كنت أجلس بجانب فتاتين خمنت من شعرهما وهيأتهما أنهما مسيحيتان. وأمامي رجل ملتح يمسك بمصحف صغير يقرأ فيه بهدوء. لا أدري ما الذي جعله يرفع عقيرته بالقراءة، ولو أنني أعتقد أنه ظن أن الذكر الحكيم بصوته غير الرخيم سيجعل الفتاتين تشهران إسلامهما. بعدها انطلقت نغمة هاتف نقال تحمل صوت تامر حسني. طالت النغمة ولم يرد صاحب الهاتف. وعندما سكتت أتبعتها أغنية أخرى لنفس المطرب. غطى صوت الهاتف على صوت القارئ، ارتبك هو وابتسمت الفتاتان. أدركت أن الأمر سيتحول إلى فتنة طائفية. خاصة أن الراكبين بجانب القارئ نظرا خلفهما شذراً، مال أحدهما وهمس إلى الملتحي بشيء. توقف بعدها عن القراءة، أخرج من حقيبته ثلاثة كتيبات. أعطى كل واحد منهما كتيب، واستدار لي وأعطاني واحداً. وفجأة أصبح القارئ ثلاثة قراء. وقامت الفتاتان بتشغيل الهاتفين على أغنية واحدة حتى يعلو الصوت. نظرت إحداهما إلي في سعادة لأنني لا أقرأ. ربما ظنت أنني مسيحي، أو حتى أناصرها في موقفها. لكن انتباهي في تلك اللحظة لم يكن على القراء ولا الفتاتين. بل على العجوز ومن خيل إلي أنه ابنه، لوجود شبه لا تخطئه العين بينهما. كانا في عزلة عما يحدث خلفهما، تماماً كما كان الخمسة ركاب في عزلة عما يحدث في الأمام. كان العجوز يعلم ابنه القيادة، بنفس السرعة المجنونة، و في نفس الطرق الملتوية. الفارق أن الابن لم يكن في نفس ثبات الأب. كان مرتبكاً ويخطئ كثيراً، ويفرمل بعنف أكبر لأنه ينسى أحياناً مكان الفرامل. كان العجوز يتكلم بصوت واضح وهو يرشده، وأحياناً يساعده في السيطرة على السيارة، دون اعتبار لشعور الركاب، هذا لو انتبهوا. وعندما حانت لحظة الفزع الأكبر. سمعته يقول:

  اطلع بسرعة واعبر الطريق .

وهذا ما حدث. لكن الفتى لم يكن بنفس شجاعة الأب .عندما رأى السيارات تهجم عليه فرمل فجأة ، أتبع ذلك فرملة أخرى ثم اصطدام. وجدت الأب نائماً على ابنه والدم يغطي وجهه. توقفت التلاوة وغطى صوت صراخ الفتاتين على صوت تامر حسني. وقائد موتوسيكل يسب ويلعن "التونّايات" وراكبيها.

لم أعد أركب في تلك السيارة أبداً بعد ذلك. كان الرقم هو أول ما أنظر إليه ، فأبتعد منتظراً أن ينتهي تحميل السيارة. يظهر بعدها الابن وقد اكتست ملامحه بالثقة وخبرة القيادة. لكنني قررت ألا أعيد تلك التجربة معه. وبعد فترة صلح حالي فلم أعد بحاجة للتوفير، واستعنت بسيارات التاكسي واستغنيت تماماً عن "التونّاية". وكلما رأيت "تونّاية" بنفس الألوان أنظر إلى الرقم ، لكنني لم أصادفها ولفترة طويلة. حتى أتى يوم وأنا في التاكسي، على نفس الطريق الذي تقتحمه التونّايات دائماً، وقد تعطل المرور. بعد ربع ساعة لم أجد بداً من النزول وإكمال الطريق على قدمي. مررت بجانب سيارة إسعاف، والمسعفون يحاولون إخراج الجرحى من حطام "التونّاية"، وسيارة ونش تستعد لرفع ما تبقى منها، والرمل الممتزج بالدم يغطي الطريق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى