الاثنين ٢٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

أكرم هنية في جديده

دروب جميلة القاتلة

بعد انقطاع ست سنوات عن نشر القصة القصيرة يصدر القاص أكرم هنية مجموعته القصصية "دروب جميلة" (2007)، وكانت آخر مجموعاته القصصية "أسرار الدوري" (2001). وكتب القاص قصصه الأخيرة الثمانية ما بين 2004 و2006، ما يعني أنه لم ينقطع عن الكتابة، وإنما انقطع عن النشر.

وربما قرأ المرء العنوان قراءتين، قبل أن يقرأ القصص، الأولى: دروبٌ جميلةٌ، والثانية دوربُ جميلة. وفي الأولى تكون جميلة صفة لدروب التي هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه قصص عنوانها دروبٌ جميلةٌ، او مبتدأ خبره محذوف، ويكون التقدير: دروبٌ جميلةٌ قصصٌ قصيرة كتبها أكرم هنية. وفي الثانية تكون جميلة مضاف إليه مجرور بالفتحة بدل الكسرة، لأنها ممنوعة من الصرف.

وحين يقرأ المرء القصص فإنه سيقصي الاحتمال الأول، ويعزز القراءة الثانية. فجميلة هي الفتاة التي أحبها عيسى اليافاوي، ولم يعد يعرف عنها، أثر حرب العام 1948، شيئا، وخمن أنها سارت في دروب ثلاثة هي: "أن تذهب مع عائلتها برا إلى القدس أو رام الله أو غزة، أو أن تذهب بحرا إلى لبنان أو غزة، كما فعل آلاف من أبناء المدينة، أو أن تبقى في يافا" (ص55). ونعرف أنها بقيت في يافا، وأنها استشهدت مع عائلتها هناك.
وستكون الدروب صعبة وقاسية في كثير من القصص، بخاصة التي قارب القاص فيها الموضوعات الوطنية: زمن حسان، وكان ذلك قبيل موتنا، ودروب جميلة. وربما تذكر المرء، وهو يقرأ هذه القصص وعنوان المجموعة، إن كان قارئا للأدب العالمي، قصة (جورج أمادو) "دروب الجوع"، وقصة (جنكيز ايتماتوف) "جميلة". ودروب الأولى دروب جوع وقسوة، وقصة جميلة لا تسر أيضا، إذ أجبرت على الزواج ممن لا تحب، وقضت حياتها في هم وغم.

تأتي قصة "زمن حسان" على حياة الفلسطينيين إبان انتفاضة الأقصى، وعلى معاناتهم على الحواجز، وهكذا تكون دروبهم دروبا صعبة وقاسية. وتأتي قصة "كان ذلك قبيل موتنا" على سجان وسجين فلسطينيين، سار الأول في ركاب اتفاقيات (أوسلو)، وسار الثاني في ركاب المعارضة، ولم يَنجُ هذا أو ذاك، فقد ماتا، إبان انتفاضة الأقصى، إثر قصف الطائرات الإسرائيلية لسجن نابلس المركزي، وتأتي الثالثة "دروب جميلة" على قصة عيسى اليافاوي الذي يقيم في المنفى، في الكويت، بعد نكبة العام 1948، وهناك يموت، بعيداً عن مدينته وحبيبته التي كانت ماتت في عام النكبة.
وسيلحظ المرء ضربا من استحضار الماضي في بعض القصص سواء التي تناول كاتبها فيها موضوعا وطنيا "دروب جميلة" أو تلك التي أتى فيها ساردها على تجربة شخصية مر بها "في البحث عن الزميلة ندى"، وفي هذه لا ينفصل الهم العام عن الهم الخاص، وفي "ترانزيت الأطياف الشاحبة"، فهذه من ألفها إلى يائها تدور حول علاقة عابرة بين رجل وامرأة، في روما، يظن الرجل أنه كان يعرف المرأة، وهكذا يتساءل، إن كانت هي التي عرفها. وهذا ما يكون، ففي نهاية القصة تناديه المرأة/ نادية باسمه: رمزي، ما يؤكد له أنها هي.

وسيلحظ المرء أيضا أن أحداث القصص لا تدور في مكان واحد. فبعضها يجري في فلسطين: زمن حسان وكان ذلك قبيل موتنا ودروب جميلة [فلسطين والكويت] وألوان هادئه ومونولوج نهاري، وستة مقاعد في مقهى صغير، وبعضها يجري في الكويت: دروب جميلة، وفي مصر: في البحث عن الزميلة ندى، وفي روما: ترانزيت الأطياف الشاحبة.

وإذا كان هناك تنوع في المكان، فإن الأسلوب السردي يكاد يتقارب، فالقصص كلها، إلا في مواطن في بعض القصص، تسرد عبر الضمير الأول. ويختلف السارد فهو في "زمن حسان" حسان الذي ولد على الحاجز، والسارد في "كان ذلك قبيل موتنا" فلسطيني ينتمي إلى حركة فتح غدا موظفا في السلطة الوطنية بعد إنشائها، والسارد في "دروب جميلة" هو طبيب الأسنان الذي يسرد ما حدث معه، ويسرد أيضا ما سرده عيسى اليافاوي عليه، فالقارئ لا يصغي إلى عيسى يقص عليه، وإنما يصغي إلى طبيب الأسنان يقص ما مر به وما قصه عيسى عليه. وربما بدا الاختلاف في السرد قليلا في قصة " في البحث عن الزميلة ندى"، إذ نصغي إلى نحن تقص، ثم إلى أنا من ضمن النحن تقص. مرة يقص الخمسة معا، ومرة يقص واحد منهم عن تجربته هو. وتشبه هذه القصة القصة الأخيرة "ستة مقاعد في مقهى صغير" ففيها نصغي إلى سبعة شخوص: أربعة رجال وامرأتين وصاحب المقهى، كل يقص ما يفكر به، وما يدور في خلده. وإذا كنا في "في البحث عن الزميلة ندى" نقرأ قصا بضمير الأنا. فالأفراد ليسوا أصدقاء عاشوا، فترة، متقاربين، وإنما هم لا يعرفون بعضهم، وما يجمعهم هو المكان الذي يجلسون فيه، كل على طاولة منفردة. المكان، لا العلاقات، هو ما يجمعهم.
وربما كانت بعض قصص هذه المجموعة غير منفصلة عن قصص سابقة للكاتب نفسه، بخاصة قصة "في البحث عن الزميلة ندى"، فقارئها سرعان ما يتذكر قصة "وردتان للزميلة ندى" التي برزت في مجموعة "هزيمة الشاطر حسن" (1980). السارد في الثانية "في البحث عن الزميلة ندى" يزور القاهرة للمشاركة في مؤتمر عن العولمة. وحين يشاهد صورة ندى في الصحيفة يتذكر علاقته معها قبل خمسة وعشرين عاما، ويحاول أن يتصل بها. ما الذي يربطه بها الآن، وقد غدت له عائلته وغدت لها عائلتها؟ هذا هو السؤال الذي يراود السارد، ثمّ عمّ سيتحدثان؟ ويتذكر الأيام الجميلة التي عاشها معها يوم كان طالبا جامعيا يدرس في القاهرة. يتذكر أيام المظاهرات والاجتماعات والحب وما شابه.

هل القصة السابقة هي القصة الوحيدة التي تذكر قارئ قصص هنية الجديدة بقصصه السابقة؟ لا أظن ذلك، فهناك قصص أخرى فيها من السمات المشتركة مع القصص السابقة ما فيها. كان أكرم هنية يلجأ أحيانا كثيرة في بناء قصصه إلى المخيلة واللامعقول، وهذا ما بدا في قصص مثل: "مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداءً هاماً"، و"قبل الحصار" ...بعد الشمس بقليل... في الأولى ترفض الأجنة الخروج من أرحام الأمهات، لأن الآباء يقيمون في المنافي، ولا تريد الأجنة حياة بلا آباء، أو بآباء بعيدين عن الوطن، وفي الثانية يصحو أهل القدس، ذات صباح، ليجدوا الصخرة انسرقت. وفي زمن حسان، في المجموعة الجديدة "دروب جميلة" يولد حسان على الحاجز، وينمو، ويذهب إلى المدرسة، ويدخل إلى الجامعة، ويتزوج، وينجب، والحواجز التي أقيمت بعد 2002 بين مدن الضفة ما زالت موجودة. لا تخلو القصة من عنصر الخيال الذي برز في قصص الكاتب منذ بدأ يكتب. وليس عنصر الخيال هو العنصر الوحيد. في المجموعة الجديدة يعود هنية ليكتب قصصا ذات بناء، وهو ما يبدو في قصة "كان ذلك قبيل موتنا"، وهو بذلك يواصل ما بدا في قصص سابقة له مثل قصة "عندما أضيء، ليل القدس" (1986) وقبلها "يوم قتل إبراهيم الأقرع". ثمة لازمة تتكرر في القصة بين فقرة وفقرة، أو ثمة تواز في السرد، فتارة يسرد بضمير الهو وطورا بضمير الأنا، وسنلحظ هذا الأسلوب يبدو بارزاً مؤخرا في رواية الفلسطيني أنور حامد "حجارة الألم" (2005) المكتوبة بغير العربية أصلا، والمنقولة إليها، وفي رواية "شيكاغو" (2007) لعلاء الأسواني.

قصة زمن حسان نموذجاً:

في قصة "زمن حسان" نصغي إلى حسان يقص علينا قصته، وكما ذكرت، فقد ولد حسان على الحاجز. والحاجز بين مدن الضفة وقراها غدا أمرا قائما منذ اشتدت انتفاضة الأقصى واتخذت الأحداث فيها مجرى عنيفا، وتحديدا منذ التفجيرات التي قام بها الفلسطينيون في الحافلات الإسرائيلية والأسواق والمطاعم في المدن الإسرائيلية أيضا. كان الحاجز منذ العام 1967 طيارا في الغالب، يقام في مكان معين، لفترة معينة، ثم سرعان ما يزول. والمشكلة الأساس كانت في جسور العبور بين الضفتين الشرقية والغربية، فعلى هذه الجسور قاسى الفلسطينيون وعانوا، ومروا بحالات من الإذلال: الفحص الآلي، والانتظار والتحقيق والمنع من السفر، والاقتياد إلى السجن، وربط الحطة والعقال بالحذاء. وقد عبر الأدباء، شعراءَ وقصاصين، عن هذا كله في أشعارهم وقصصهم. وربما يتذكر قراء فدوى طوقان قصيدتها المشهورة عن حالة الذل التي مرت هي بها، مثل مئات الآلاف من الفلسطينيين.
وفي فترة انتفاضة الأقصى لم تخل كتابات كثيرة من الكتابة عن الحواجز وما يلم بالناس عليها. ثمة عشرات، بل مئات المقالات، وثمة قصص ربما كان أبرزها قصة عزمي بشارة "الحاجز" (2004) التي نعتها بأنها "شظايا رواية"، وفيها صور، بلوحات ساخرة، معاناة الفلسطينيين على الحواجز.
فكرة قصة زمن حسان، إذن هي فكرة مطروقة نوعا ما، فما الجديد الذي أتى به أكرم هنية؟ هذا هو السؤال الذي يثيره المرء حين يقرأها.
حين بدأ أكرم هنية يكتب القصة القصيرة وينشرها، هنا في فلسطين، كانت قصصه لافتة من نواح عديدة، فهو كان من أوائل الذين وظفوا التراث العربي الشعبي والفصيح، في قصصه، مثله مثل إميل حبيبي في فلسطين المحتلة في العام 1948، وهو كان أول من وظف اللامعقول في بناء قصصه أيضا. وربما أفاد في ذلك من دراسته الأدب الإنجليزي، وإقامته فترة طويلة في القاهرة، ما بين 1971 و 1976، وهو أيضا أول من بنى قصته على أحداث كانت تبدو خيالية، لكنها مع مرور الأيام غدت أمرا واقعا. إن بناء قصة يتخيل فيها الراوي سرقة الأقصى، في العام 1979، كان أمرا جديدا في قصتنا. الحدث متخيل فلم تسرق الصخرة، لكن أكرم هنية الذي بدأ يزور القدس يوميا، ليعمل في جريدة الشعب محرراً فرئيس تحرير، كان يشاهد المستوطنات تكبر على أطراف المدينة، وكان يصغي إلى أخبار تتحدث عن محاولات صهيونية عديدة لشراء بيوت في البلدة القديمة، وهكذا رأى أن القدس في طريقها إلى الضياع.

في قصة زمن حسان، يعيد الكاتب كتابة أحداث الواقع كتابة فيها قدر كبير من الخيال. فحسان الذي يولد على الحاجز، في انتفاضة الأقصى، أي بعد 28/9/2000، يكبر ويتعلم ويذهب إلى المدرسة ويدخل إلى الجامعة ويتخرج منها، ويغدو موظفا ثم يتزوج وينجب أيضا. والمدة ما بين ولادته وإنجابه لا تتجاوز السنوات الخمس أو الست على أكثر تقدير. وهنا يريد القاص أن يقول: لقد غدا الحاجز أمرا واقعا. لقد أقيمت قرية على الحاجز، بني فيها بيوت، وجاءها أغراب ليقطنوا فيها، وتشكل لها مجلس محلي، وما زال الحاجز حاجزا. ونمت بين أفراد حرس الحدود والجيش الإسرائيلي وبين حسان وأترابه علاقات، تبدو أحيانا صاخبة ملتهبة، حيث يرشق الناس الحجارة على الجنود، وتبدو أحيانا أخرى عادية، ولا أريد أن أقول: علاقات فيها قدر من الصداقة. فحسان حين يحادث الجندي الأرمني (أفنر)، في لحظات الهدوء، يحادثه بخجل، ذلك أن الجندي جندي احتلال، على الرغم من إنه صارح (حسان)، ذات مرة، بأنه أراد أن يترك السيارة التي كانت فيها أم حسان وقريباتها، ليلة ولادة حسان، تمر لتلد أم حسان ابنها في المشفى، لا على الحاجز، كما حدث، ولكنها الأوامر التي تلقاها (أفنر)، هي التي حالت بينه وبين السماح للسيارة بالمرور.

نحن إذن في القصة أمام قصة للخيال في بنائها نصيب كبير، علماً بأن كل ما يرد فيها يجري يوميا على الحواجز، وربما جرى عليها أكثر بكثير مما ورد في القصة، بل وأعنف بكثير منها، وربما يتذكر أهل مدينة نابلس قصة الفتاة النابلسية ميسون الحايك المتزوجة من شاب ريفي كان تعرف إليها في الجامعة فتزوج منها، وأنجب طفلة، لكنه قتل على الحاجز، وهو ينقل زوجته لكي تلد في المشفى، وأصيب أبوه بجراح خطيرة. وسيكون عيد ميلاد البنت، إن كان عيدا، مناسبة قتل والدها.

ينتزع أكرم هنية إذن أخبار قصته من الواقع، لكنه لا يكتب قصة واقعية مائة بالمائة، فللخيال، كما ذكرت نصيب فيها. وهي قصة تذكرنا برواية سليم بركات "فقهاء الظلام" (1985)، وأظن أن أكرم هنية قرأها، فلقد تسربت نسخ منها، في حينه، إلى القدس، بعد أن أصدرها محمود درويش عن سلسلة كتاب "الكرمل" الذي صدرت عنه أعمال أكرم هنية معا. وتقوم رواية "فقهاء الظلام" على حدث متخيل. إن سليم بركات يعيد كتابة ما يجري في قرية كردية بأسلوب خيالي، فبطل الرواية يولد ويكبر وينمو ويتزوج ويخلف، وكل هذا يجري في عام واحد. هكذا ينمو ويكبر فجأة، ويريد أن يتزوج مرة واحدة، ويحاول الأب أن يتهرب منه، لكن زوجته تقترح عليه أن يزوجه من ابنة أخيه "مهمد". وهكذا ينمو البطل في الساعة الواحدة ما يقارب ثلاثة أعوام. وحجة البطل في ذلك: "يوم واحد يكفي. أن تستمر في التذوق يعني ألا تعيش أكثر. المعرفة تكفي والإحساس بالطعم شواذ في القاعدة". (ص27)
وربما تذكر قارئ قصة هنية قصيدة محمود درويش "جندي يحلم بالزنابق البيضاء". فثمة حوار في القصة، في لحظات الاسترخاء على الحاجز، بين حسان وبين (أفنر) الذي لم يخدم هو فقط في الجيش الإسرائيلي، وإنما أرى حسانا صورة لابنائه الثلاثة، وهم يرتدون بدلة (تساهال). يجري الحوار التالي بينهما:

"أذكر أنني سألته، وأنا أتصبب عرقا في ظهيرة يوم حزيراني لافح: أفنر.. كم فلسطينيا قتلت في حياتك؟
لم يهزه السؤال، وإن تردد قبل أن تخرج الكلمات منه بطيئة: لا أعتقد أنني قتلت أحدا، ويضيف: ربما جرحت عديدين" (ص22).
وهذا الحوار نقرأ مثيلا له في قصيدة محمود درويش المذكورة التي عاد وكتب قصيدة قريبة منها، من جديد، في ديوانه: لماذا تركت الحصان وحيداً (1995) هي قصيدة "عندما يبتعد". في جندي يحلم بالزنابق البيضاء يجري بين الشاعر والجندي الحوار التالي:

- وكم قتلت؟
 يصعب أن أعدهم...
 لكني نلت وساما واحداً.
 سالته معذبا نفسي، إذن
صف لي قتيلا واحداً.
أصلح من جلسته وداعب الجريدة المطوية
وقال لي كأنه يسمعني أغنية:
كخيمة هوى على الحصى
وعانق الكواكب المحطمة

(ص216) من أ.ك.ط6/1987)

وعموما فإن قارئ دروب جميلة سيقرأ قصصا تقارب الهم الوطني، وأخرى تقارب الهم الذاتي الإنساني أيضا، وأهم ما يميزها أنها قصص لا تخلو من عنصر التشويق.

دروب جميلة القاتلة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى