الأربعاء ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٧

آمال عوّاد رضوان في "سلامي لك مطرا"

تعزف الآتي بقيثارة الحياة

بإيقاع تجربةٍ أصيلةٍ تنتمي إلى الفنّ الصّعب والتّشكيل المنفتح، عمادها حضور الذّات ومعاناتها، حيث الينابيع الأولى للانفعال الذي لا يُبنى على التّعليل، بل على البراءة والانعتاق، لتغدوَ الكتابة حالة خلق وابتكار، حاملة لصيرورتها ومجازها.

هكذا آمال عوّاد رضوان، وهكذا مجموعتها "سلامي لك مطرًا"، حيث لا يقتصر إبداعها على المفردة التي تتّسم بالكناية التي هي أشمل وأعمق من الإيجاز، بل يتجاوزه إلى ربط القصيدة بذاتها، أي حريّتها، حيث تشكّل لحظة زمنيّة تتحرّك بزمنها، وتمشي باتّجاه تفجير محتوياتها بالجوهر، واللّغة والتّفاصيل التي تكون للغتها، والتي لا يمكن لها إلاّ أن تشكّل استثناءً حواريًّا مع الآخر والزّمن، وبالتّالي مع اللّغة ضمن انبثاقاتها بصيف غابة، وسحابة عشق.

تشرق آمال بطقس يتأبّط طقس السّلام بين يدي شجرها والمطر لحكايات حنونة، تفرد ريش أقمارها، وتُواعد مجرّة الوقت المقطوفة من عطر سيرته الحلم، هي الحافظة لموسيقا ريحه، تعرف إجابات عشبه وشجر البرق، تُجيد العزف الإلهيّ على سيرة أقمار، (رجل الحبّ) المسكون بيقين الرّوح وحمّى المكان، حيث سلام المطر له، وله غيم القلب، وجنون الحكايا، بسطر بنات الكلام كاقتراف يليق بها وحدها، تنزف الصّبر، وتوزّع ثمارها الشّعريّة على مهبّ السّؤال دخانًا كما لا تشتهي، وكما لا يريد هاجسها الذي يدقّ قامة المواعيد بمرايا هديلِهِ، لتقول لعينيه: سماؤك تمطر وجهي وأجنحة خضراء خارج الأوقات:

بَراءَةُ الفَجْرِ
تُسْدِلُها عُيونُ المَلائِكَةِ
مِنْ
قُبَّةِ العَدْلِ
عَلى
هَديلِ يَمامِ الرّوحِ
*
ظِلالُنا الهارِبَةُ
مِنْ تَنّورِ سُكونِ الكِتْمانِ
بِوَداعَةِ غَيْبوبَةٍ مَحْمومَةٍ
تَ
نْ
فَ
رِ
طُ
عَناقيدُ لَهيبِها
جَمْرَةً
إِثْرَ
جَهْرَة

هي التي ما زالت بنكهة الشّعر تُغري زنبقة الحبور البريء، ونحن الّذين ما نزال داخل ارتباك القصد الذي يحصد انتظاره، بأصابع جرح حرائق جملتها، والشّاعرة تضيف صمتًا لنا، وترتّب موسيقا الحكاية لفاتحة الصّبح من انحناءة الفرح وملح النّدى، تساقط أقمارًا، والشّوق يتهاطل جوابًا معتّق النور بقامات السّلام وعناقيد العتبات، لتقول منجزه وباقي جرن الحزن، منذ قوس الزّوبعة يتعثّر بصمته، ويلبس طقوس قرنفلة الصّدى، تُضمر عشبًا، وتفتح قاموس المعنى ببساطة من يضبط ماء الدّهشة للنّقاء، برخام ضحكة تغزلها على جسد الأغنية، لتمتدّ، ولتعبر المفترق الطّالع من ضلع المطر، وتؤكّد جريان الحبق بحنينه، فتزهر الذّاكرة بالاحتفاء حيث الضّوء نبضها، والوقت فراشة خفقتها:

يا.. المُتَلَبِّسُنِي صَمْتَ عِطْري
وَالشّاطِرُني سُطوعَ شِعْري
رَحْمَةً بِعُيونِ الشَّياطينِ
يا.. الغافِيَ عَلى صَحْوَةِ قَدَري
رَحْمَةً بِكَوانينِ الجُنونِ
*
يَتَنَفَّسُكَ حاضِري الجامِحُ فيكَ
في أَرْوِقَةِ وُجودي
نِداءاتٌ تَتَوارى خافِتَةً
خَلْفَ هَوْدَجِ النُّعاسِ

بسرديّةٍ قابلة للقراءة، وللتّأويل بمفهومه الحداثيّ اليفترض إمكانيّة تحقيق قراءة موضوعيّة لإنتاج توصيف للنّصّ، تأخذنا معها آمال بين التّجريبيّ والجدليّ، بأناةٍ وعمقٍ وحساسيّةٍ نثريّةٍ قادرةٍ على أنسنة مادّتها، وتخليق الفضاءات الملائمة لتعداد صورتها، وأسلبتها بتنوّع لحظتها وجدلها، إن بتفرّد اللّغة، أو بسعة الأفق المجاور لقيامات الذّاكرة، بتنوّعات الوعي وتلويحات التّوق، وبالألفة الضّامّة مفرداتٍ بليغةَ الاحتفاء بفعل الإدهاش:

تَحْمِلُني إِلَيْكَ قَصيدَةٌ
مَصْبوغَةٌ بِدِماءِ بَوْحي
تَتَحَسَّسُكَ بِموسيقا دَمي
تَتَفايَضُ نَسْغًا لَزِجًا بِعُروقِ الأَنْفاسِ
لِتُطْلِقَ أَجْنِحَةَ ذُهولِكَ في فَضائي
وَتَتَّكِئَ العُيونُ المَأْلومَةُ
عَلى
مَسانِدِ الاشْتِعالاتِ!

هو الشّجن، هو المدى المفتون بحرّيّة الأشياء والاشتياقات، وأفعال الزّمن الجميل بلهفةٍ عالية الشّغف، لا يمكن الفلات منه أو نسيانه، لأنّه قائم داخلنا بأفعال الصّفاء الدّاخليّ، كاحتماء من الضّجيج والخراب بهاجس الشّعر، وشرط الإبداع الممكن، ضمن فضاء منحاز لصفائها الدّاخليّ.
بحواريّة أعلى من جملة التّشكيل، يتأكّد الحبّ بوجه فوضى القطيعة والهجر والشّتات، عبر علاقة آمال بمنظومة جملتها المبنيّة على تناغم داخليّ، لازمة الأشكال والمترادفات الحسّيّة، تغنّيها بملاحظاتها وانطباعاتها المعبّرة عن فطرتها الموحية وموهبتها:

بِغاباتِ فَرَحي المَنْذورِ لَكِ
تَتَسَوَّلُكِ أَنْهارُ حُزْني ..
ظِلالَ بَسْمَةٍ تَدْمَعُ بِكِ
لِتَرْسُوَ مَراكِبُ ذُهولي المَحْمومِ
عَلى
صَفَحاتِ لَيْلِكِ المائِجِ
أَتُراني أَسْتَجْدي دَمْعَةً عَذْراءَ
في شِتاءاتِ الخَطايا؟
سَرْبِليني بِمِعْطَفِ عَطْفِكِ الآسِرِ
لأُطفِئَ بَرْدَ الأَوْهامِ

بحيّز واسع الشّغف واحتياجات الرّوح، كمّسّرّاتٍ واندهاشٍ لفعل التّماثل مع الكونيّ الذي يتحقّق ضمن التّصوّرات والتّجلّيات، كرغبة عارمة ببساطة الألفة والحبّ، قريبًا من فعل الرضا:

نَحْنُ المَجْبولونَ بِالحُبِّ كَرَمْلِ حَنينٍ
تَخارَقَهُ زَبَدُ اشْتِهاء..
أَلا تُنْقِذُنا أَمْواجُ بَراءَةٍ
مِنْ خَطايانا؟!
أَلا تَرْحَمُ بَقايانا
نَواقيسُ مِنْ أَلَق؟

كصاحبة دلالاتٍ مبهجة، تَعْبُر آمال كردٍّ على الاغتراب المراد إبداءَه، ضمن قاموس التّفاصيل المرهقة، توحِّدُها آمال بغنائيّة الرّوح، وحنين الطّموح، والتّحالف مع بساتين القلب وحواسّنا، بقدرتها التّأويليّة، وأبّهات الإشارة للحزن الكامن:

عَلى
شَواطِئِ العَتْمَةِ
يَدْرُجُ نَوْمُكِ اليَتَّكِئُ
عَلى
عُكّازِ صَحْوَتي
وَفي إغْماءَةٍ شَهِيَّةٍ
يَشُدُّني حُنُوًّا
إلى صَدْرِ غَفْوَةٍ سِحْرِيَّةٍ
*
أنا مَنْ أَثْمَلَني السَّهَرُ
ظَنَنْتُني كَفَفْتُ عَنِ المَشْيِ
في تُؤْدَةِ أُسْطورَتِكِ
لكِنّي.. أَصْحو
لأَضْبِطَ خَيْطَ فَجْرِكِ
يَتَلَصَّصُ في امْتِدادِهِ
يَتَمَطّى مُتَثائِبًا
في ذاكِرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِضَبابِكِ

بشعريّة عميقة متأصّلة وبراعة النّهار المُعلَنِ، شجرةُ الحزن ما زالت تتفرّع، حيث لا يمكن أن تقرأ مجموعة آمال إلاّ بعد أن تتخطّى ذاتك، وتصبح مؤهّلاً لاختراقها بالصّمت والخيال، والخصوصيّة المتفجرة في رؤاها وانفعالاتها، والتي تأتيك على شكل هذيانٍ مشحونٍ، بأحاسيسها المتيقّنة من امتلاك مفاعيل العلاقات المتداخلة مع الفكرة الأساسيّة، حيث سلطة الصّورة لا تلغي تلك العلاقة الغامضة، ولا تنفي شرطها الثّقافيّ الذي يفترض إمكانيّة تحقيق الموضوعيّة، بل قابلة للإدراك كتوصيف وكسرديّة حسّيّة ومعرفة كامنة:

عَلى
مَوائِدي التَزْدَحِمُ
بِرَقائِقِ بَسْمَتِكِ الشَّقِيَّةِ
بِفَطائِرِ حُبِّكِ المَعْسولَةِ
أَأَقْتَرِعُ... عَلى
كِ سْ رَ ةٍ
مِنْ خُبْزِ نُعاسِكِ؟
أَأُقامِرُ على
نَ غْ مَ ةٍ
مِنْ ماءِ هَذَيانِكِ؟
أَتُبَعْثِريني بِـ
حَ فْ نَ ةٍ
مِنْ خَميرَةِ أشْعارِكِ؟

المعرفة هنا؛ هي إنتاج اختصارات من الجملة والتّشكيل، حول ما يجري من تفكيك لعناصر تماسكها وثوابتها ومنعكساتها المتزايدة، بقوّة الدّلالة لمصطلحات أكثر إحاطة.
بمثل هذا الطّيف المفهوميّ العريض الذي هو ليس بسرد تأكيد جودة الخلق الشّعريّ للصّورة، بل هو شكل التّجلّي الشّعريّ، وأدوات استخدام الشّاعرة لمتخيّلها المتفرّد كعبور إلى ساحة الهامس، وإلى الاسترداد المخزوني، أي الحدث، وهي غير منخرطة بشرطه الواقعيّ كاجتزاءٍ من كلّيّة العناصر، بل كفاعليّة لمسار النّصّ:

أَيا راعِيَةَ حُقولِ القَلْبِ: أَما حانَ القِطافُ؟
عَلى
سُفوحِ التَّرَقُّبِ
تونِعُ ابْتِساماتُ بَراعَتِكِ يَراعًا
تَتَدَحْرَجُ
ثِمارَ فَرَحٍ
إلى
سِلالِ اللَّحَظات
*
تَعالَيْ..
تَتَبَّعي رَفيفِيَ العَسَلِيَّ
إلى
مِنْحَلَةِ الصَّفاءِ..
هذا الأَسْوَدُ النّاصِعُ بِكِ
رَمادُ مارِدي
تَطوفُ من حَوْلِهِ يَعاسيبُ صَوْتِكِ
تَبلُّ بِحَنانٍ
لِسانَ القَلَم ِاليَصْهَلُ:
"أُحِبُّكِ"
خَلِيَّةَ القَلْبِ لاغِفيها /
هَيْهات...
هَيْ... هَااااات...

ثمّة اختلافاتٌ قائمة على التّضاد غير المعنيّ بالانتماء لشرط الواقع؛ لأيّ شرط واقعيٍّ تاريخيٍّ أو وجوديٍّ، أو أيّة شخصيّةٍ أخرى غير الإبداع، من حيث، أنّ المبدع دائم الحِراك ضمن التمرّد على العوائق، ممّا يتيح له إنتاج الأسلوبيّة، وهنا، نجد الشّاعرة ضمن مَدارك وحواريّاتٍ لغويّة على نصّ يشي ولا يكشف، يعني ويقصد، إنّما بالتّرميز، متجاوزة بذلك ما يُدعى بإشكاليّة الأدب النّسويّ، بمعادلة رفض التّصنيف، إلى أدب إنسانيّ يتعدّى محدوديّة الثّنائيّة، تخترق حاجز الخصوصيّة بأجواء ونفحات صوفيّة، تفوح منها رائحة الشّوق والغربة، والتي نتلمّسها خاشعين في عالم يتّجهُ نحو إلغاء مكوّناته، هكذا أيضًا، تمضي آمال بمستوىً عالٍ من التوحّد بالمشاعر، حيث عمق انفعالات العلاقات الفاغمة، بين المؤوّل والمتوازن لنصّ وجدانيّ، بنبض داخليّ سليم، كفهمٍ لحركة الحسّ الجماليّ العفويّ التّعبيريّ، وربطِهِ بمقوّمات الحياة المرتكزة لدى آمال، على الشّفافيّة التي تتطلّب اندهاشًا يُحاكي ما بداخلها من جراءة تلقائيّة:

في مَراعي الغَزَلِ
لأُغافِلَ وَسَنَ النُّجومِ
لأَنْجُمَ سَماءَنا بِقُبَلِ أسْمائِنا
تَتَشابَكُ لَثْمًا
تَتَواشَجُ وَهجًا
فَوْقَ
انْسِكابِ روحِكِ
شُعاعاتُ سَحَرٍ ناعِسَةٍ
تَغْمُرُ عُيونِيَ
تَنْهَمِرُ
موسيقا تَتَغَنْدَرُ
تَهْفو في
انْسِيابِ
البَوْحِ
عَلى
إيقاعِ رَنينِ كَأْسَيْنِ تَوّاقَيْنِ لِلْعِناق
*
أباريقُ روحي مُتْرَعَةٌ بِكِ حَتّى الجَمامِ
تَطْفَحُ حُبًّا..
تَرْشَحُ شِعْرًا..
وَيْحي إنْ تَحْتَرِقْ أسْرابُ عَنادِلي
في اُشْتِعالاتِ بَوْحِكِ

تُدخلنا آمال إلى طقوسها المحزومة بالفرح والوجع وأشياء أخرى، لتقول:
أبدًا، هي الدّهشة المتشكّلة بتلقائيّة النّزف الشّعريّ وقوّة المعنى، كلّ هذا بعفويّة لا متناهية، تجمح بين تضادّات الأشكال وبين انسيابيّتها، ممّا يجعل المتلقّي شريكًا، برسم الطّيف وجدليّة المنقول والمعقول واللاّمعقول أيضًا، إنّما ضمن إيقاعات آمال:

شَمْشومِيَ اليَتَجَبَّرُ
لَسْتُ غُوايَةً تَتَدَلَّلُ
تُقَصِّفُ جَدائلَ جَبَروتِك
*
باهِتَةٌ تَهاليلُ المَوْتى..
إنْ تُسقِطِ الهَيْكَلَ
إنْ تَتَّخِذْ صَدْرِيَ الأجْوَفَ قَبْرًا لِلنُّسورِ
أوْ خَفْقِيَ الهادِرَ بوقَ حُزْنٍ
حينَما يَنْتَحِرُ الضَّوْءُ قُلْ: ربّي!
لي وَلأَحِبّائِيَ الحَياة
لِتُظَلِّلْنا أَرْياشُنا
وَلمّا تَزَلْ تَحُفُّنا هالَةٌ مُخَضَّبَةٌ بِنا
أبَدِيَّةَ التَّأَلُّقِ!

ودون أن يتحوّل الواقع الشّعريّ، إلى ضغط مستديم ومتواصل لحالة الألم والمرارات، تخرج آمال بأسئلتها التي تتحصّن بالضّوء، وتبحث عن سماء، دون أن يكون ذلك طريقًا لصنع البكاء، بل بنصّ الخلجات ودوافع المورث، بلغة الحرف وجملتها الومّاضة:

يا مَنْ تَرْتَسِمينَ بَتُولاً في أيْقونَةِ الطَّهارَةِ
ألَوْحَةً سَماوِيَّةً تُشْرِقينَ
عَلى
تِلالِ ذِكْرَياتِي
لأظَلَّ ضَميرَكِ اليَسْتَتِرَ خَلْفَ جِبالِ صَمْتِكِ؟
.....
أيَّتُها الغابَةُ التَتْرعينَ بِوَحْشِيَّةِ الجَمَالِ
إلامَ يَظَلُّ يَفْتَرِسُني ضِياؤُكِ الشَّرِسُ؟
إلامَ تَظَلُّ تُلَوِّنُني رَائِحَةُ عَتْمَتِكِ الوَضَّاءَةِ؟
يا مَنْ تَنْبُتينَ
عَلى
عَتَباتِ خَافِقي المَهْجورِ
أَشجَارَ زينَةٍ تَفوحُ بِزَهْرِ صَوْتِكِ
يَزدانُ بِكِ فِرْدَوْسُ نِدَاءاتي
أتَقولينَ:
سَلامِي لَكَ مَطَرًا؟!

نحسّ أحيانًا، أنّ آمال تنتهج نهج المقاطع؛ كلّ مقطع يُؤدّي غرضًا وجزءاً من حدث، ضمن تفعيلات متوائمة مع المُعَنْوَن، باتّحادٍ جاذبٍ واتّساقٍ جميلٍ نابضٍ بحسّ الواقع الحدث، والظّرفِ المغتال بأبجديّة الحبّ، وأمكنته اللاّفتة، كأشكالٍ منبثقةٍ ومنتميةٍ للذّاكرة:

بِمَطاراتِ عُزوفي
عَبَّرْتُكَ خِلْسَةً في قافِلَةِ الأَغْرابِ
مَلأْتُ بِحَصادِ يَأْسِكَ
حَقائِبَ قَلْبي المُثْقَلَةَ بِكَ
(ومن قصيدة زغب شمعي)
في مَتاهاتِ الأَحْلامِ
يَئِنُّ خَريرُ عَتَباتِ الوَفاءِ
أَيُّهذا السّاهي
عَلى
صَفْحَةِ الصَّمْتِ
تَنْحَتُ وُجوهًا في مَرايا المَصيرِ
هِيَ ذي رُموشُ العَطَشِ
تَسْتَسْقي مِنْكَ آمالاً
تُلْقي سُحُبُ دَمْعِكَ مَراسيها
تُنْهِدُ فَراغَ أَباريقِكَ بِأَطْيافِها
وَهُوَ ذا سِراجُ سُكونِكَ
يَكْبو غُبارُهُ في رَذاذِ نَوافيري

تُقيم الشّاعرة علاقاتها اللّغويّة التي ينهض عليها فضاؤها الخياليّ، والحامل لملامح الكينونة التي تحمل هويّة إبداعها، والمشحون بالصّور والرّموز والدّلالات، ضمن تقاطعات وتشابكات ومقاربات، تنتج لنا تشاركيّة العلاقة، بمعنى الإحساس بالمكان الذي يكشف منحنى العلاقة، والبؤرة الضّوئيّة المنتهجة، لاستجلاء المحدّد للكائن الشّعريّ بإطاره العنوان:

أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى
تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ
في فِخاخِ الانْتِظار
حُوريَّةُ الأَمْسِ
تَ
سِ
حُّ
مِنْ بَيْنِ أَصابعِ المُوسِيقا
تَتَأبَّطُني مَغْمُورَةً بي
تَطوووووفُ.. داااااااااااااائِخَةً
تَحْمِلُ حُلُمي إلى مَعْمورَةِ هَذَياني
هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ
وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ
لِنَتَوَشَّحْ بِفَرْحَةٍ تَهِلُّ ميلادَ أَحِبَّةٍ

تتموقع كدعوةٍ تنتظر الإجابة من فضائها الدّاخليّ، متحرّرة بالوقت عينِهِ من واقعيّة الجغرافيا، لتنحت لنا طيفَ الرّجل المعنيّ بها لحنًا، ما بين صلاة ابتهال وصلاة مطر، يتطاول كطقس عبادة ورجاء متّصل بين الواقعيّ والحلميّ، وبين الحتميّ والمتخيّل.
بكل تلك الانسيابيّة الحميمة، وقسوة الواقع المتشكّل، والمتناغم بأحواله، تنقلنا مع تشكيلات رؤيتها، من الصّورة الشّعريّة إلى الرّوح على امتداد حروفها التّلقائيّة، لتؤكّد التّلقائيّة كفعل معلن، ومعلّق بالذّاكرة المعلّقة على عتبات الفرح المتاخم للحزن والحنين، متوقّدة كما أبدًا، ومتوحّدة مع ذاتها.
تؤنسن آمال سرّ النّبض، وتوحي بأنّ ثمّة خيالات وانكسارات شعريّة، تتحدّث عن جسد غير محقّق وغير معلن بكل أبعاده، حيث لحظة الانعتاق عن المادّة، جسد تختزنه ذاكرتها، كما واقع جماليّ، لتعيدَ تجسيده ما دام هناك متّسع من حكاية:

مِنْ خَلْفِ حِجابِ السَّمَواتِ
نَجْمِي السَّاهي يَتَلَصَّصُ
يُنَجَِّمُ مَناجِمَكِ الجاثِمَةَ بِكُهوفي
يُعَرّي بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ
ياقوتَكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ
مَن ذا الأَباحَكِ بي؟
يا خَميرَةَ زَمانِيَ الآثِم
تَعْجِنينَ دَقيقَ حاضِري بِماءِ الماضي
تُسَوِّينَ بَشَوْبَكِ صَفائِكِ أَقْراصَ قُرْباني
تُخَمِّرينَ خُبزَ خَيالاتي بِمَتاهاتِ طُهْرِكِ
وَفي خِلوَةِ سُهْدِي
أَتْلوني قَصائدَ وَداعَةٍ
عَلى
عَتَباتِ مَراياكِ!

الحلم لديها اقتراب من ماهيّة الأشياء، تأتي بشال الرّيح ورائحة الغابات، كقبلات نورٍ للحياة بوحدة الإدهاش، تستمطر الكلمات رهافتها كعطر يُرابط بين المكان وأهلّتها، دون خلل تنظم العلاقة مع شرط التّحقيق، خارج الإدراك وداخل الشّخصيّة، بدلالاتٍ لفظيّةٍ لغويّةٍ، بما لدى المخيّلة من مخزون ثقافيّ وتراثيٍّ وحسّيٍّ، أقرب للطّبيعة وتقلّباتها، بحيث أنّك لن تعرف ببساطة، ما هي الخطوة القادمة التي تحاول ضمن نصّها، أن تقدّم ما هو ممكن أو ممنوع أو غير مألوف، تحاول ببساطة خلق ساحة الإحساس النّاتجة عن رؤيتنا لمشاهد شجنٍ، لحقيقةِ سحر الحرف الذي غالبًا ما يُجيب عنه الإحساس به:

وَعِرَةٌ فُصولُ وَقْتِيَ الأَرْعَنَ
يَمْلؤُها خَواءٌ
يَ
تَ
سَ
ا
كَ
بُ
يَتعَفَّرُ بِغُموضِ حَوّاء
وفي تَعاريجِ التِّيهِ بِكِ
أَحْمِلُني ظِلالاً شَارِدَةً
تَتشاسَعُ...
أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ
في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ
وَعَلى
إيقاعِ جِهاتِكِ
مُتَماهِيًا بِي
يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!
*
دُونَكِ.. يُنادِمُني كأْسُ الأَربِعاء
يَلْهَثُ وَفاءُ المَواعيدِ الجَوْفاء
يَئِنُّ بُسْتانِيَ ظامِئًا
يَعْوي الصَّمْتُ في قَفصِ جُوعِهِ
يَتذاءَبُ.. يَتَوَعَّدُ حُملانَ حَكاياكِ
يَ تَ هَـ جَّ ى
أَنّاتِ آهاتِيَ التّائِهَةِ

تحكُمُها مقوّمات الإبداع بمفهومه العامّ والخاصّ، والذي هو عبارة عن حوار، وخلاصة التّجربة التي ترتدّ بعبقها إلى الحكاية الأكثر عمقًا وعفويّةً، وارتباطًا بمعطيات الحنين، وأحكام كائناته التكتسب سِماتِها عبر الإخلاص لنقائِها:

عَباءاتُ نَواطيرِكِ تُهَفْهِفُ
فَوْقَ
مَساماتِ وَجْدي
تُحَلِّقينَ مَغْمورَةً
بِشُعاعٍ مِنْ ظِلِّ دُعائي
أُرَقِّيكِ مِنْ كُلِّ يَبابٍ
بِاُسْمِ أَشْجارِيَ الوارِفَةِ
فَلْتَحُلَّ عَلَيْكِ بَرَكَةُ خُضْرَتي

كهجرةٍ دائمةٍ إلى تضاريس الرّوح ومنعرجاتها المثقلة بالصّيرورة الأولى، تستنهض آمال نصوصَها بالبهاء المنداح على ضفّة الجسد، بإشعاعِهِ الذي لا يذبل، لبوابّة الرّوح، كجسر يربط مكوّناتها إلى بعضها، مؤكّدةً إيجازها والاختزال:

مُطَوَّبٌ هُوَ تذْكارُكَ وَالذِّكْرى طيبٌ
وَشْمَةٌ تَتَّسِعُ فَوْقَ خَدِّ سَديمِكَ بِلا سَدّ
تَتَمَرَّغُ رَغْبَةً في أَديمِ مَرْتَعي بِلا حَدّ
تَغْتالُ بَحْرَ الغَيْبِ
تَغْتَرِفُ مِنْ رَعَفِ الغُروبِ ضَوْءًا نَزِقًا
تَصُبُّهُ وَرْدًا شائِكًا
يَفْتَرِشُ نَشيجَ المَوْجِ
شاهِدَةً فَوْقَ لَحْدِ النَّهارِ:
"أنا لَسْتُك.. وَما كُنْتُك"

هذا النّوع من الكتابة التي تشي مفرداتها بقيمة منفصلة عن الخطاب، وتلك هي الميزة الجماليّة للنّصّ النّثريّ لدى آمال، حيث هو مجموعة شروط لها خاصّة الصّياغة والإشارة والبنية والمعنى، وبكلّ تفاصيل النّصّ المحقّق، والذي يشكّل من الأشكالِ، أبجديّةَ خلقٍ للتّعبير المُثقل، بأوّل موج النّبض الذي يتّسع لأكثر من قوس قزح.

الحوارُ كمُرتكزٍ أساسٍ لتنوّع الاستلهام الشّعريّ:

يُمثّل نصّ آمال إضافة للتّجربة بما فيه من فضاءات شاسعة تخصّها كمبدعة، وتخصّنا كمتلقّين جادّين نبحث عن مداخيل النّصّ، لأنّ ثمّة خصوصيّة التّنوّع الفاعل لا التّكرار، يحكمنا بمشهد آمال، حيث لا تكمن الخصوصيّة فقط، بما يتضمّن المتن النّصّيّ، بل ببُنيةِ وطريقةِ اختطاط العوالم التي تبتكرها، بلغتها وحساسيّتها الخاصّة، كإضافات للمشهد الإبداعيّ، ليست مجرّد إيصالٍ معرفيٍّ لهدف ما، إنّما هو مشروع دلاليٌّ، بوصفه منجز يختزن طاقته الكامنة، والتي يحوّل الحرف إلى قيمة وقدرة على استنطاق اللّغة، والكشف عن أسئلةٍ متنوّعةٍ، تضعنا وجهًا لوجهٍ مع فهمنا المتعدّد لجماليّات المحتوى، والشّعر بهذا المستوى خلقٌ، لأنّه ليس خارج الأشياء، بل هو محتواها المتّحد بها، وهو منعكس الأشياء:

يَنْغَمِسُ خَمْرُ مَوْجي

في خِماراتِ خَفْقِكِ
يُشَكِّلُ اخْتِماراتِ الحَواسِّ
موسيقا..
دِفْءَ قَصيدَةٍٍ
عَصافيرَ بَوْحٍ
تَذوبُ ألْوانًا تَتَماهى بِأَقْدارِها
في خُفوتِ الألْسِنَةِ
*
جَمالُكِ؛ يَشُقُّ غِشاواتِ روحي بِطَلْعِهِ
صَداكِ؛ أزَلُ قَصائِدَ رَخيمَةٍ
شَذاكِ؛ عَبَقُ أمْطارٍ تَتْلو صَلَواتٍ
تُحْيي بَصَرًا تَكَلَّسَ في عَيْنَِيِّ قَداسَتِكِ
*
خُطى وَرْدِكِ الضَّاحِكِ تَطَأُ بَساتينَ وَجْدي
تَضوعُ أَنْفاسي في باحاتِ أَريجِها
تَسْتَحِمُّ أَنْداءُ العُيونِ بِهَسيسِ النِّداءاتِ
تَنْدَلِعُ أمْطارُ اشْتِعالاتِها
تَتَنَهَّدُ شِعْرًا..
تَتَبَسَّمُ عَفْوًا..
وَتَتَهَلَّلُ في أَرْواحِنا.. أَغْمارُ الغِبْطَةِ!

إنّه الانزياح بدرجاته المختلفة والمتفاوتة، يجعل القراءة تأخذ مستويات عدّة، حتّى بأشدّ حالات اقترابها من ترويض النّصّ الذي لا تتماهى فيه، بل تضيف آمال علية صوتها، جادّة برسم ملامح تخصّها وحدها، وبالتّالي، تؤسّس لتركيبة تعبيراتٍ تنحلّ داخل وعينا ولاوعينا، بشرود التأمّل الذي يسلّم قلبه النابض للإبداع الشّعريّ، لنحسّ بأنّ شيئًا ما داخلنا قد اكتمل، شيئًا مختلفًا عن قاعدة المعجزة، لكنّه متوحّد بشروط الحلم والمبادرة أيضًا، ولأنّه كذلك، سيتحوّل إلى بُعدٍ وملامح نريدها ونحتاج إليها، لاجتياز حدود الفكرة، أي إظهار النّار الدّاخليّة، بانطلاقة الصّورة وتراكيب النّصّ، وهذه إمكانيةُ تطويعٍ للعلاقة البصريّة السّمعيّة، واستكمالٌ لها كميزة إبداع، لا تعني الانغلاق بوجه الخصوصيّات الأخرى، بل هي تأكيد لحواسّنا وذائقتا التي تضيء الوعي، بمكاشفات واستبصارات قرائن الشّعر الرّافد لتطوّر الوعي.

إنّها لدى آمال حالة تطابق مع الذّاكرة والمخيّلة والانزياح والانجذاب معًا، وهنا يكمن سرّ تطويرها الخلاّق للنّصوص التي اجترحتها، بشكل بانوراميّ مضيءٍ ومعنيٍّ بمحمولاتها الشّخصيّة والإنسانيّة.

تعزف الآتي بقيثارة الحياة

بقلم سمر محفوض - شاعرة وناقدة من سوريا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى