الثلاثاء ٢١ آب (أغسطس) ٢٠٠٧

الجرأة ملازمة لحرية الإبداع

عناية جابر - عن السفير اللبنانية

جديد الباحثة والكاتبة أمينة غصن، عن «دار الفارابي» كتابها تحت عنوان: «نون في المحراب» ويهجس الكتاب على مدى فصوله المتنوعة العناوين بالنشأة وبالحفر في التكوين عبر إشراقات الكاتبة اللغوية، وغموض مجازاتها. لأمينة غصن مجموعة من الإصدارات السابقة تُحرّك آن إصدارها، راكداً في الوسط النقدي الأدبي والفلسفي من «مشاكستها» وجرأة طروحاتها. عن جديدها، هذا الحوار.

 «نون في المحراب» جديدك عن دار الفارابي يستدعي سؤالين معاً: لغتك وسر متانتها؟ وهل هي شبيهك الإنساني قبل الإبداعي؟
 للغة طبيعة بكر تتكئ الى استعارات لا نهائية، وإلى أساليب منحرفة تفكك ما كان، لتبتدع لنفسها سلالات من الذوات التي تختلف ولا تأتلف!! فاللغة إذ تنقطع عن مركزيتها وتوغل في الفراغ، تستحضر المسكوت عنه، لعلها به تلغي الذاكرة العظمى المعاندة والمكابرة التي هي ذاكرة الغياب، وأصله ومنبعه. فاللغة إذ تستحيل إبداعاً، تعود إلى تصوّر أفلاطون الذي يمثلها عبر ثنائيات السم والترياق، فتارة تجرّم باعتبارها خطاباً آبقا ومحرِّفا، وطوراً باعتبارها مسخاً للنص المعجز، مما يجعلها قاصرة، وهجينة، إذ تعاني اهتزاز أصولها التي قال فيها سقراط: إن اللغة التي ليس لها أب يحميها، هي خدعة تقوم على إحياء التذكر، وتنهض من مفارقات التراكم، لا من قوانين الضرورة.
فالكتابة إذ تمتد العمر كله، وتستغرقه، تقوم على «فن السحر والشعوذة» كما يقول جاك دريدا، الذي هو سمٌّ لا ترياق ما ان يتجرّد من حماية صاحبه، ويصبح مطروحاً مرة واحدة وإلى الأبد ،عاجزاً عن استعادة ذاته.

من هنا فإن لغة الإبداع، هي لغة يتيمة وكأنها «ابنة» لا أحد، بل ابنة «التيه» و«الرحيل» و«الهجرة» التي تسافر كما الريح في كل اتجاه.
فاللغة عندي، كنهر نرسيس، مرآة، تعكس وجهي الذي أخشاه وأتهيبه، وأخشى عليه وأتهيب قدره. تنفلت مني، وتتغرب في تراكماتها، وإذ تصاب بقلةٍ، تتجحفل بكثرة التراث ومخطوطاته، وتعود لتقتحم البياض، لعلها تُرضي أرقها، وترضى.

فإذا كانت الكتابة مرآة ، فمن مهماتها أن تتحول إلى نصٍ، توأم لمبدعها، يتأملها قائلاً في المرآة : كأنك، أو كأني في خلاسية النقص والاكتمال. أقولك فينقص قولي، وأمتلئ بالفراغ بعدك، حتى تحضرني كلمات تغدر بك وبي، فأخونك، وأبحث عني. فالكتابة عندي كمثل غجرية تمتطي الرياح، وتمضي. تترك وراءها القبور، وتمضي في صهيل الوقت، وهي ترقم في الصهيل، لا في الوقت: لما وزع الله دياناته على البشر، كتب الغجر ديانتهم في أوراق الشجر، وبنوا للأوراق مخدعا من الحجر، وقبل أن يمضي وقت طويل، جاع حمار فأكل أوراق الديانة، وتمدد في المخدع، وتوسد الحجر. هذه الحكايات التي توقظها الكتابة، هي الزاد في الخيانة، وفي الغدر، وفي الأساطير، وفي البشر. الغجر ليس لديهم أبطال، ولا أرض موعودة، ولا أناشيد، ولا أطلال، ولا كتاب، ولا أضرحة، ولا صروح، ولا ديانة للثواب وللعقاب، لديهم التيه، والحب، وخرافات عن الأسلاف وأخرى عن أبدية العذاب.
تسألين عن وجهي الإنسان، والمبدع، وأرقبهما يقامران معاً، ويقهقهان معاً.

الغجر وأشباههم، وحدهم من لا يتعب من الرحيل. أما المقيمون الذين تربطهم أحذيتهم بالأرض، فليسوا ممن يعشق سقوف القول، وألغاز السماء، يكفيهم الإبداع لا الابتداع، والمنحنيات لا الهوات، فيعتذرون بالقلة، ويتهيبون من النخبة، وليس لقلتهم المتهيبة، إلا ولوج مكامن الابتداع، لعل سراً يمزق براقعه، ويطل. يصعب على كتابتي الانحناء، وعدم التشوف إلى السماء، أضن بمحبرة قديمة قدم البكاء، أعيرها جروح سنواتي والسنوات، حتى يقال: ها قارئي يتعلل بالغباء، وأتعلل أنا بفيض دمائي والدماء.

نون العذراء

في فصل «كتاب النون وغفران الذنوب» تقول العذارى: «لا بيت لنا ولا حقيقة. فسّر السّر منا خبأته الأزمان في الأشرعة العتيقة، منذ أبحرن وغبن. هل المرأة هي سر السر، والغرام الأقص، والجرح الأقص، والحزن. هل تتوجينها جنساً غريباً مستغلقاً عن الرجل في منحها كل هذه الأسرار.
∎لما كانت العذراء نوناً أي محبرة كما يقول فيها المتصوفة، ولما كانت هوّة كما يقول فيها جورج باتاي فإن المرقم أو القضيب الذي يظن أن فيها وليمته، يلجها بعماه متقرياً أركانها، مرتعشاً، يهاب الوقوف خارج ضفافها، كما يهاب انغلاق الضفاف عليه. ففي الهوة، سحر من آلهة قديمة نسيت شهقات الروح والجراح، لتتقمص صرخات الموت والولادة.

فللنون طقوس لأنها المحل الوحيد لتجليات المرقم، وخروجه من خوف الصمت والعزلة الى النطق والمجاهرة. فالنون يُحفظ عنها، ولا يتحفظ منها، يميل المرقم اليها، ولا يميل عنها، كفتنة الخرافة، وهجنة الفحولة، فللنون كتب المرقم وحكايات الماء، واللبن، والعسل، وهوات الجراح بين الضفتين. فحول الهوة الوحشية، تدور المراقم كما في حلقة ذكرٍ حول رقعة، أشبه بليليت إلهة الليل والقمر وإلهة الخلوات، وشيطانة المحاريب، فالنون لا وجه لها إلا الصعق، ولا حقيقة لها إلا تحولات غير مرئية: تبدأ بقفل محكمٍ، كتميمةٍ، وتنتهي عند آخر هو كفن!!

فالمرقم إذ يزغرد في الرقعة، يستذكر القثاء الطويل، في التين اللين وفي فنك الحرير، وينسى أن الرقعة لا تسيل بسحر الزلال مرتين وأن الروح يروّعها ولوج الجرح مرتين، وأن أنكيدو جاء بجمرة الليالي واتكأ الى عطر الخلود، وجعل من الزغب الناعم، وسادة تحت الردفين.
ليست هي الجنس الغريب، ولكنها الآخر المنغلق، تموت وتنبعث كأعجوبة أنّى تشاء. هي التي تبني هرماً عالياً من الشهوة يتأرجح فوق تخوم الحياة والموت: ايروس وتاناتوس. ترحل كما المتعة، وتختال كما الهاوية، وتخفي أسرارها لتعالجها بالأكاذيب، والأقنعة: تُخرج من نفسها وجهاً تبتدعه ليشبهها، وتحدّق طويلاً في المرآة. بينها وبين المرآة نرجسية عميقة، تجعلها تزعم أن وجوهها فرضيات، وأقنعتها احتمالات، تطوى كالمفاصل، وتتهشم كما المرآة.

في العشق يفقد كائنها هويته، وتنطلق بخيلاء من ركامات الجراح لا شيء يجعل هذيانها يأتلف سوى «الأنا»، التي تتركها مكاناً شاغراً لتضمحل في حالٍ من «الوصول، والتوحد والفناء». فالعاشقة تخرج بعالميها الملائكي والبهيمي المتكلم والأخرس، وتضج غابة من المرايا والاحتمالات، التي تخبئ في القلب ذكرياتها، وأزمنتها؛ وتنهمر دموعها كأغصان الصفصاف، وتتوضأ بدمائها في ليالي العري، والبياض، والنسيان.
الرقيب
 تسجل لك الجرأة الإبداعية، مقابل الجرأة الاستهلاكية لبعض الكاتبات. هل ترسمين الحدود أثناء كتابتك ، بين «التابو» غير المسموح ، أعني هل تقيمين حساباً للرقيب في الدين، والجنس، وكل مقارباتك؟

 ظني أن الجرأة ملازمة لحرية الابتداع، وان القول الخارج على الممنوع والقدسي والمحرم، لا بد أن يفضح تاريخه، ويعيد تأويل المسكوت عنه، الذي دثرته طبقات من الوصايا، وأخرى من مؤامرات الصمت، التي لم تنهض إلا لشل نصف الأمة المشلول بجهله، وأميته، وغيابه.
فكتاب «نون في المحراب» يتكئ إلى كذب ادعاه الكتاب والمؤرخون منذ عصور سحيقة في القدم، حين قالوا بيقين لا يقبل الجدل: «البغاء أقدم مهنة في التاريخ» ونسوا أن ما ينسب لحواء هو المعصية الساعية إلى الكشف والمعرفة. فحواء إذ عصت، ربما كانت تتشوف إلى الألوهة، وكسر الغربة التي حالت بينها وبين جسد تحمله وتجهله. فحواء التي جاءت من ضلع الحياة ليست صنواً لآدم الذي جاء من صلصال، لذا وجب عليها أن تغامر بكشف السر، وأن ترى إلى ينابيع الحياة التي تفيض بها، وتنهض بمداراتها.

لذا فإن «نون المحراب» استلهمت حكايات «البغاء المقدس» التي رواها هيرودوت أبو التاريخ، عن العذارى اللواتي كان يؤتى بهن إلى كهان المحاريب، لعلهن يصبن عندهم شبقاً، فيخلعن عبء البكارة، ويلبسن لبوس الكهانة وما فيها من قدسية، وطهارة. فالتي تخلع عبئاً وتلبس آخر، تأتي المحراب بكثير ثروات، وتعلي منه القباب، وتحظى بمراقم كاهنه، وتضوع بخوره، وعبق زيوته. كاهنة المحراب هي استعارة لدواة قديمة، يلجها صاحب الجلباب، لأنها وحدها تفيض بمداده، وبالمداد. هذه العصور الوثنية القديمة، أرخ لها أصحاب البغي، ونسوا صاحب الجلباب، ثم قالوا: من ضاجع الكاهنة العذراء، لن يلقى خسارة. ثم قالوا وللبغي الرجمُ والحَجَر، وأضافوا في لسان العرب: ويهب البغايا لأن الحرة لا توهب، ثم كثر في كلامهم حتى عمموا به الفواجر، إماءً كنَّ أو حرائر. وقال اللحياني: لا يقال رجل بغي، بل ابن بغية.

هذا التاريخ المتراكم في عيوب المرأة ونقائصها، هو تاريخ يسرد بانحياز ما لم يقترفه الآخر الفحل، الذي راح يجترح لها معجزات: الحجاب والعورة، والقناع والستر، واتقاء الفتنة، والختان، وما يلحق به من عذاب. فهي ليس لها من مآسيها، إلا مأساة الجسد، الذي تحمله وديعة لا تمتلكها.
فاللواتي يكتبن ويبتدعن أجسادا سديمية لا هوية لها، ولا قضية، سؤال عن الإرث، وآخر عن الولي، وآخر عن الحرية، وآخر عن الأمية، وآخر عن الختان، وأخير عن الضحية. أنى لمن تكتب ألا تكون لها قضية، غير القضايا الاستهلاكية التي تدوم ما دامت لذتها الاستهلاكية. فالكتابات التي تستهلك في ساعات، هي كتابات ليس لها خلفية ثقافية، إلا ما كان من خلفية أسواق النخاسة، والعبودية. المرأة العربية تكتب ترف جسد لم يتحرر.

ولما قرر المستهلكون ما هو المباشر والأسهل، قرأت لإحداهن: أن المرأة ليست أكثر من تفصيل في حياة الرجل، فتهيبت القول وعدت إلى جلجامش وشمخة لأقرأ: كيف سيطرت شمخة على إنكيدو وروضته، وجعلت من جسدها مرآة، وبرزخاً يعبر به من التوحش إلى المدنية، مما جعله يقسم لها ألا يعود إليها إلا بزهرة الخلود. وعدت إلى ليالي شهرزاد التي حولت ملكها عن غريزة القتل والدماء، لينشغل بهارون الرشيد وما كان يقلقه من أسرار تودد الجارية، التي امتحنها بأسئلة كثيرة.

هذه الحكايات والوجوه تطل علينا بعلومها البعيدة، التي أنسنت الرجل، وحولته عن عنف القتل إلى طمأنينة المعرفة وهدأة الروح، وذلك عبر لذتي القص ومثلها لذة الاستماع ونشواته بحيث قال شهريار: «يا شهرزاد لقد زهدتني بملكي، ونبهتني إلى ما كنت غافلاً عنه، وزدتني بحكاياتك مواعظ واعتباراً».
أما السؤال في رواية الحداثة: فهو حول زمن تستغرقه كتابتها؟ وهل يمتد سحابة الف ليلة وليلة؟ هل على المبدع أن تكون له قضية، خارج جسده؟ وإلى أي مدى تسهل الكتابة الاستهلاكية التي سرعان ما تنتهي مدة صلاحيتها؟ أي أثر تتركه مثل هذه الكتابات في روح متلقيها. وأي الندوب تترك في ذاكرته؟
فالمرأة المحبرة، والمرأة الجرح هي التي تبتدع مراقمها، ورموزها واستعاراتها، وتتذكر قول أرسطو «الاستعارة فن العبقرية الذي لا يُعلم».

عناية جابر - عن السفير اللبنانية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى