الأربعاء ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
الأديب السعودي أحمد السباعي
بقلم إبراهيم عوض

الطفولة الخالدة وحديث الذكريات

أحمد السباعي أديب سعودي وُلِد عام 1323هـ، وتعلم أوّلاً فى الكتاتيب حيث حفظ القرآن، ثم دخل أول مدرسة نظامية أسسها الشريف حسين فى مكة، وانتقل بعدها إلى المدرسة الراقية. كما التحق بمدرسة الأقباط العليا بالإسكندرية لمدة عامين، ثم توقف تعليمه الرسمى عند هذا الحد. وقد عمل، رحمه الله، بالتدريس، ثم موظفا بالمالية. كما اشتغل بتطويف الحجاج فترة، وكذلك بالصحافة حيث لُقِّب بــ"شيخ الصحافة السعودية". وتُوُفِّىَ عام 1404هـ- 1984م(1).

وللسباعى فى مجال التأليف عدد من الكتب: منها ما هو قِصَص قصيرة، ومنها ما هو ترجمة ذاتية، ومنها ما هو تاريخى، ومنه ما هو فى التربية والتوجيه الاجتماعى وتحليل الجرائم ودوافعها، ومنها ما هو فى مناسك الحج والأماكن المقدسة. وكذلك له كتاب فى "الأمثال الشعبية فى مدن الحجاز". وأهم ما يمتاز به السباعى مقدرته الكبيرة والرائعة على تصوير ذكريات الماضى وبعثها حية نابضة أمام عين القارئ مثيرة للشجن والحنين ومقدمة زادا عظيما من المتعة الفنية. وهو، فى هذا، يذكّرنى بعبقرى الأدب العربى المرحوم إبراهيم عبد القادر المازمى، الذى صور بقلمه ذكريات طفولته وأوضاع الأحياء الشعبية القاهرية فى زمانه وتقاليد المجتمع والروابط الأسرية وعمارة الشوارع والبيوت...إلخ، فإذا بهذا كله يهبّ منتفضا من أغوار الماضى الميت وقد اتشح بالحياة، وبالذات فى "قصة حياة" و"أحاديث المازنى" و"ع الماشى" و"صندوق الدنيا".

وأهم ما يتبدى فيه إنتاج المرحوم أحمد السباعى هو كتابه: "أيامى"، وتأتى بعده مجموعة "خالتى كدرجان". وهو يقدم لنا فى هذين الكتابين صورا آسرة لعدد من الجوانب الاجتماعية التى كانت موجودة فى طفولته وصباه. إنه يصور الكتّاب ونظامه وطريقة التعليم فيه وعَرِيفه وفقيهه وحفلاته. وهو يصور الألعاب التى كان يمارسها هو ولِدَاته، وأنواع الحلوى التى كانوا يأكلونها، والخرافات التى كانت معششة فى أذهان الناس عن العفاريت، والعصبية التى كانت بين الأحياء وكانت تدفع صبيان الحى وشبانه إلى الاعتداء على نظرائهم من الأحياء الأخرى إذا ما تجرأوا وتخَطَّوْا حدود حيهم حتى لو كان ذلك فى زفة عُرْس، إذ تنطلق ساعتئذٍ القذائف الحجرية وتنهال العصى الغليظة. كما يسوق لنا أسماء الكتب التى كانت رائجة فى تلك الأيام.

وهو، حين يفعل ذلك، يجعلك تسمع وترى، بل وتشارك فى الواقعة. لنطالع معا ذلك المشهد من مشاهد الكتّاب: "كان شيخنا مصابا بما يشبه الصداع فى رأسه، وأعتقد أن صداعه من نوع لا يخفف وطأته إلا مزاولة العُطَاس. لهذا كان يُعِدّ فى جيبه أعوادا من الكبريت وشيئا من القطن النظيف، فإذا بدأ جلسة الصباح بيننا نسى وظيفة الحصة الأولى وشرع يلف القطن على أعواد الكبريت الذى أحضره لفًّا رقيقًا تبدو نهايته رفيعة دقيقة ثم دسّه فى أنفه وبالغ فى إيصاله إلى آخر ما استطاع أن يبلغ من خيشومه حتى يواتيه العطس... وكان يحلو لبعض المتشيطنين أن يداعبه أو يداعب الطلبة فيعمد إلى اصطياد بعض الذباب بيده، ثم يجعل فى مؤخرة كل ذبابة "قَشَّة" رفيعة طويلة، ثم يطلق الذباب فى الغرفة ليثير الضحك بما صنع لها من أذناب طويلة. فإذا طرق سمعَه الضحكُ وتلفت إلى مصدره هدأ المصدر، وانطلقت ضحكة غيرها فى جهة أخرى. فإذا التفت إلى الثانية هدأ صاحبها، وانطلق ثالث فى زاوية غيرها يضحك. فإذا شعر الشيخ أن المزاح قد ثقل وأن ترتيبه متفق عليه أطرق إلى الأرض وراح يبحث عن قطن جديد يعالج به أنفه. فإذا أبت ذبابة إلا أن تحط على أنفه وترسل ذَنَبها من القَشّ إلى ما بين عينيه رفع يده ثم وضعها على "القشة" الذَّنَب، ثم عاد فأطلقها وهو يكتم ضحكة خافتة يخشى أن يسمعها الصبيان. وتنتهى عملية القطن والأعواد والعطاس بانتهاء الحصة الأولى"(2).

وعن عقائد الجيل الذى كانت منه جدته نقرأ: "كانت، رحمها الله، تَنْهَى عن كنس البيت على أثر خروج المسافر منه لأن ذلك يمنع عودته، وتوصى بصبّ الماء خلفه فى اللحظة التى يخرج فيها من الباب لأن الماء أمان. وكانت تَنْهَى عن غسل الثياب يوم الاثنين لأن صحابيا فقد ولديه على أثر الغسل يوم الاثنين، كما تنهى عن خياطة الثوب فوق لابسه، أو كنس البيت أثناء الليل، أو شراء الفحم فى شهر المحرم لأن ذلك كله "بَطّال"، و"بس بطال". فإذا قلت: يا ستى، لم هو "بطال"؟ صاحت فى وجهى: قم يا ولد. أنت متفلفس... وكانت ستى تعرف عن "الدجيرة" و"هول الليل" و"السبع الجنيات" ما لا يعرفه قصاصٌ نابغةٌ، فكنا نقضى حولها الليل وعجائبه فى صُوَرٍ تركت فى تربيتنا أسوأ الآثار، وملأت أعماقنا بالعُقَد".

وعلى ذكر الجن والعفاريت ثمة قصة قصيرة للسباعى قائمة كلها على الحوار بالعامية السعودية بين رجل انزلقت رجله فسقط على حجر وبين امرأة من أهل بيته تعتقد وتريد له أيضا أن يعتقد أن هذا الحجر إنما هو فى الحقيقة جنى، وأن السقطة فوقه قد آلمته. وعنوان القصة هو: "أخطأ العفريت ولم أخطئ"، وتقع فى خمس صفحات كلها حوار بين البطل وبين تلك المرأة التى "تستقعد" أن الحجارة التى فى الطرقات هى جن وعفاريت متخفية فى صورة حجارة. وإنى لأعجب من قدرة السباعى على إدارة أربع صفحات وزيادة من هذه الخمس على حوار بين ذَيْنِكَ الشخصين لا يخرج موضوعه عن اختلاف رأييهما حول حقيقة الحجر الذى سقط عليه، ومع ذلك لا يشعر القارئ بأى ملل أو ضيق، بل بالعكس لقد حبّبتنى فنية الحوار وخفة الظل السباعية فى العامية التى كُتِب بها هذا الحوار رغم أنها مختلفة عن العامية المصرية فى كثير من الألفاظ والتعبيرات والتراكيب، ورغم تفضيلى أن يُكْتَب الحوار القصصى بالفصحى على كتابته بلغة الحياة اليومية. وتنتهى القصة بأن تتهم المرأة بطل القصة بالجنون فيشد شعره ويُهِيب بالعقلاء أن يبينوا له من منهما العاقل، ومن منهما المجنون، ويصيح بملء فيه: سأُضْرِب ابتداءً من يومى عن المشى حتى لا تصطدم رجلى بعد الآن بأحد عُمّار الأرض، وسأقنع بالبقاء فى بيتى لا أَرِيم خطوة. فهل يوافقنى مجنون يناصر مذهبى ويدعو معى إلى هذا الاعتكاف؟"(4).

ويصور السباعى أيضا السقَّاء فى مكة وصعوده إلى البيوت التى فوق الجبل بقربته المثقوبة التى ما إن يصل بها إلى البيت المراد سقايته حتى يكون معظم الماء فيها قد سال على الارض، وكذلك معابثة الأطفال له وتدبيرهم المقالب ضده، والنظم والأوضاع التى تحكم مهنة السقاية، والمحاكمة التى تُعْقَد للسقّاء الذى يخرج على هذه النظم فيشكو منه أهل البيت، والعقوبة التى توقَّع عليه، وكيفية تنفيذ شيخ السقائين لها بمحضر من سائر السقائين... إلى غير ذلك مما دهمته عجلة التطور فى المملكة وطَمَرَتْه فى بطون التاريخ، ولم يعد من سبيل إليه إلا مثل تلك القصة التى كُتِبَتْ لا بقلمٍ ذى سِنٍّ، بل ذى عدسة سحرية يصوبها السباعى إلى الماضى الذى ضاع فتستعيده من أغوار الزمن(5).

ومن الصور العجيبة التى اقتنصتها عدسة قلم السباعى السحرية صورة شوّاء اللحم، وكانوا يسمونه: "السلتانى": "وكان السلتانى فى بلادنا يقطّع اللحم بصورة فنية بعد تجريده من العظم إلى شرائح خفيفة، ثم ينصب فى دكانه منصة عالية تتوسط الدكان يعتلى فوقها على كرسيه، ويجعل أمامه كانون الشواء، وهو كانون واسع يعلوه حجر رقيق الصفحة يبسط عليه شرائح اللحم، ويتحلق الزبائن حوله تحت المنصة: "هات من فضلك نصف رطل، وقَمّر معاه العيش". وهو لا يعطيك نصيبك من الشواء إلا مُنَجَّمًا. ملقاطه يتخلل شرائح اللحم ليلتقط الناضج فى طبقك، وهو لا يزيد بحال عن قطع معدودة: خمس أو ست، تتلمظ بها لبينما ينضج الباقى فيوافيك ساخنا طبقا بعد طبق...

وكان من أشهر دكاكين السلات فى مكة دكان عم خليل السلتانى بالقرب من باب العمرة. وهو رجل طويل عريض ما بين المنكبين. تزدحم بطنه البارزة ما بين الكانون والكرسى فوق المنصة، فينثنى ضاغطا عليها ليلتقط الناضج من الشرائح فى أقصى طرف من حجر الشِّوَاء. وكان زبائنه يستمرئون الطعام عنده لِفَنِّه وفرط عنايته بتشريح اللحم وشَيّه. وهو، إلى هذا، خفيف الظل، حاضر النكتة، يرسلها بداهةً فيضجّ المكان بضحك المزدحمين من زبائنه، وتصافح أذنه أختها من أحد الطاعمين، فيرسلها قهقهة عالية تهتز لها مراقيه، وتسمع قرقرتها فى بطنه كأنها قَرْع الإناء من النحاس"(6).
إن الإنسان ليشمّ رائحة الشواء وهو يطالع هذه اللوحة، ويسمع نشيشه، وقرقرة بطن السلتانى التى تشبه قرع الإناء النحاسى، وقهقهات الطاعمين، ويشعر بلفح حرارة النار كأنه واقف فعلا أمام منصة الشواء، ويكاد ريقه أن يسيل فوق شفتيه وتخرج عيناه من محجريهما وهو يتابع يد الشوّاء تلتقط اللحم الناضج بملقاطه الطويل ويضعه فى الطبق أمام هذا "الزبون" أو ذاك. بل إنه ليهمّ أن يدفع مَنْ حوله من المتكأكئين على المنصة كى يفوز قبلهم من عم خليل بــ"نصف ريال سلات، ومعه رغيف عيش مقمّر"! وواضح أن السباعى فى هذه الصور لا ينسى اللون ولا الرائحة ولا الحركة ولا الصوت، صابًّا كل ذلك فى أسلوب مفعم بالحيوية، ومُسْبِلاً عليه من عطفه وحنانه وولهه بالماضى وذكرياته الغالية ما يجعل الصورة التى يرسمها تكتسح قلب القارئ اكتساحا، وتحتله فلا تغادره أبدا.

ومما يتميز به السباعى كذلك فى حديثه عن نفسه وأهله وظروفه الاجتماعية والطريقة التى تمت بها تربيته: الصراحة الكبيرة. ومن هذه الناحية فإن ترجمته لنفسه فى كتاب "أيامى" تذكّرنا بعدد من التراجم الذاتية التى نحا فيها أصحابها هذا النحو فلم يحاولوا أن يرسموا لأنفسهم ولا لأهليهم صورا برّاقة معجِبة، بل صوروا كل ذلك كما كان، ولم يخفوا الدوافع التى كانت تحركهم حتى لو كانت قبيحة. ومن هؤلاء على سبيل المثال القصاص البريطانى أنطونى ترولوب فى ترجمته لنفسه المسماة:، والتى استفاض فيها حديثه عن الفترة التى كان يشتغل أثناءها موظفا صغيرا فى إدارة البريد وكيف انعكس ذلك على شخصيته حين اشتهر وسال المال فى يديه، فصار حريصا شديد الحرص على التشبه بالأرستقراطيين فى تعليم أولاده فى مدارسهم والالتحاق بنواديهم وتعلم صيد الثعالب فى الغابات مثلهم، لا لشىء إلا لكى يشعر أنه واحد منهم. ومن هؤلاء أيضا د. أحمد أمين فى كتابه: "حياتى"، الذى سجل فيه ما كان يحدث بينه وبين زوجته أحيانا من خلافات، وتحدث عن قلة ثقته بنفسه، وكذلك د. طه حسين فى "الأيام"، وتصويره آفة العمى لديه وما كانت تسببه له فى طفولته وصباه من مخاوف عاتية وضروب من الإحراج والشعور بالهوان والدونية، ود. سيد أبو النجا، الذى قال فى مقدمة الطبعة الثانية من ترجمته الذاتية: "ذكريات عارية" إن هذا الكتاب قد أثار استياء بعض أقاربه لما فيه من صراحة شديدة فى الحديث عن نفسه وأسرته.
إن السباعى، حتى بعدما أصبح كاتبا وصحفيا مشهورا ومتحدثا إذاعيا ملء العيون والآذان، لا يجد أدنى غضاضة فى أن يتحدث عما كان الملل يدفعه إلى عمله فى المرحاض فى بيت سيدنا حين كان يستأذن للذهاب إليه: "كنت أَلِجُ الباب إذا خلا، وليس بى حاجة إلى شىء إلا السأم الذى أتمنى أن أبدده، ولا سبيل إلى تبديده إلا هذه الشيطنة التى أفتعل فيها الحـَصَر، حتى إذا صَفَقْتُ الباب خلفى وقفتُ فى حيرة لا أدرى ما أصنع. كنت أقف وأعضائى تلح فى طلب الحركة، وليس أمامى للحركة إلا مدًى أضيقُ من مدى الثعلب المحبوس فى قفص السيرك، فلا يلبث أن يعاودنى السأم الذى فررت منه. وتفتقت الشيطنة فى بعض المرات عن ألوان من اللعب لها غرابتها. وإنى لأذكر إلى اليوم كيف كنت أصعد فوق خزانة الماء فى بيت الراحة، وأتربع فوق غطائها الخشبى، ثم أعمد إلى المغراف فأغمره فى الماء حتى يبتل، ثم أوزعه فى أركان بيت الراحة ركنًا بعد آخر كما يفعل بائع الشربة الذى كنت أراه فى طفولتى يغمر ملعقته الكبيرة فى قِدْر الشربة ثم يوزعها على أوانى الزبائن فى دكانه. كانت طفولتى المتشيطنة تمثل لى أنى هنا بائع الشربة، وأخاطب نفسى لأردّ عليها بلا فرق بين بائع الشربة وبينى: "هات الفلوس يا ولد. شِيلْ قدرك يا ولد. خلاص، أعطيتك الوصاية"، فى كلمات صادرة منى إلىّ لو تهيأ لسيدنا أن يسمعها أو يفتح الباب ليرانى متلبسا بها لحكم بجنونى وطردنى من كتّابه. إنها خيالات صبيانية لا يكاد يسلم من أمثالها غيرى، ولكن الناس يأْبَوْن فى الغالب الأعم أن يسجلوا على أنفسهم ما مرّ بهم من تُرَّهات الطفولة كما أسجلها على نفسى"(7).

صدق السباعى! لا أحد يرضى أن يسجل على نفسه مثل هذه "الترهات" التى ليست فى الحقيقة ترهات، ولكنها (كما يقول هو عقيب ذلك) تنفيس عن الكبت الخانق الذى كانت التربية فى مجتمعاتنا فى ذلك الحين تأخذ به الصغار حيث لا إجازة إلا فى النادر العسير، وحيث الفراغ واللعب يُنْظَر إليهما على أنهما إفساد للطفل وشر كبير. فعلا لا أحد يرضى أن يسجل على نفسه مثل هذه الأشياء، وبخاصة إذا كان ميدانها المرحاض، اللهم إلا السباعى وأمثاله ممن آتاهم الله أفقا واسعا ولسانا صريحا وطفولة خالدة ورغبة فى تجنيب الأجيال الجديدة وَضَرَ هذه التربية الخانقة التى تترك فى النفس جراحات وتشوهات يصعب التخلص منها فى كثير من الأحيان.

وحين يتحدث السباعى عن نفسه فإنه يعرض علينا صورة مغبرّة مبقَّعة بلا أية محاولة لنفض شىء من الغبار الذى عليها أو تنظيف البقع التى تكدرها. انظر مثلا كيف يصف نفسه فى طفولته بالبلادة وعصيان الفهم: "ولا أريد أن أنكر بلادة فهمى وعصيانه على استظهار دروسى الأولى، فقد كان ذلك عاملا قويا فى ثباتى عند درسى الأول وضعفى عن تخطيه. إذا أضيف إلى هذا استغلالى فيما يقتل وقتى من خدمات الفقيه تبين مدى طول المدة التى قضيتها فى معرفة "الألف لا شيون عليها"(8)، "ولم يرهق بلادتى شىء ما أرهقها هذا الدرس، فقد كان يتعذر علىّ إخراج الحروف من مخارجها"(9)، "ولم يكن حظى فى الكتّاب الجديد أحسن مما سلفه من كتاتيب، إلا أن طول الاستمرار كان له أثره الضئيل، فقد كنت قضيت من عمرى إلى أن التحقت بكتّاب القبّان نحو ست سنوات استطعت فى نهايتها أن أختم جزء "عَمَّ" وأن أقرأ فى ركاكة واضحة بعض الخطابات التى تصل إلى أبى، ويأبى إلا أن يمتحننى بقراءة ما فيها"(10)، "كان أستاذ الدرس لا يكاد يوجه سؤالا عن أى معنى شرحه فى درس سابق حتى أبادر قبل غيرى بالإجابة اعتمادا على ما كتبتُ، إجابة لا تخرج عن النص الذى تلقيته منه بحروفه وألفاظه، فربما سره هذا وهو لا يدرى أنها إجابة آلية كنت لا أفهم مما تعنيه حرفا واحدا"(11).

ويتحدث السباعى عن ضعفه فى النحو على وجه خاص: "ولبلادتى فى الفهم تقدمت السن بى دون أن أحصل على حصيلة تستحق الذكر فى علم النحو. ولولا أنى شعرت بعد سنوات أننى فقير فيما يقوّم لسانى فاضْطُرِرْتُ لقراءة كثير من الشروح لظللت إلى اليوم لا أعرف الغرض من علم النحو". وهو يصف نفسه بالصفاقة، إذ يقول معقبا: "ومما يُضْحِك أننى على أثر هذا لجأت إلى شيخ من شيوخ النحو كانت تربطنى به صداقة متينة، ورجوته أن يتفضل بإعطائى درسا فى النحو فلم يبخل بذلك. ولكن صفاقتى أبت علىّ أن أستمر، فقد تراءى لى بعد الحصة الأولى والثانية أنه يُسْهِب فى تفريع الفروع وتنويعها، فقام فى ذهنى بعد أن راجعتُ حواشى الكتاب واستوعبت ما يعنيه أن فى الإمكان تبويب الموضوع بشكل أقصر، فجئته فى حماس فاتح القسطنطينية أعرض عليه الفكرة فى غرور الشاب المراهق الذى يشعر أنه لا يُدَانَى فى الفهم، فما ملك أن رمى الكتاب فى وجهى: "قوم من فضلك شوف لك واحد غيرى اتفلسف عليه. انت راجل مَنْتَ حَقّ تعليم انت!"، فقمت"(12). هكذا بمنتهى البساطة قام السباعى، وهكذا بمنتهى البساطة أيضا حكى القصة وأنحى على نفسه باللائمة واتهمها بالصفاقة. ولا تشعر أن فى نفسه شيئا من الكراهية أو حتى الضيق بهذا الشيخ الذى رمى بالكتاب فى وجهه وأحرجه وأخزاه وطرده شر طردة لا لشىء إلا لأنه بدا له أن يريه أنه ليس غبيا، بل يستطيع أن يفهم النحو ويبوّب مسائله على نحوٍ مختصَر.
كما يصف نفسه فى صباه بــ"الشقاوة والوقاحة": "وكنت شخصيا من أكثر العيال شقاوة وأميزهم وقاحة، وكانت لى عصاة مدهونة بذوب الشحم مُعَدَّة للأيام السود، وكنت كثير العبث بها لا أترك دكانة إلا أخبطها، أو كلبا إلا أضربه، أو حمارا إلا ألهبه، أوجملا إلا أوكزه. فكنت لذلك أشتبك مع الجمّال أو الحمّار أو صاحب الدكان فى علقة حامية، وكنت أظفر فيه إلا فى القليل النادر"(13). ثم إنه لا يتحرج أن يَسِم نفسه بعد أن كبر واشتهر "بكثرة الكلام وشدة اللغط وقوة المراس فى الجدل واللجاجة والنفور من القيود العامة"(14). كما لا يتحرج أن يَعْزُوَ ذلك إلى "الشعور بالنقص" من جرّاء التربية الصارمة التى كان أبوه يأخذه بها فى كل شىء: فى الجلوس المحتشم، والصمت التام بحضرته، وطريقة لبس المداس وارتداء الكوفية ولف العمامة، والإكباب المتواصل على الدرس الذى يؤكد السباعى دائما أنه لم يثمر فى حالته شيئا ذا بال. وكان يرى أن أباه معذور فيما يصنع معه، "فقد نشأ أُمِّيًّا، وتركت الأُمِّيَّة فى نفسه شعورا عميقا بالنقص أراد أن يعوّضه فى خلفه بأفظع ما تراءى له من ألوان التعويض. كان يرى أن نجاحى وَقْفٌ على المثابرة المستمرة التى لا تعرف الهوادة ولا اللعب ولا جرى الأزقة: اتوضا با واد وصَلّ العصر، واقعد اقرا حتى تصلى المغرب. وبعد المغرب إيش عندك؟ برضه اقرا حتى تصلى العشاء وتأكل لقمتين وترقد، تصبح حافظ! وما علم، رحمه الله، أن برنامجه فى المثابرة هو علة بلادتى وجمود ذهنى، وأن الساعات التى أقضيها فى الكتّاب مُكِبًّا على جزء "عَمَّ" كانت أكثر من الكفاية للمثابرة، وأنه لا بد بعدها من انطلاقى إلى البرحة والأزقة لأشبع رغبتى فى اللعب وأبدد ما اعترانى من سأم الكتّاب وأنشّط ذهنى لاستئناف الدراسة فى أوقاتها المقررة فى اليوم التالى... ولم تتسع معارف أبى لدراسة العلة التى تفاقم داؤها ليعطيها نصيبها من التنفس، ولم يدرك أحد من معارفنا أو جيراننا مبعث الخطر ليشير بما يقتضيه الحال، بل اتفق إجماعهم على نقص تربيتى. وكان أحدهم يُهِيب به: يا شيخ محمد، رَبِّ ولدك وأحسن أدبه! ما يموت حتى يفرغ أجله!

نشط للتربية وشرع يعد لها من الحبال المفتولة والخشب الجامد والخيزران اللَّدْن ما يكفى لأداء المهمة الشريفة، فكانت لا تضيع هَلَلَةٌ أو ينقلب لوح العيش من على رأسى أو ينكسر سن قلمى البوص أو يقول الجيران إنهم شهدونى أترك مداسى فوق عتبة الجيران وألعب الكبوش أو أضارب صبى الفوّال حتى يحيل والدى الأمر إلى الحبل المفتول والخشبة الجامدة دون أن يسمح لى بكلمة واحدة أدافع بها عن نفسى مهما كانت ظُلاَمتى، ثم لا يتركنى إلا جسدا ممزقا وأضلاعا دامية. وتركت هذه القسوة أثرها فى نفسى: هيأتنى للعناد والمكابرة، وعلّمتنى قلة المبالاة، وشجعتنى على كثير من الصعاب التى يخشاها غيرى، وأثبتت لى أن "العلقة" الكائنة لا بد أنها كائنة، سواء كنت فيها ظالما أو مظلوما. فما يمنعنى أن أظلم وأن أثأر لنفسى؟"(15). ولعنف هذه الطريقة الخانقة الباطشة وأثرها المؤذى على شخصيته وحياته نراه لا يكف عن الحديث فى موضوع تربية الأطفال وأثرها فى تشكيل خلائقهم بعد أن يكبروا.

وقد بين لنا السباعى أنه قد عالج فى شخصيته عددا من العُقَد التى خلفتها تربيته الأولى، إذ يقول مثلا تعقيبا على ما كان يتميز به فى صباه من عناد ومكابرة وقلة مبالاة وحب للظلم والانتقام: "لا أنكر أن أغلب هذه الصفات لازمتنى إلى جزء طويل من حياتى، وأنه لو لم يصادفنى دراسات طويلة قرأتها فأدركتُ منها مواطن الضعف من تربيتى وثابرتُ على علاجها ما استطعتُ لكنتُ اليوم من أشقى من عُرِف من الأشقياء"(16). لكنْ من الواضح أن هناك جوانب نقص أخرى لم يستطع أن ينجح فى علاجها. ولا ينبغى أن يفهم فاهم من كلامى أن غير السباعى كان بإمكانه التخلص من كل عيوبه، فهذا أمر مستحيل. لقد كُتِب الخطأ على جميع البشر، والكمال لله سبحانه وحده. ومن ذلك ما يصارحنا به من أنه لا يزاحم فى مناكب الحياة إلا بالقدر الذى لا يثير فى نفسه هَمًّا ولا يكبّده تنغيصًا. فإذا أبت مسيرة الحياة إلا أن تجابهه بما يكدر صفوه فإنه لا يلبث أن يدير لها ظهره ويزوغ هاربا. وفى ضوء هذه السِّمَة فى شخصيته يفسر لنا السبب فى أنه لا توجد له مشاركة فى حقل النقد الأدبى، على عكس النقد الاجتماعى، الذى يستطيع أن يتناول فيه تقاليد عامة لا شخصا بذاته يمكن أن ينجرّ معه فى عراك لا تُحْمَد عقباه(17).

على أنه لا يكتفى بالصراحة فى الحديث عن معايبه، بل يتهكم على نفسه أحيانا ويجعلها هدفا للضحك. وهو، حين يصنع هذا، لا يصنعه عن إحساس بالقِلَّة، بل يتخذه، فيما يبدو لى، أسلوبا فنيا كى يأتى ما يقوله فى نقد العادات والتقاليد الراسخة خفيفا على القلوب. قال فى أحد أحاديثه المرنائية: "أخى المشاهد، أختى المشاهدة، استاء منى بعضهم وجاء من يصارحنى: "انت يا راجل بس تهبش كلام؟ يعنى انت مو عاجبك تربية الناس؟ خلى الناس فى حالها! يعنى انت ما تشوف نفسك؟". الحقيقة أنا أشوف نفسى وأعرف من حقائقها ما لا تعرفون، ولهذا لا أجدنى راضيا عنها كل الرضا ولا بعض الرضا. وإذا لذ لكم أن تسمعوا منى ما أتهم به نفسى فإليكم الجوانب الآتية: أنا قبل كل شىء إنسان مدلع. وأنا عندما أقول: "مدلع" أعنى هذا بكل معانيه. صحيح أنا راجل شحط أمامكم، عريض الأكتاف، ضخم الكراديس. تشوف القبة وتحسبها مزار، ولكن جُوَّتْها حجار. أنا إلى اليوم أخاف من الشمس أمشى فيها. أخاف من البرد لا يصفقنى. لا أعرف كيف أواجه مدلهمات الأمور وعظائمها. كثيرا ما فَوَّتّ على نفسى مئات الفرص بسبب عزيمتى الخائرة. ولقلة شجاعتى تجدونى أتلمس طريقى فى الحياة من أهون السبل وأكثرها طراوة، وأتجنب الطرق الشاقة مهما ثبت لى نجاحها. لماذا؟ لأنى نشأت على طراز أمى: "ألحس مِسَنِّى، وأبات مِهَنِّى". أنا، أيها السادة والسيدات، امتداد لأمى. كانت، رحمها الله، على غرار جيلها: يا واد غطى راسك من الشمس. يا واد زِرّ ثوبك من البرد. ولدى يا حبيبى يا دلوعة أمك يا حبيبى، لا تفتح الباب لحالك يكون شىء وراء الباب يفجعك. لا تمش فى الظلام ترى حَقُّون بسم الله الرحمن الرحيم يندروا فى الظلام". فإذا نشأتُ دلوعة أخاف الشمس وأخشى البرد فلا عجب فى هذا، فقد تركتْ هذه الرواسب أثرها فى تكوينى. وإذا ساءك من هذا الشحط تردده عند مواجهة الأمور، وإذا رأيت هذا الطرىّ الذى تشاهده أمامك على طوله وعرضه يخيّب ظنك فى أدق المواقف لا تلحاه، فقد هيأته أمه أن يتوقَّى الظلام ويخاف المجهول تحاشيا من أن يندر عليه حَقُّون بسم الله الرحمن الرحيم"(18).

ومن العيوب الاجتماعية التى تعرض لها السباعى بالانتقاد عدم موازنة بعض الزوجات بين الدخل والمنصرف: "مما ألاحظه فى أكثر بيوتنا أن القليل من سيدات البيوت من يهمّهن موضوع المقارنة بين الدخل والمنصرف. هذا موظف محدود الراتب، وذاك رجل يتعاطى البيع والشراء فى السوق ولا يحقق كسبا ذا قيمة، وذاك شخص يمتهن حرفة ضئيلة الدخل، كل هؤلاء لهم بيوت، وفى بيوتهم أطفال صغار وكبار يعولونهم، وعلى رأس كل هؤلاء زوجة تمثل مركز سيدة البيت أو مديرته، أو بالأصح: تمثل مركز وزير المالية فيه. واحنا نعرف وزير المالية دا لازم يكون صاحب بصيرة، يعرف إن القرش دا إيش معناه، ويعرف فين يحطه، وإلا اضطربت عليه وظيفته وعرّض بيته للإفلاس. لا يا أختى، لا تزغرى فيّه بهادا الشكل ولا تتشامقى بيّا. يمكن أنت ست بيت مدبرة صاحبة حواس تعرف اللى لك واللى عليك. فالهَرْجَة إذن ما تخصّك ولا تعنيك. خلينى أَهْرِج مع اللى انت عارفاهم. أَهْرِج مع الست اللى ما يهمها كم مدخول زوجها. ما تعرف غير هات هات حتى تجيب لو الهتهات"(19).

وهو كثير التنديد فى كتاباته وأحاديثه التلفازية بمظاهر الإسراف البغيض فى الحفلات حيث تظل أكوام اللحم والفواكه على حالها تقريبا بعد انتهاء الحفلة كأن لم تمسسها يد، فيذهب هذا كله أو معظمه إلى الزُّبالة بطبيعة الحال. منتهى الكفر بالنعمة! وبالمثل نراه يحمل على المغالاة فى المهور مما ينتج عنه عجز الشباب وإحجامه من ثَمّ عن الزواج. كما يرصد بذات الألم احتقار كثير من الناس للعمل اليدوى وتراميهم على الوظائف الحكومية حتى لو كانت وظيفة "فرّاش"، ومغالاة من يَلِجُ منهم باب الحِرَف اليدوية فى أجورهم مغالاةً لا معنى لها ولا مسوِّغ، وبخاصة أن عملهم يفتقر إلى الدقة والإتقان، علاوة على أنهم لا يتمتعون بالصبر والمداومة، وهما الصفتان اللازمتان لكل عمل منتج.

كذلك فللسباعى آراء فى التربية والأخلاق يحسن الوقوف إزاءها بعض الشىء. لقد كانت الطريقة التى ينبغى اتباعها فى تنشئة الأطفال والتلاميذ أحد هواجس كاتبنا، فهو يعود إليها فى كتاباته مرارا. ولا غرو، فقد ابْتُلِىَ فى طفولته وتلمذته الأولى، كما رأينا، بأسلوب تربوى يعتمد على القسوة وكبت نزعات الطفولة التى غرسها الله سبحانه فى فِطَر الصغار من حبّ الجرى والميل إلى اللعب وائتناس بعضهم ببعض وكراهيتهم لما يؤودهم حمله من واجبات مدرسية تفوق طاقتهم، وما إلى هذا. وهو لا يرضى عن أسلوب التدليل المفرط ولا عن أسلوب القسوة الباطشة، مؤكدا أن خير الأمور الوسط: "لى صديق يقوم على تربية أربعة من أولاده بشكل يثير العجب: يصطفيهم ويتحبب إليهم ويبذل فى سبيلهم أفضل ما يملك فى سخاء كريم، ويحاول كل جهده ألا يزعجهم أو يغضبهم أو يكدر عليهم. أَلِفُوا هذا، فيما بدا لى، من نعومة أظفارهم حتى أصبح فى نظرهم جزءا من حقوقهم، وأصبح لا يدور فى خَلَدهم أن فى الإمكان غير ما كان... مثل هذا الفتى يعيش فاشلا، إلى جانب ما يتعرض له من قسوة الحياة وهو يواجهها بمثل هذا الأسلوب المدلع"(20). وفى ذات الوقت نراه يربط بين أسلوب التشديد على الأطفال وكبت نوازعهم الفطرية إلى اللعب والانطلاق وبين الإجرام: "لو عقل أبى، رحمه الله، عواقب الكبت لتركنى أنفّس عن شعورى فى مجال اللعب بين الصبيان! ولكن الحزم فى معانيه الخاصة عند أبى كان يحرمنى حقوقى فى المرح ويهيئنى بعد الحرمان الطويل للانفجار. فليت الآباء فى كل زمان يقدّرون أمثال هذه العواقب. إذن لاستغنت بلادنا عن عدد كبير من أشقيائنا ومجرمينا"(21).
إلا أن كلامه التالى فى إحدى قصصه القصيرة لا يمكن التسليم به على عواهنه. قال: "أعتقد أن الحياة سيدميها السير طويلا قبل أن تنتهى إلى اليوم الذى تشعر فيه بحاجتها إلى هدم أكثر آرائها فى علاقة المجتمع بالمجرمين. فليس الإجرام، فيما أعتقد، أكثر من مرض له أسبابه السيكلوجية وأعراضه التى تتنوع بتنوع جراثيمه الخاصة. فإذا استطاع العِلْم فى أحد الأيام تشخيص حقائق المرض، واستطاع أن يتتبع أنواعه التى لا يحدها حَصْرٌ، وأن يتعقب الجرثومة المتأصلة فى حقيقة كل نوع على حِدَة، فسوف لا يعجز أن يغير الطريقة التى اعتادتها الحياة إلى اليوم. وعندئذ سيبدو مقدار تعسفنا فى امتهان المجرمين وتسرُّعنا فى الأحكام على أعمالهم قبل التثبت من دوافعهم إلى الإجرام. ورحم الله خليفتنا الفاروق، الذى أبى أن يعاقب السرقة فى سِنِى المجاعة، فقد كان أغزر دراسةً لأركان الجريمة من ملايين الحكام الذين افترضوا خصومتهم للمجرمين دون أن يكلفوا أنفسهم النظر فى دوافعهم الحقيقية". حقا ما كان أعدل عمر وأثقب نظرته! ولكن هذا شىء مختلف عما يدعو إليه المرحوم السباعى. إن السبب الذى حدا بغلامَىْ حاطب بن أبى بلتعة فى عام المجاعة على عهد عمر إلى سرقة ناقة سيدهما وذبحها وأكلها واضح ومباشر، وهو أنهما كانا جائعين، وكان سيدهما يشتد عليهما فى الطعام، فاضْطُرّا إلى ذبح إحدى نُوقِه بدون إذنه. لكن عمر حين عرف السبب أفرج عنهما لأنهما كانا واقِعَيْن تحت ضغط الجوع المؤلم. أما الأسباب النفسية البعيدة الغَوْر والتى ترجع إلى طفولة المجرم فكيف نضبطها ونتحقق من صحتها؟ بل كيف نعرف أنها هى السبب فعلا فى إجرامه؟

بل إنه ليذكر أن العلماء فى الغرب قد توصلوا بعد تجارب طويلة إلى أن للهرمونات تأثيرا ملحوظا على انفعالات الحيوانات، وأن بمستطاعهم عن طريقها إثارة الحيوان وتهدئته، وأن البحوث أوشكت أن تنتهى إلى ابتكار "فاعلات مضادة للعداوة"، وأنه سيصبح فى الإمكان تذويب هذه الفاعلات فى الخزانات العامة لمياه الشرب حتى يشرب منها الناس جميعا ويتخلصوا من نوازع الشر والعدوان ويعيشوا معا فى سلام. وهو، وإن كان يرى أن القضاء التام على هذه النوازع يؤدى إلى القضاء على التنافس، الذى لا تستقيم الحياة بدونه، يحب فى الوقت ذاته أن تستخدم "جرعات من العلاج الجديد" لاستلال سخيمة العداء من نفوس دعاة الحروب لتخفيف ويلاتها وإشاعة بعض الاطمئنان فى الأرض(23). لكنى لا أعتقد أبدا أن الهرمونات أو غيرها ستنجح يوما فى استئصال نوازع الشر والعدوان من نفس الإنسان. إن نجاحها فى تهدئة ثورة الإنسان وغضبه شىء، ونجاحها فى اقتلاع بذور الشر وجذوره من النفس الإنسانية شىء آخر. وكم من مؤذٍ شرير يخطط لأذاه وشره فى هدوء أعصاب قاتل، ويوقعه بالأبرياء فى برود رهيب! ولو افترضنا أن الهرمونات ستستطيع، إذا ما تناولها الإنسان، القضاء على مشاعر الحقد والعدوانية، فما الذى يضمن لنا أن العدوانى سوف يسارع، كلما رأى عقارب الحقد والأذى تدبّ فى قلبه، إلى تناول تلك الهرمونات؟

وبعد، فلا بد من كلمة عن أسلوب المرحوم أحمد السباعى، فإن الكتّاب، كما يتمايزون بموضوعاتهم وأفكارهم ومشاعرهم ومواقفهم، فكذلك يتمايزون بأساليبهم. ثم إن الأسلوب هو الملامح الخارجية لإبداع الأديب، وهذه الملامح هى مجالٌ من مجالات التفنن والتفوق، ومَجْلًى من مجالى التَّمَلِّى والتمتع. والأسلوب هو مطية الفكرة والإحساس والخيال، ولولاه ما كان لشىء من ذلك كله ظهور. ومن جُمّاع هذه الملامح الخارجية ونظيرتها الداخلية تتكون نكهة الكاتب التى تميزه عن غيره من الكتاب، سواء فى ذلك الملامح الشائعة أو النادرة أو الجديدة التى لم يسبق الكاتبَ أحدٌ إليها. ومن ملامح أسلوب كاتبنا تكراره كثيرا لألفاظ وتعبيرات وتراكيب بعينها. من ذلك كلمة "ثَمَّةَ" أو "ثَمَّتَ": "ولم تكن هناك أعمال فى الحراج، بل لم يكن ثمت عيال إلا المطاليق الذين لا يشغلهم إلا أخبار الحارات المجاورة"، "وكان ثمة من أغنيائهم من يزوّد الحجاج فى رحلتهم إلى الشرق بالأموال الطائلة"، "ألا تَرَيْنَ أن ثمت حبا مثلجا هو الحب المتبادل بين اثنين؟"، "لا أحسب أن ثمة حلا إلا عند الوعى العام"، "وقلت إن ثمة محاولات أخرى تستهدف علاج أدواء الشر". والملاحظ أن السباعى يكتب هذه الكلمة، كما لا بد أن القراء قد لاحظوا، بتاء مربوطة مرة، وبتاء مفتوحة مرة. كما أنها فى كل الشواهد التى استطعت رصدها لم تأت إلا خبرا لمبتدإ أو لــ"كان" أو لــ"إنّ" أو إحدى أخواتهما، مع تقديم هذا الخبر على المبتدإ أو الاسم.

ومن تلك الألفاظ التى تتكرر عند السباعى كثيرا الفعل: "بات"، الذى يستعمله بمعنى "صار"، حيث يميل الأسلوب الحديث عادة إلى استخدام "أصبح" بدلا منه، مع العلم بأن السباعى يستخدم هذا الأخير أيضا. والآن إلى الشواهد: "ولكن ما عَتَّمْنا بعد سنوات أن رأينا منبر الحفل وقد بات مثارا للجدل"، "باتت أقرب إلى الضرائب منها إلى معانى الإحسان"، "وباتت أجيالنا الجديدة تفهم روح الفكرة من تخليد الآثار"، "فباتوا لا يملكون الجرأة"، "وبات المهيمنون على أمن الدولة عاجزين عن رد عادياتهم".

ومن ذلك أيضا الفعل: "عَنَّ"، أى "ظَهَرَ". والملاحظ أن السباعى، فى جميع الشواهد التى قابلتنى، لم يستعمله إلا فى ظهور الرأى وخطوره على البال، ولم أره استعمله فى ظهور الأشياء المادية. وهو، فى هذا، يجرى على منوال الكتاب المعاصرين، لكن ما يميزه هو إكثاره من استعمال هذا الفعل. وهذه هى الشواهد: "فعنّ لى أن أسرع إلى البيت"، "وربما عنّ له فى بعض الحالات أن يقابل هديتها بشىء من البليلة"، "كلما عنّ لأصابعهم أن تعبث بجهاز صداحة الغجر"، "فعنّ له فى أحد الأيام أن يستغنى عن العَلَم الإنجليزى بعَلَمٍ عثمانى"، "وعنّ له فى شيخوخته أن يساعد تلامذته فى اللغات الساميّة"، "وما عنّ له أن يحاول كتابة بحث"... وهلم جرا.

ومثل "عَنَّ"، فى كثرة استعمال السسباعى لها ومجيئها فى جميع الشواهد التى عثرت عليها فى سياق "خطور الرأى أو الفكرة"، الفعل: "تراءى": "تركت الأمية فى نفسه شعورا عميقا بالنقص أراد أن يعوضه فى خلفه بأفظع ما تراءى له من ألوان التعويض"، "تراءى لى فى هذه اللحظة أن أتخابث"، "إذا تراءى لكِ فى بعضها شىء سخيف حذارِ أن تصيحى فى وجهى"، "لقد تراءى له فى سن المراهقة الفكرية أنه يحسن الدراسة ويحسن مناقشة بعض الأفكار"، "ثم يعلق على هذا بما تراءى له من أسباب".

ومن الكلمات التى تكررت لديه أيضا، وإن كان تكرارها فى حدود انتباهى أقل من الكلمات السابقة، الفعل: "أَنَاطَ": "وكان لبيت الراحة فى الكتّاب نظام نافذ المفعول، فقد أناط سيدنا ببابه لوحًا من الورق المقوَّى دلاَّه فى حبل"، "وأناطوا بعِنَانه الجدائل الحريرية"، "شرع المختصون يُنِيطُون بالكعبة كُسْوتها الجديدة"، "وليس للست التى أناطته بجيدها إلا نصيب عارضة الأزياء"، "ومثل هذه الآمال تُنَاط أكثر ما تناط بطالب الجامعة الموهوب"، "بمثل هؤلاء تناط حياة الأمم الغافية". ولعل القارئ قد لاحظ أن السباعى يستخدم فى كل الشواهد الماضية الفعل المزيد بهمزة فى حالة المبنىّ للمجهول، أى "أناط"، لا الفعل المجرد: "ناط"، رغم أننا لا نستطيع الجزم فى صيغة المبنىّ للمجهول: أهى من "ناط" أو "أناط"، وإن كان المتبادر للذهن هو الفعل المزيد، إذ لا يعقل أن يلجأ كاتبنا دائما إليه فى صيغة المبنىّ للمعلوم ثم يتركه إلى المجرد فى المبنىّ للمجهول.

ومن التعبيرات التى تتكرر فى كتابات السباعى بشكل لافت للنظر تعبير "بعد لأْىٍ (طويل/ قصير)": "كنت لا أحظى بإذن سيدنا إلا بعد لأى طويل"، "إننى سأفقد حصيلتى وسأعجز عن استردادها إلا بعد لأى"، "ذكروا أنه نجح بعد لأى وإرهاق"، "وعندما طال وقوفى تطوع لإيقاظه بعد لأى"، "واستسلمت حامية جدة وينبع ورابغ بعد لأى قصير"، "وشعر بعد لأى ببرودة الماء"، "عاد إلى ما كان بعد لأى"، "وإذا هو بعد لأىٍ يطول أو يقصر يبنى لنفسه مركزا يحسده عليه سائر أقرانه"، وغير ذلك.

ومن ذلك أيضا قوله: "ما يمنعنا أن نفعل كذا؟" فى معرض التحضيض على فعل شىء أو استنكار عدم فعله: "فما يمنعنى أن أظلم وأن أثأر لنفسى؟"، "فما يمنعه أن يَبْنِىَ على فتاة كان يلمس عطفها وحنوّها؟"، "فما يمنعنا أن نستغنى عن مساهمتهم؟"، "فما يمنعها أن تحيل شاعرنا إلى إحدى المصحات العالمية ليعالَج فيها على نفقتها؟"، "ما يمنع الناس أن يختلفوا على المبادئ الفكرية دون أن يبالغ كل مخالف فى تقدير ما انتهت إليه فلسفته الخاصة؟"، "إذن فما يمنعه أن يبعد وأن يُغِذّ فى البعد؟ ما يمنعه أن يختار من جبال مكة ما يقصيه عن غوغاء الحياة؟"، "فما يمنع البلاد العربية أن تتفق على مثل هذه الرابطة الاقتصادية؟"، "فما يمنع شبابنا أن تكون له منظمات على مثل هذا المنوال؟"، "ما يمنعنى أن أُثْنِىَ على أَرْيَحِيّة صديقى؟"...إلخ.
ومما يلحظه كذلك قارئ السباعى قوله: "أَبَى إلا أن...": "ولكن سوء الحظ... أبى إلا أن يترك ظروفها عاطلة من أسباب التعليم"، "ونأبى إلا أن نسميه خرافة"، "وأبت الصدف إلا أن تشاكسنى"، "ولكن النوم... أبى إلا أن يستعصى عليها"، "أبت الحياة إلا أن تسير سيرتها"، "وأبى إلا أن يقفز فى رشاقة إلى أبواب مكة"، "يَأْبَى إلا أن يدس أنفه فى جميع مفاهيم الحياة"، "أبى إلا أن يحتسب ما يلاقيه فى سبيل عقيدته وإيمانه".

ومثله "ما لبث/ ما عَتَّمَ أن..."، وإن كانت الأولى أكثر فى حدود ما لاحظت: "ولا يلبث أن يتحرك الموكب فى جولة عامة"، "لم ألبث أن وافانى تعليق الفتاة"، "ولكن هذا التأثير لا يلبث أن تهبط حرارته"، "ما لبثوا أنْ تغلّب عليهم العباسيون"، "ولكنى لا ألبث أن أستبطن الناموسية"، "ما لبثت أن قابلنى من أكد لى حقيقة الخراب"، "ولكن الأيام ما لبثت أن علّمتنى كيف أخفف من غُلَوَائى"، "ثم ما لبثت عجلة الزمان أنْ دارت دورتها"، "ولكن الطفل لا يلبث أن ينمو"، "لا تلبث أنْ تَسْتَعِرَ وتسلك سبيلها المنتج فى الحياة"، "ولكنه ما عتَّم أنْ ضاق بنا"، "فما عتَّم أنْ ندب لنا من يستحصل خمسة قروش عن كل رأس منا"، "ما عتَّمنا بعد سنوات أنْ رأينا منبر الحفل وقد بات مثارا للجدل"، "فما عتَّم المسكين أنْ تضاءل"، "ولكنى ما عتَّمت أنْ فوجئت بصيحة من زوايا المكان"، "فما عتَّم أحفادهم أنْ باتوا يُغْلَبون من كثرة".

وكذلك "دعنا نفعل كذا"، الذى يبدو أنه ترجمة للتركيب الإنجليزى المعروف: "Let us do so". وفى بعض الأحيان نرى السباعى يرفع الفعل المضارع الواقع فى جواب الأمر هنا. والمعروف أن مقابله العربى الأصيل هو: "فلنفعل كذا"، وهو ما يستخدمه السباعى أيضا: "ودعنى بعد هذا أصور لك ما يصادفنى من غرائب هؤلاء الوافدين"، "دعنا نتخلل الخيام إلى سوق الغنم"، "دعنى أودعك عند هذه النهاية"، "دعونى أستميحكم العذر"، "دعنى أتوجه... إلى كل من يفهمنى"، "فدعينى أقول: أختى...، ودعينى بعد هذا أستسمح أخى المشاهد"، دعه يقفز أمامك على الصخور". كما أن للسباعى كتابا بعنوان "دعونا نمش"... وهكذا.

ومن التركيبات التى يلاحظها القارئ بكثرة لدى السباعى استخدامه "ربما" قبل الفعل الماضى (هكذا: "ربما فعل فلان كذا"، بمعنى "قد يفعل"). وهذه الأخيرة، فيما نظن، هى الأشيع فى الأسلوب العصرى. والآن مع الشواهد: "كان مديونا لا يشاركنا إلا فى قليل من هذا العبث. وربما وقف هو وآخر على مقربة منا...، وربما وقف بعيدا"، "وربما تأوهت واحدة منهن فى مرارة وقالت: مسكينة"، "وربما بلغ أبو ريحان منتصف الدحديرة قبلنا فيقف إلى دكة هناك"، "فاللمحة الخاطفة ربما كانت أبلغ إثارة من النظر المطمئن"، "ربما جاء بسيارته من الظهران...، فمن حقه أن يقتحم الخط"، "وربما توسَّع القزوينى... فى وصف القافلة"، "وربما ذبح أصحاب الخيمة شاتهم للضيف رغم أنها ذخيرتهم"، "وكنا نفهم معنى هذا فيستنكر بعضنا ما يرى، وربما ضحك آخرون فى سخرية، وربما امتدت عيونٌ تتابع ما يجرى فى غبطة أو حسد"، "ربما أغراك بهم لون من الصدق التجارى والاستقامة فيما يعملون".
ومثله هذا التركيب: "ما كاد/ لا يكاد... حتى": "فما يكاد يتبلَّغ الطلب حتى يحرص على تنفيذه"، "ما كدنا نبدأ حصتنا... حتى صافحتنا قامة المدير المديدة"، "لا أكاد أخرج إلى طرف الزُّقَاق حتى أتصنَّع الذعر"، "فما كادت تتقدم أيام المأتم حتى تقدَّم ليدها ابن عمها"، "وما كدت أغيب عنه دقيقة حتى استوى أمامى نظيفا"، "فلا يكاد أحدنا يؤسس مصنعا... حتى يبادر لتقليده عشرات وعشرات"، "وما كدت أقدّمه... حتى أولانى ظهره"، "فأنت لا تكاد تحسن إلى الملهوف منهم... حتى يقلب لك ظهر المِجَنّ"، "ما كادت تتقدم تائبةً... حتى قَبِلها الرسول".

وكذلك التركيب التالى المكون من الفعل: "تُرَى" بصيغة المبنىّ للمجهول متلوًّا بأداة استفهام أو مسبوقًا بها: "ترى أى مدى كانت تبلغ من العرفان لو تهيأت لها دراسة مستقيمة؟"، "تُرَى هل فى المدرسة من بات فيها من المعلمين أو غيرهم؟"، "ترى هل عاش أبو طافش يستعمل صندوقه دون أن يعرف عن مخبئه السرى شيئا؟"، "ترى ما هى أنواع الرواسب التى تركت أثرها فى تكوين هذا الضعيف؟"، "أتُرَاك تشهد هذا الزحام الهائل؟"، "أتراه يُعَرِّج أمامنا فى معارج هذه الربوة؟"، "تُرَى هل نهاه عنهم؟"، "أترانى أستطيع أن أجأر بالشكوى؟"، "أتُرَاه لا يملك مثل هذا الكتاب؟ أتُرَاه يملكه، ولكنها لعبة الشباب؟"، "ترى هل كنا يدا واحدة على قِبْلة واحدة؟"، "تُرَى ماذا يكون حالنا لو توفرت كل هذه المبالغ الهائلة لخدمة الأرض؟"، "أتُرَانى أُحْسِن التعبير؟"...

كما يقابلنا فى كتابات السباعى هذا التركيب: "الآن/ أما اليوم، وقد كان كذا، فإننا نفعل كذا وكذا" أو ما يشبهه حيث تتوسط الجملة الحاليّة المصدَّرة بواو الحال بين الظرف ومتعلّقه، أو بين المبتدإ والخبر، أو بين الفعل وفاعله، أو بينه وبين مفعوله: "أما اليوم، وقد فقدنا التسليم...، فإننا نعانى من اضطراب البحث"، "واليوم، وقد طفح الكيل...، فإن ظروفه الخاصة تسلمه إلى العم أبى فروة"، "إننا، وقد أجمعنا على تحويل روافد الأردن، بدأنا نخطو عمليا أهم خطواتنا فى سبيل فلسطين"، "ولكن فضيلة المفتى، وقد بدأ يحتضن الموضوع...، فإنى أتمنى أن يحالفه النجاح"، "أما اليوم، وقد زلزلت الطائرات السريعة... علينا أرضنا، فقد أصبحنا فى غمرة من الزحام"، "إننا، ونحن نفعل هذا، نعلّم الشباب كيف يقدر تمييزنا"، "إنه، وقد آن أوان عودته إلى بيته، يترك متجره الواسع... لصاحب حسابه وخدمه"، "ألا ترى، وقد انتهينا إلى مِنًى، أن نعرّج على بعض آثار النبى فيها؟"، "والآن، وقد عادت العطلة الصيفية، ستعود التساؤلات إياها عن فراغ العطلة وكيف يقضيها شبابنا"، "ولكنا اليوم، ونحن على أبواب إشراقة جديدة، بات أملنا جِدَّ واسع فى هذه المدارس الجديدة"، "أما اليوم، وقد بدأنا خطواتنا الأولى نحو الحضارة، شَرَعْنا...".

كذلك لاحظت أنه قد تكرر لدى السباعى التركيب التالى الغريب لقلة شيوعه: "حاولت/ أردت فلانا ليفعل كذا" بدلا من قولنا: "أردت/ حاولت أن يفعل كذا". وهذه طائفة من الشواهد التى عثرت عليها: "وقد حاولنى أحدهم للانضمام إلى عصابتهم فأبيت"، "أريدكم لتُلْحِقونى فرّاشا"، "نريدهم ليدرسوا حوادث العالم"، "نريدهم ليقتنعوا بأنه ليس فى تاريخ الأرض حرب استطاع أن يحل مشكلة"، "وقد حاولته ليفهم أن شوارعنا على سعتها مزدحمة بالسيارات"، "نريدهم ليعالجوا قضايانا بروح الشباب"، "حاولناه ليتخطى الغلاف إلى ما وراءه"، "ونحن نحاولهم ليفهموا أن الدين يربأ بهم أن يرهقوا أنفسهم"، "وحاولوا ليداعبوا كمانه"، "نظرتى إلى الأشياء لا تتسع لجميع الزوايا مهما حاولناها لتكون شاملة".

ولدى المرحوم السباعى ميل، فى غير قليل من الأحيان، إلى إهمال تأكيد الضمير الذى يريد العطف عليه بالواو، والإتيان بالواو بعده مباشرة دون تأكيده بضمير منفصل، وهو ما يختلف حوله النحاة الأقدمون: أيكون ما بعد الواو معطوفا أم يكون مفعولا معه؟: "ومنا من يملأ شربة سيدنا ويبادر فيسقيه وعريفه إذا عطشا" (بدلا من "يسقيه هو وعريفه")، "وأمرونى وجماعة يبلغ عددهم الثلاثين أن نتخلف فى مكاننا" (بدلا من "أمرونى أنا وجماعة")، "وكان يحلو لى وبعض العيال... أن نقلد المحمل"، "وكان يسكن وإياها فى هذا القصر"، "فهل يلذ لك أن أطوف وإياك على بعض سكك مكة وشعابها؟"، "يقتاتون وأطفالهم من لبنها"، "قالت وهى تشير إليه وفتاته:..."، "كنت أتنزه وبعض أصدقائى فى بساتين الطائف".
ومن التراكيب التى تكثر أيضا فى أسلوب السباعى استعماله كلمة "وبعد" متلوّةً بجملة استفهامية: "وبعد، فهل نبحث عن الحل؟"، "وبعد، فما قيمة هذه الملايين التى أنفقناها؟"، "وبعد، ألا ترى... أن نعرّج على آثار النبى فيها؟"، "وبعد، فإذا صحّت نتائج هذه التجارب فهل سيُظِلّنا يوم نقضى فيه على شرور العالم؟".

وهناك كذلك استعماله للفعل: "عسى" استعمالَ "لعل"، أى بنصب اسمها لا رفعه، أو إيراد الفعل المضارع بعدها وتأخير اسمها إلى ما بعد الفعل: "فعسانا لا نورث أخلافنا مثل هذه العدوى"، "وعسى أن يستطيع المكلفون بالنظافة أن يعيدوا النظر فيما نعانيه من باقى الأوساخ والفضلات"، "وعسانا نستطيع أن نُلِمّ ولو إلمامة بسيطة بالفنون"، "وعساه لا يعجز... عن تحقيق هوية ناموستى"، "فعساه يجد من يلبى رغبته"، "فعسى أن يتضافر القادرون".

ومما يلت الانتباه كذلك فى أسلوب السباعى استعماله بضع مرات كلمة "بينما" مسبوقة بــ"لام الجر"، بمعنى "إلى أن"، وهو استعمال لا أذكر أنى رأيت أحدا غيره يصطنعه: "ملقاطه يتخلل شرائح اللحم ليلتقط الناضج فيجعله فى طبقك لبينما ينضج الباقى"، "جعلوها كمحطة تستريح عليها قِرَبهم لبينما تهدأ أنفاسهم"، "يتولى تنظيفها وترتيبها لبينما تجتمع اللجنة للبت فى أمر شرائها".

ومما يتميز به أسلوب المرحوم السباعى أيضا مزجه بين الفصحى والعامية، وهذه أيضا إحدى سمات الأسلوب المازنى، بيد أن المازنى كان يقتصر على لفظة هنا وهناك يرى أنها فى الأصل فصيحة، أما السباعى فلم يكن يقتصر على تطعيم كلامه بين الحين والحين بلفظة عامية، بل كان يأتى بجمل وعبارات كاملة. بل إن له سلسلة مقالات مكتوبة كلها بالعامية، وهى المقالات التى كان يكتبها بجرية "الندوة" فى ستينات وسبعينات القرن الماضى تحت عنوان "الشعبيات". كما أن حوار قصصه مصبوب فى قالب عامى، وهو ما لم يصنعه المازنى. وبلغ من غرامه بالعامية أن تتبع "الأمثال الشعبية فى مدن الحجاز" وجمعها فى كتاب بهذا الاسم.

وإذا كان أسلوب السباعى ينزل إلى العامية أحيانا فإنه من الناحية الأخرى يصعد إلى المفردات والتعبيرات التراثية. وهو، فى هذا أيضا، يشبه المازنى. ومن الألفاظ والتعبيرات التراثية عنده قوله مثلا: "أوزاع"، "ضِغْثًا على إِبّالة"، "دونه خَرْط القَتاد"، "يثيرها جَذَعَةً"، "عن بكرة أبيهم"، "مُغْدَوْدِن"، "فَدْم"، "جَنَتْ على نفسها بَرَاقِش". ويتصل بهذا كثرة اقتباسه من القرآن الكريم، مثل: "أُسْقِط فى أيديهم"، "وعلى الله قَصْد السبيل"، "قال قائل منهم:..."، "أحقّ بها وأهلها"، حتى تُحْدِث لى منه ذكرا"، "كانت عيدا لأولنا وآخرنا"، "ولَّى ولم يُعَقِّب"...
وأسلوب السباعى، فضلا عن ذلك، أسلوب جدلى. ومن هنا نراه يوجه الكلام إلى القراء قائلا: "يا قوم"، أو "تعالَوْا نفعل كذا"، أو "لست أعنى/ أَدَّعى/ أُنْكِر كذا"، أو "لعلك كذا وكذا"، أو "وبعد، فهل...؟"، أو "تُرَى هل/ ماذا...؟"، أو "قد يقال كذا وكذا" ليرد من فوره على ما يمكن أن يقال فى الاعتراض على تلك الفكرة. بل إن له كتابا كاملا مكونا من مقالات كلها عبارة عن حوار بينه وبين صاحب له متخيَّل هو كتاب "قال وقلت". وهو فى كثير من الأحيان يلجأ إلى التكرار حين يشتد به الانفعال والتحمس فيكتسى كلامه حينذاك شيئا من نبض الشعر وتوترا يضفى عليه تأكيدا يشد القارئ شَدًّا. ومثالا على ذلك أشير إلى الفقرات التى كتبها فى كتابه: "أوراق مطوية" (على مدى أربع صفحات، من ص 202 إلى ص 206) لَفْتًا لأنظار القراء إلى ماضينا العلمى المجيد أيام الحضارة العربية الزاهرة يوم كانت أوربا تغطّ فى سُبَاتٍ عميقٍ، إذ كان يبدأ كل جملة من جمله التى قاربت الخمس عشرة بعبارة "هل علم المفتونون أن فلانًا الفلانى صنع كيت وكيت؟".

ولأن الحلو عادة لا يكتمل نجد فى كتابات السباعى أخطاء لغوية: فمن ذلك استعماله فى نفى المستقبل "سوف لا" بدلا من "لن". ويبدو لى أن ظهور هذا الخطإ فى الأساليب العربية الحديثة ناشىء من التأثر بطريقة النفى فى الإنجليزية، فهى تستخدم كلمتين هما "will not" لا كلمة واحدة كما عندنا: "لن"، فكأن من يستعملون "سوف لا" قد قابلوا "سوف" بــ"will"، و"لا" بــ"not". ومن هذه الأخطاء عنده أيضا قوله: "لا يجب أن..." فى كثير من الأحيان فى موضع "يجب ألا"، والفرق بين الاستعمالين واضح. كما نراه يستخدم أحيانا ضمير المذكر بدلا من ضمير المؤنث أو العكس، كما فى قوله مثلا عن امرأتين: "كانا" بدلا من "كانتا"، أو "إحدى الحجارة" بدلا من "أحد الحجارة"، أو "فرضوا عليهن ألا يطوفوا فى ثياب أذنبوا فيها" بدل "ألا يَطُفْن فى ثياب أذنبن فيها". وبالمثل يخطئ أحيانا فى الصرف: "كنت لا أترك جملا إلا أُوكِزه" (بدلا من "أَكِزه")، "وأنشأ يحدثنى عن طرائف شيّقة" (بدلا من "شائقة")، "عباءاتهم الـمُحَاكة" (بدلا من "الـمَحِيكة")، "أثْنَوْه عن عزمه" (بدلا من "ثَنَوْه")... وهناك إلى جانب هذا أخطاء نحوية مثل: "فى وظيفة والى" (بدلا من "والٍ". وقد تكرر هذا الخطأ عنده على نحو يلفت الأبصار)، "يكفيك عشرين جنيها" (بدلا من "عشرون" لأنها فاعل)، "وأن ثمة طبيب وكاهن يعاينان المريض" (بدلا من "طبيبا وكاهنا" لأنهما اسم "أن" ومعطوفه)، "وليس الغضب بمثل هذا السؤال... إلا نوع من الحماقة" (بدلا من "نوعا")...

وبعد، فقد آن لى أن أضع القلم (أو بالأحرى: "آن لى أن أقوم عن الكاتوب"، لأنى لم أعد أستخدم القلم فى التأليف) بعد هذه الرحلة التى استمتعت فيها بما كتب المرحوم أحمد السباعى استمتاعا عظيما.

الهوامش:
(1) استمددت ترجمته من ظهر غلاف مجموعته القصصية: "خالتى كدرجان"/ ط2/ الكتاب العربى السعودى/ جدة/ 1401هـ- 1980م، وعبد السلام طاهر الساسى/ الموسوعة الأدبية- دائرة معارف أبرز أدباء المملكة العربية السعودية/ دار قريش/ مكة/ 1388هـ/ 1/ 136، ود. إبراهيم بن فوزان الفوزان/ الأدب الحجازى بين التقليد والتجديد/ مكتبة الخانجى/ القاهرة/ 1401هـ- 1981م/ 2/ 716/ هـ3، وكتاب "صفحة من الأدب العصرى بالحجاز"/ جمع محمد سعيد عبد المقصود وعبد الله عمر بالخير/ الكتاب العربى السعودى/ ط2/ جدة/ 1401هـ- 1980م/ 91. وبالنسبة لمؤلفاته يمكن الرجوع مثلا إلى ظهر الغلاف الأخير من كتابه: "سباعيات" فى سلسلة "المكتبة السعودية"/ 1402هـ- 1982م، والصفحة الأخيرة من مجموعته: "خالتى كدرجان".

(2) أيامى/ مطبوعات تهامة/ جدة/ 1982م/ 44- 45.

(3) اقرأ عن جدته من ص 58 فصاعدا من المرجع السابق.

(4) السابق/ ص 95.

(5) انظر قصة "أبو ريحان السقا" من مجموعة "خالتى كدرجان"/ 81- 87.

(6) من قصة "صبى السلتانى" من مجموعة "خالتى كدرجان"/ 23- 24.

(7) أيامى/ 24- 25. أما قوله: "خلاص، أعطيتك الوصاية" فكما نقول فى مصر: "خلاص، اتوصّيت بك".

(8) المرجع السابق/ 19. ومعنى الكلام: "ألف لا شىء عليها".

(9) السابق/ 20.

(10) السابق/ 34.

(11) السابق/ 57.

(12) السابق/ 54- 55. والمعنى بالعامية المصرية: "انت راجل مش بتاع تعليم"، أى لا تصلح له.

(13) السابق/ 74.

(14) السابق/ 57- 58.

(15) السابق/ 82- 83.

(16) السابق/ 32.

(17) انظر "أوراق مطوية" للشريف عدنان الحارثى/ 410- 412.

(18) المرجع السابق/ 378- 379. و"حَقُّون بسم الله الرحمن الرحيم" معناها: "بتوع بسم الله الرحمن الرحيم"، أى العفاريت، التى يعتقد العامة أنها تظهر للبشر وتؤذيهم، وأنها تُصْرَف بنطق البسملة.

(19) السابق/ 382، والنص من أحد أحاديثه المرنائية. والهَرْجَة: الكلام. وأَهْرِج: أتحدث.

(20) السابق/ 365- 366.

(21) أيامى/ 79.

(22) قصة "اليتيم المعذب" من مجموعة "خالتى كدرجان"/ 36- 37.

(23) انظر المسألة برُمّتها عند أحمد السباعى فى كتابه: "قال وقلت"/ الكتاب العربى السعودى/ ط2/ دار تهامة/ جدة/ 1402هـ- 1981م/ 241- 246.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى