الأربعاء ١٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد البوزيدي

يا بحرية هيلا هيلا

في زحمة الليل وضوء القمر الخافت أطفأ عيسى سيجارته الأخيرة من العلبة الشقراء التي لاتفارقه ،أخذ أمتعته الخاصة وخرج إلى يوم عمل جديد زمنه غير الزمن المعروف لباقي الأعمال وهو مطلع الشمس ، نادى التاكسي الخاص به وهو عربة مجرورة من طرف حصان هزيل، وضع الأثقال المختلفة التي يحتاجها عمله خارج البر في المكان المخصص لها )خيوط... صنارات.. طعم....ومحرك يعمل بالبنزين ( ..أخذ مكانه المعتاد وانطلق الفرس الذي يجر العربة اللعينة التي اعتاد الركوب عليها بعد كل منتصف ليل .

الساعة تجاوزت الثانية صباحا بقليل ، أصوات العربات تكسر هدوء الليل المعتاد، أصوات الصهيل المختلف يرتفع شيئا فشيئا في الطريق المؤدية إلى المرفأ الصغير للمدينة، هناك حيث الازدحام الشديد بين العربات المختلفة الأحجام، حيث الإصرار على التقدم في طريق نسي أن يضع له المخزن شرطي مابعد منتصف الليل ، لتنظيم حملة المرور والعبور للمرفأ، لكن نفس المخزن لم ينس وضع مكلف بجمع الضرائب المختلفة على الأسماك المصطادة.

انطفأت مصابيح الإنارة العمومية مع أول مؤذن يعلن فجر يوم جديد، لذلك حلت محلها المصابيح اليدوية الخافتة - والتي تعتبر من أدوات البحار المهمة - . هرج ومرج، صراخ متواصل هنا وهناك...الصبية بدؤوا في الوصول إلى المكان للمساعدة على حمل الأثقال، بينما أخذ الحمالون أمكنتهم المعتادة استعدادا لأوامر حمل المركب إلى الماء،أما النساء فواصلن تقديم وجبات الفطور المبكرة للمغادرين نحو رحلة البحر النصف يومية – حريرة، شاي، خبز ...- بينما بدا بين إنارة المصابيح مخزني يحاول تنظيم المرور وهو يغالب النوم الذي مازال يراوغ جفونه الحادة المتطلعة ل*رزق* جديد قبل مطلع الشمس المفضحة ...

المراكب مكتظة، كل منها ينتظر دورها للمرور للماء، البحارة ارتدوا لباسهم الخاص المختلف الأشكال والأحجام والموحد بطريقة ونوعية صنعه والذي يمنع تسرب الماء إلى داخل أجسادهم النحيلة.

بعد ساعة وصل دور مركب عيسى، حمله رجال غلاظ شداد إلى قرب الماء نظير 300 درهم ،أخذ المحرك من العربة التي مازالت متوقفة تنتظر دورها لإفراغ حمولتها، دعا مساعداه للركوب، وماهي إلا لحظات حتى تكلم المحرك لغته الخاصة وانطلق المركب البسيط في جنح الظلام يعبر عباب المحيط الأطلسي، فصيد الليل ليس كالنهار، له إيقاع خاص ففيه كما يزعم البحارة تكون الأسماك جائعة ونائمة، وتكون سهلة على الصيد خلاف النهار التي ترى فيه الصنارات بأعينها وتستطيع المراوغة مستفيدة من نصاعة الماء.

في البحر علامات خاصة لا يفهمها سوى البحارة، وطرق سيارة معروفة لا تخطئها بصيرة المتمرس ولو بدون بوصلة ،الرايس عيسى يتحكم في المركب عبر المحرك، يراوغ الأمواج العاتية ويصارع في صمت أصحاب المراكب الأخرى على مواقع الصيد الوفيرة الأسماك، بينما بدأ مساعداه اللذان طردا من المدرسة السنة الماضية في رمي الصنارات المختلفة التي زرعت بطعم السردين لجلب الأسماك الكبيرة التي يكون ربحها مضمونا...

تنطلق الصنارات للبحث عن فرائسها المعلومة داخل الأعماق، ويواصل المركب سيره المعتاد....يقف بعد ساعة من انطلاقه في استراحة عابرة، حينها يبدأ المساعدان في التقاط الصنارات المزروعة التي قد تحمل بعضها فرائسا خاصة بينما يتمكن السمك من التقاط الطعم مجانا من الصنارات الأخرى.
الشمس بدأت تظهر رويدا رويدا، ومع زرقة البحر يظهر لون خاص يمتزج فيه الأصفر والأبيض بالأزرق، تتشكل لوحة فسيفسائية على الماء، يحس الفريق بالدفء نسبيا ، فيلتقطون أنفاسهم ويتناولون فطورا على الماء، ويطلقون الصنارات من جديد.

في منتصف النهار يتمايل المركب قليلا، لقد امتلأ بالأسماك الوفيرة...حينها تبدأ رحلة العودة والتي تستغرق ساعتين للوصول إلى مرفأ الانطلاق اليابسة التي لا تبدو في الأفق البعيد، لكن عيسى يعرف الاتجاه بخبرته قي المجال التي تجاوزت عشر سنوات ،.لقد أصبح عالم فلك من نوع خاص، يقدر المسافة، يقود المركب بأمان ويبعده عند الضرورة من الطرق السيارة للسفن الكبيرة خشية الاصطدام بها ..

حين يقترب الفريق من المرفأ تنخفض السرعة تلقائيا، يصمت المحرك منتظرا دوره للرسو بشكل هادئ ، حينها يبدو من بعيد شيخ بعمامة زرقاء، إنه بوشعيب صاحب المركب الذي تربطه عقدة عمل مع الفريق...

حين أعطى المخزني الإشارة عانق المركب الرمال، حضر بوشعيب ليتفحص الحصيلة ، بدت ابتسامة على محياه فرحا بالحصيلة..لكن تلك الابتسامة أثارت حنق أحد مساعدي عيسى الذي يتأمل استغلالا بطريقة خاصة تشبه الرباعة والخماسة في الفلاحة .

أدخل عيسى الأسماك المصطادة للسوق اليومي... باع الإنتاج و أدى الضرائب الخاصة وثمن الحمالة ، دفع لصاحب المركب نصف المبلغ المتحصل من البيع وهو 3500 درهم كما هو متفق عليه ، أعطى للمساعدان 500 درهم للواحد وأدى ثمن العربة التي قدمت به صباحا وسترجعه إلى منزله الآن ، تفحص جيبه فوجد مبلغ 1500 درهم في ماتبقى له .

قيل الفراق أعاد المساعدان جمع الأمتعة ووضعها في العربة المستعدة للانطلاق، يينما كان عيسى يزرع ابتسامة على محياه، فمدخول اليوم ارتفع مقارنة مع الأمس، لكن صراخا داخليا آخر كان يصيح :
وماذا لو انطلقت الرياح يوم الغد وواصلت معانقة الأيام، هل ستكون الحصيلة كافية لسد أيام البطالة الملعونة...؟

تخلص من تخميناته على صوت يدعوه للركوب، وقبل مغادرة المرفأ ألقى نظرة وداع اليوم إلى صديقه الحميم جدا وهو البحر مناديا :
يابحرية هيلا هيلا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى