الاثنين ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
قراءة في قصة توفيق فياض
بقلم عادل الأسطة

الحارس

كتب توفيق فياض الرواية والمسرحية والقصة القصيرة. أصدر روايتين هما "المشوهون" (1964) و "وادي الحوارث" (1994) بالإضافة إلى رواية وثائقية هي "المجموعة 778" (1974)، وأخرى تسجيلية هي "حبيبتي ميليشيا" (1976). وأصدر مجموعتين قصصيتين هما "الشارع الأصفر" (1968) و "البهلول" (1978). ونشر أيضا مسرحية عنوانها "بيت الجنون" (1965).

وهو من جيل سميح القاسم ومحمود درويش، فقد ولد في حيفا في العام 1939، وبدأ الكتابة في الفترة التي بدأوا يكتبون فيها، وكانت بينهم صداقة، فقد كانوا يقرأون نصوصهم معا، ويبدون رأيهم فيها. وهو، لفترة، يحسب على الأدب الفلسطيني الذي أنجز في داخل فلسطين، ذلك أنه لم يغادرها إلا في العام 1974، مثله مثل محمود درويش، مع فارق أنه خرج، لا بمحض إرادته، وإنما لأنه كان سجينا، فقد اتهمته إسرائيل بالتعاون مع المصريين، وطالب الأخيرون به في العام 1974، وهكذا خرج من فلسطين في عملية تبادل أسرى.

وفي المنفى لم ينقطع عن الكتابة، ولم يكتب عن حياة الفلسطينيين في المنافي، إذ ظل يعود بذاكرته إلى تجربته في الوطن المحتل، فأنجز مجموعة "البهلول" التي تضم ثلاث قصص قصيرة تجري أحداثها في القدس العربية وفي مخيم جنين، مصوراً فيها أثر الاحتلال الجديد، احتلال 1967، على المكانين المذكورين، وفي القصة الثالثة عاد ليكتب عن فلسطين قبل العام 1948، وتحديدا منذ الانتداب البريطاني عليها. وفي روايته "وادي الحوارث" التي نشرها بعد محادثات (مدريد) وبدايات (أوسلو) عاد الزمن الروائي أيضا، إلى ما قبل العام 1948. ولم أطلع على روايته التسجيلية "حبيبتي ميليشيا" لأعرف عما كتب فيها، وإن كانت روايته "المجموعة 778" تأتي على مشاركة عرب فلسطين المحتلة في العام 1948 في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بعد العام 1967.

ويلاحظ من يقرأ أعماله التي كتبها في فلسطين المحتلة، قبل خروجه منها، أنه كتب في الموضوع الاجتماعي "المشوهون"، حيث عالج قصة امرأة من مدينة الناصرة، تقيم علاقات جنسية غير شرعية. وقد أثارت "المشوهون" ضجة أدبية كبيرة، قدم لها د. محمود غنايم عرضا مطولا في كتابه "المدار الصعب: رحلة القصة الفلسطينية في إسرائيل" (1995) (ص109-147) كما كتب في الموضوع الوطني، ولكنه عالجه بأسلوب رمزي، لا بأسلوب واقعي كما في "المشوهون"، وهو ما يبدو في "بيت الجنون" وفي بعض قصص "الشارع الأصفر". وقد توقف أمام المسرحية كثيرون منهم ريتا عوض، وأنا في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و1987" (1991)، وأشاروا إلى رمزيتها. ومن المؤكد أن كاتبها ما كان ليستطيع كتابتها بأسلوب واقعي، لأنه قد يتعرض للسجن، وقد لا يسمح له بنشرها، فهي تتناول ما قامت به الصهيونية في فلسطين، حيث أقامت وطنا لليهود على أنقاض الشعب الفلسطيني.

وإذا ما تابع المرء كتابات فياض التي أنجزها في المنفى "البهلول" و "راوي الحوادث"، فإنه سيلحظ جنوحه نحو الأسلوب الواقعي في معالجة موضوعاته، وابتعاده عن الأسلوب الرمزي. وسيلحظ أنه يسمى الأشياء بمسمياتها، دون اللجوء إلى الرمز أو الكناية أو الانزياح في توظيف المفردات. والسبب، لا شك، واضح، فما يمكن أن يقوله ويكتبه عن الدولة العبرية، في العالم العربي، لا يستطيع أن يكتبه أو يقوله فيها، لأنه قد يتعرض لعقوبات، بخاصة أنه واحد من الكتاب الذين يستخدمون لفظة "يهود" لا لفظة "إسرائيليين"، وأنه أيضا من الكتاب الذين، كما أعرف، لم ينضووا تحت لواء حزب إسرائيلي، إذ كان ميالا لحركة الأرض التي منعت إسرائيل وجودها في خمسينات القرن العشرين.

ولا يعني ما سبق أن فياض، في كتاباته، كان مهادنا للأنظمة العربية، فقد كتب معارضا أكثرها، ومتهما إياها بالخيانة التي لن تغيب أيضا عن قصة "الحارس". ولكنه لم يخف حبه لمصر الناصرية، فهو معجب بعبد الناصر، وروح روايته "وادي الحوارث" تقول لنا أنه يدافع عنه. وسيكتب فياض عن أنظمة عربية وحكام عرب، ويتهمهم بالتواطؤ والخيانة، وسيذكر أسماء بلدان أيضا.

وتبدو أعمال فياض مهمة لمن يريد أن يدرس الأدب دراسة اجتماعية، إذ تصور لنا معاناة العرب تحت الحكم الإسرائيلي، ومن قبل تحت حكم الانتداب البريطاني، ومن بعد تحت حكم بعض الأنظمة العربية. ويأتي فيها على ملاحقة هؤلاء كلهم للمقاومة الفلسطينية. وستبرز أعماله صورة للذات، وصوراً للآخر: العربي والإنجليزي واليهودي، ما جعلني أتوقف أمامها في أكثر من دراسة أنجزتها في هذا الجانب. في دراستي عن "اليهود في الأدب الفلسطيني" (1991) وفي دراستي عن "الإنجليز في الأدب الفلسطيني" (1999) وفي مقالتي عن "اليهود في نصوص مرحلة السلام" التي أوردتها في كتاب "أدب المقاومة.. من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" (1998).

وظل توفيق فياض، وهو يكتب القصة القصيرة، ميالا إلى الأسلوب الكلاسيكي، فلم ينزع نحو التجريب، كما فعل أبرز أعلامها: محمود شقير وأكرم هنية.

قراءة في قصة "الحارس":

الحارس في القصة هو (بو علي)، وهو مواطن فلسطيني ممن أقاموا في العام 1948، في فلسطين، وظل في قريته ولم يهاجر منها، كما فعل فلسطينيون آخرون كتب عنهم توفيق فياض في قصته "الكلب سمور" ذاهبا إلى أنهم أخطأوا في هجرتهم، لأنهم لم يكونوا أوفياء لأرضهم، كما كان الكلب سمور وفيا لها، فهذا الكلب لم يقوّ على حياة اللجوء، فقرر أن يعود ليموت في قريته، في وطنه حيث رأى الحياة.

و(بو علي) اسم ذو دلالة في التراث الشعبي الفلسطيني، لا يطلق إلا على الإنسان مضرب المثل بالشجاعة، وهكذا كان يوم شارك في الثورة في العام 1936، لكنه ما عاد كذلك منذ أجبر، بعد العام 1948، على أن يحرس قريته، على الرغم من أنه يملك بندقية، فأي صوت، حتى لو كان صوت علبة حركتها الريح، أخذ يبعث الخوف في نفسه، لا لأنه هو نفسه يخاف على نفسه، بل لأنه يخاف أن يطلق النار على فلسطيني عائد إلى قريته فيرديه قتيلا.

ممن يحرس (بو علي) القرية؟ لا يحرس القرية من أفراد يهود محتلين، ولكن عليه أن يحرسها من الفلسطينيين المتسللين العائدين إلى مدنهم وقراهم التي هاجروا أو هجروا منها، عائدين إليها إما للعيش فيها، أو الاسترجاع مال خبأوه أو ذهب دفنوه، ولم يتمكنوا من أخذه معهم في فوضى الهجرة.
والقرية التي يحرسها (بو علي) لا تبتعد عن قرية فلسطينية أخرى لم تحتل، وهكذا غدا تلم شقه محراث ثور، بين عشية وضحاها، يفصل بين قريتين، وبين أهلين، بل وبين (بو علي) وابنته التي تعيش في القرية الثانية التي لم تحتلها إسرائيل.

و"الحارس" واحدة من قصص كثيرة عبر فيها كتابها الفلسطينيون عن تشتت العائلة الفلسطينية، إثر النكبة في العام 1948. إنها تذكرنا بقصة "بوابة مندلباوم" لإميل حبيبي، وبقصة "المتسللون" لحنا إبراهيم، من أدباء فلسطين المحتلة في العام 1948، وبقصص كتبتها سميرة عزام وهي في المنفى، ومنها قصة "عام آخر". في "بوابة مندلباوم" تلتقي العائلة التي انشطرت إلى قسمين مرة في العام وفي "المتسللون" تتسلل المرأة وطفلها عائدين إلى فلسطين، لتقيم مع زوجها، فتقتلها دورية إسرائيلية، وفي "عام آخر" تكتب سميرة عزام عن العجوز الفلسطينية التي هاجرت إلى بيروت، فيما ابنتها تزوجت في الناصرة وأقامت فيها، وتحاول العجوز أن ترى ابنتها، من خلال بوابة مندلباوم مرة في العام ولا تنجح.

ولن يكتب في هذا الموضوع كتاب فلسطينيون وحسب. في العام 1987 سيصدر الكاتب الإسرائيلي (ديفيد غروسمان) كتابه "الزمن الأصفر" الذي ستصدر له ترجمتان أنجز واحدة منها سلمان ناطور والثانية المرحوم محمد حمزة غنايم، وسيكتب فيه فصلا طريفا عن قرية برطعة، برطعة الشرقية وبرطعة الغربية. ومثل هذه القرية قرى كثيرة انشطرت إلى شطرين ما عاد الناس فيهما يلتقيان.

وسيأتي المرء، وهو يقرأ القصة، على واقع الناس في القرية. على فقرهم الذي انعكس على مظاهر حياتهم، وعلى علاقاتهم ببعضهم البعض، وسيأتي أيضا على تبدل أحوالهم، بخاصة المختار. القرية فقيرة بائسة، والرجل قوام على المرأة يتزوج منها دون مراعاة لفارق السن، ويظلمها ويضطهدها، وليس أمامها إلا الصمت والسكوت. والمختار فقد مكانته التي كان يتمتع بها وغدا منفذ أوامر لسلطات الاحتلال، وعلى الناس أن تخضع له وإلا فالعقاب جماعي.

وربما تساءل المرء: هل كان الإسرائيليون يمنحون بنادق لأهل القرى الفلسطينية، بعد العام 1948، ليحرسوا قراهم من المتسللين؟ ربما يتذكر المرء هنا رواية سلمان ناطور: "أنت القاتل يا شيخ" (1976) ومأساة الطائفة الدرزية التي وجدت نفسها تحمل السلاح الإسرائيلي ليغدو أفرادها، إلا ما ندر، حراس حدود لدولة إسرائيل، وقد يقتلون دروزا مثلهم، ممن وجدوا أنفسهم في سورية أو في لبنان.

ومثلما وجد بعض الدروز أنفسهم في ورطة، ورفض عدد منهم الجندية، فدفع ثمنا باهظا تمثل في حرمانه من امتيازات يحصل عليها من يخدم في الجيش الإسرائيلي، نجد (بو علي) في القصة يتمنى لو يتخلص من هذه البندقية، ويلعن الحرب التي جعلت من أبناء الشعب الواحد أفرادا قد يقتل بعضهم بعضا حتى يحافظ الواحد على نفسه=. ولم يكن (بو علي) حين كان يقاتل الأعداء، في ثورة العام 1936، يكره البندقية كما أخذ يكرهها الآن. الآن قد يقتل فيها واحدا من قومه، وأما من قبل فكان يحملها ليقاتل الإنجليز وعصابات اليهود.

تعاطف السارد/ تعاطف الشخصية مع المرأة:

يتعاطف (بو علي) مع أم سليمان. حين يصغي إلى صوت أم سليمان، يظن أنها في خناق مع زوجها، فيذهب تفكيره مذاهب شتى. يظن أن (أبو سليمان) ضربها، فأخذت تبكي. ويقرر (بو علي) أن يأخذ لها حقها من زوجها، فهذا الرجل الطاعن في السن الذي تزوج منها هي الشابة، لا يحترمها، وهكذا يقرر أن يعنفه أمام رجال القرية. هذا التفكير يعكس طريقة معاملة بعض الرجال في القرية لنسائهم، وإن كان، في الوقت نفسه، يقول لنا إن قلة منهم من يعنفون زوجاتهم، وأن هذه القلة ليست موضع احترام الرجال، الرجال. والسؤال هو: هل هذا الموقف هو موقف الشخصية (بو علي) أم موقف سارد القصة؟ وبالتالي موقف توفيق فياض؟

ما من شك في أن موقف رجال القرية إزاء النسوة ليس واحدا، فهناك من يعاملها معاملة قاسية، وهناك من يحترمها ويقدرها، والقصة عموما تقول هذا. وربما بدا موقف السارد، ومن ورائه توفيق فياض، هو موقف (بو علي)، لا موقف (أبو سليمان) المفترض. وأقول المفترض، لأن الصوت لا يكون صوت أم سليمان تبكي من سوء معاملة زوجها لها، وإنما صوتها لأن ابنها سليمان الطفل منزعج من أمر ما، فأخذت هي تهدهده.

السرد واللغة:

نحن في القصة أمام سارد كلي المعرفة، سارد يعرف كل شيء عن شخوصه ويدخل إلى عالمهم الداخلي، وهو يلم بالخيوط كلها، يعرف الخارج ويعرف الداخل أيضا، وهذا ما يغلب عموما على سارد توفيق فياض في قصصه، ولا تقول لنا القصة إن كان ثمة فارق بين الكاتب والسارد، فليس ثمة إشارات تميز بين توفيق فياض وراوي قصته، وليس ثمة إشارات أيضا تقول لنا أن السارد هو توفيق فياض الذي نعرف عنه. وربما لم يكن فياض نفسه، يوم كتب قصته، يلتفت إلى ما نلتفت نحن النقاد إليه اليوم. ليس هو فقط، بل إن جل الكتاب، في الستينات، ما كانوا يلتفتون إلى هذا التمييز- أي بين الكاتب وسارد قصته.

واللغة في القصة تختلف، فهي ذات مستويين، الفصيحة والعامية. السارد كلي المعرفة كلي المعرفة أيضا بلغته وبلغة شخصيته، فهو حين يسرد يسرد بالعربية الفصيحة التي أتقنها توفيق فياض نفسه، وحين يترك شخصيته (بو علي) تعبر عن نفسها، من خلال أسلوب الحوار الذاتي (المونولوج) يتركه يتكلم بالمستوى اللغوي الذي يناسبه- أي بالعامية، و(بو علي) لم يذهب إلى المدرسة ليتعلم العربية كتابة وقراءة ونطقا، وإنما هو مواطن فلسطيني يتكلم العامية الدارجة لأهل فلسطين.

توظيف المثل الشعبي:

قارئ توفيق فياض يلحظ ثمة سمة بارزة في قصصه وهي توظيف المثل الشعبي، فالقصة "الحارس" لا تخلو من أمثال شعبية ترد على لسان السارد أو الشخصية، من مثل "على بخت الحزينة سكرت المدينة" و"مجنون رمى حجر في بير وميت عاقل ما رده"، وليست هذه السمة مقتصرة على توفيق فياض في أدبنا القصصي. إن قارئ قصة خليل السواحري "مقهى الباشورة"، بل وقارئ قصصه كلها، يلحظ هذه السمة بارزة بروزا لافتا. ولا يأتي توظيف المثل الشعبي في قصصهما للمباهاة بأنهما يعرفان أمثالا شعبية، أو لأنهما مثلا دارسان للمثل الشعبي، وبالتالي يحاولان توظيفه لهذا، أي لأنهما دارسان له، كما هو في رواية علي الخليلي "المفاتيح تدور في الأقفال" (1981) حيث وظف فيها أكبر قدر من الأمثال، وما ذاك إلا لأنه درسها وأصدر كتابا فيها هو: الأمثال الشعبية الفلسطينية والطبقات، وإنما يأتي توظيفها في قصصهما- فياض والسواحري- لأنهما يختاران شخصيات شعبية فلسطينية، ريفية ومدنية، تجري الأمثال على لسانها في الحياة اليومية جريا.

وعموما فإن توظيف الأدب الشعبي في القصة الفلسطينية لفت، منذ وقت مبكر، أنظار الدارسين، وهو ما بدا في كتاب الناقد فخري صالح "القصة الفلسطينية القصيرة "الذي صدر عن دار العودة في بداية الثمانينات من القرن العشرين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى