الأربعاء ٢٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم يسري عبد الله

أنشودة للخلاص من الألم!

تقدم القصة القصيرة في سياقها الراهن اقتراحا سرديا مغايرا، ينفتح علي أفق واعد، طارحا أسئلته الخاصة، ومحتفظا لهذا( النوع الأدبي ) بوهجه الخاص.

وفي المجموعة القصصية (ثلاث نقاط للألم) للقاصة حنان الدناصوري ثمة استحضار لعبارة الرومانسيين الغربيين: لا شئ يسمو بنا قدر ما تسموالآلام¢، حيث تمثل العبارة السابقة مدخلا للولوج في جوهر هذه المجموعة، والتي تبدومسكونة بالوجع، متعاطية¬ في الآن نفسه¬ مع الطرح النسوي في السرد الراهن، خالقة فضاءها الدلالي الخاص، فكانت معنية¬ وبالأساس¬ باكتناه الداخل الثري للإنسان/ الفرد.

هنا يصبح (الألم) مفردة مركزية في المجموعة، تعنون بها بعض النصوص القصصية مثل (ثلاث نقاط للألم)، أوتبدأ بها بعض القصص وتنتهي مثل (البيت)، غير أنها تبقي حالة حاضرة في المتن السردي لمعظم نصوص المجموعة.

في القصةالمركزية (ثلاث نقاط للألم) نلمح ثمة موازاة بين (وخز الألم) بمعناه الجسدي في كل مرحلة من المراحل الثلاث لإجراء عملية جراحية للشخصية المركزية (الدكتورة ريم )، وبين حدوث حالة (الاستحضار/ الاستدعاء) لنقاط ثلاثة من العجز والألم (النفسي) : وبذا تمثل هذه الموازاة بين لحظتي الألم (الجسدي/الراهن) و(النفسي/الماضوي) مرتكزا تتكئ عليه بنية هذه القصة، ففي لحظة الألم الأولي، تتذكر(الساردة/البطلة) مرض الأب، وفي الثانية تسترجع ضياع الحلم بالابن، وفي الثالثة تستدعي واقعة االانفصال عن زوجها، لتصبح هذه الحالات الثلاث علامات دالة علي (الألم) داخل النص.

وفي قصتها (ملاك) تستخدم الكاتبة تقنية (المفارقة الدرامية)، فثمة تناقض بين ما تسمعه (البنت) عن (الملاك) الذي يفرق رحماته علي الجميع، وماتراه بالفعل من قسوة يتعامل بها (الملاك) ¬ المزعوم¬، ليتخلق¬ ومن ثم¬ وعي مسائل قادر علي مراجعة الأشياء.
تسر لصديقة الطفولة¬ إحدي شريكات البكاء¬ إن الملاك ترهبها في الأحلام حتي الآن، تتعجب الصديقة من استمرار سطوة الملاك عليها... وتؤكد لها أنها نسيتها تماما.

البنت¬ في الأربعين الآن¬ تتذكر كلمات أمها:

كالملائكة مبتسمي الوجوه....
وفي قصتها (البلاد البعيدة) توظف الكاتبة تقنية (تيار الوعي)، واللافت هنا أن (مستوي القص الأول) لم يتأثر بالعودة إلي لحظات ماضوية لنري التحاما بارعا بين مستويين سرديين متنوعين.

والساردة/البطلة في (البلاد البعيدة) مأزومة، مسكونة بواقعها الضاغط، لها أوجاعها الداخلية (مرضها الشخصي) والخارجية (مرض الأم)، وفي هذه القصة أيضا نلمح إدانة للموقف الذكوري الذي يمثله (الزوج) في النص:
¢تردد ¢منك لله، منك لله¢. يطمئن نفسه أنها حالة جنون مؤقت، سيتصل بالنجدة 911 لتأخذها إلي مستشفي المجانين. يحمد الله كثيرا أن التأمين الصحي في هذه البلاد البعيدة يتكفل بمصاريف العلاج.

تعود لنفسها بعد اشتياق.

وفي قصتها (في الظل) توظف القاصة الاستهلال السردي للولوج في موضوعة القصة الرئيسية، لنصبح أمام قص غير تقليدي، لا يكتقي بالحكي وفق المنحي الأرسطي القديم (بداية/وسط/نهاية)، ولكنه يبدأ من منتصف الحكاية لنصبح أمام الحدث السردي مباشرة:

ملقاة علي قارعة الطريق.
ينتهكها الغرباء.
ه_ ذا يسبها وذاك يلعنها. أما ذلك القصير فيركلها بقسوة.
تلملم جسدها ودماءها المراقة لتحتل أقل مساحة. لكن الجراح تغافلها، فتنزف، وتكون الدماء بركة صغيرة حولها.
يسأل الغريب العابرين ¢أليس لها أحد؟ أب، أم، أهل؟

يشير الذي لعنها إليه حيث يقف هناك في الظل يساوم النخاسين.
ونلمح هنا تجريدا للواقعي، وصبغه بطابع أكثر رهافة، فالبنت الملقاة علي قارعة الطريق بلا حلم ولا أمل، المثخنة بالجراح، والمقتولة كمدا وقهرا، تري النخاسين متأهبين للشراء، ومن (في الظل) متأهب للمساومة!! حتي أن هذا الظل ¬ علي الرغم من مرارته¬ سرعان ما يختفي ويتحول إلي سراب، وهذه القصة واحدة من أبهي التماعات هذه المجموعة.

في (سندريلا والعم سعيد) تلتقط القاصة لحظة إنسانية ضافية تحوي وهجها الخاص، وتبدوجامعة لعالمين مختلفين (العم سعيد/ سندريلا)، غير أن ألفة ما قد قامت بينهما، وهي التي دفعت العم (سعيد) للخروج من غرفته رغم مرضه الشديد لكي يري الصغيرة (سندريلا) في ذهابها للمدرسة: إن الشخصية المركزية هنا هي (الفتاة الصغيرة)، وهي التي اجتذبت (عم سعيد) لعالمها، ولذا لم نكن بحاجة لمعرفة عوالم أخري في حياة (الشخصية المحورية) الثانية: في هذه القصة التقاط لجانب حياتي رهيف، وفهم دقيق لماهية (النوع الأدبي) الذي تكتب القاصة في إطاره.

في قصتها (أنا في انتظارك) تستبد الوحدة بالشخصية المركزية (نجوي) وتعاني اغترابا داخليا، وهونوع من الاغتراب الذاتي والناتج عن الإخفاق في أن يصبح الفرد ما يريده،وقد مثلت حادثة (الموت) للزوج هاجسا مركزيا للشخصية الرئيسية طيلة القصة، وذلك منذ البداية المستهلة استهلالا زمنيا (في السادسة صباحا )، والراصدة لحال أسرة مكونة من (الأم) المعذبة والطفلين الصغيرين والألم اليومي الذي يعتصر الشخصية المركزية، حتي إن كل الحوادث التي تمر عليها، والتي أضحت روتينية رتيبة، كشفت عنها وأبرزتها (النقط) الموضوعة في آخر صفحة من القصة، والمفضية جميعها لحالة التمزق الداخلي والولع بالحلم انتظارا لحبيب لن يعود.

في قصة (الأبلة و...) تستخدم الكاتبة ضمير الغائب، فبدا السارد الرئيسي مهيمنا علي مقدرات الحكي داخل القصة، متجها بالإدانة لواقع آسن، يمثله (بواب العمارة/القواد)، و(الضابط المتقاعد) الراغب في الاستيلاء علي شقة (الأبلة): ولوأن هذه القصة كانت ستبدوأكثر عمقا لوانتهت بالجملة الدالة ¢البت حبلي¢، لأن ما جاء بعدها مثل مذكرة تفسيرية لما جري، وفي هذا إقصاء لآلية مشاركة المتلقي في النص.

في قصة (كفاية) يتشكل وعي مقاوم، فالفتاة المعدمة تجقبل علي الانتحار بعد أن خنقتها ظروف الحياة، وآلمتها الوحدة القاسية، غير أن شعورا مغايرا قد انتابها حين احتمت بالمجموع:

دفعني طوفان الأجساد للرصيف، لأجد نفسي وسط جمهرة من النساء وعساكر أمن مركزي. لم أفهم ما يحدث رأيت هرجا ومرجا، لافتات كثيرة وشخص محمول علي الاعناق يردد هتافا يكرره الآخرون. أخذت أردد ورائه بصوت خافت أخذ يعلوشيئا.. فشيئا، لأندمج وسط الجموع وأتلاشي فيها للأبد.

وتجعل هذه القصة من الحل الجماعي طريقا للخلاص غير عابئة بالحل الفردي الذي تتخذه عديد من الكتابات الراهنة.
وبعد.. تحوي (ثلاث نقاط للألم) تنويعات سردية متعددة، تتجاور فيهاأبنية تقليدية مع أخري محتفية بالتجريب، وعبر هذه التنويعات المتعددة، وتلك البني المتنوعة، يتخلق صوت قصصي يحمل نفسه الخاص، وبكارته الواعدة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى