الأحد ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم ميسون أسدي

شايٌ وبسكوتٍ وسكرْ

كانت النساء في بلدنا، يخصصن يوما كل شهر، يلتقين فيه عند إحداهن بالتناوب، لإقامة حفلة السكّر، أو ما كان يطلق عليها تأدبا "قعدة سكر بنات".. لم تكن هناك امرأة تتهرب من الحضور للحفلة أو تتهرب من دعوة واستقبال النساء في بيتها.. تأتي كل امرأة، جارّّة خلفها أطفالها، فيلتقي الأطفال مع أترابهم ويسرحون في "الحواكير" وكروم العنب والزيتون ليلعبوا معا، فيغيبون لساعات طويلة، والأمهات لا يقلقن عليهم، فقد كان الجو في القرية آنذاك، يسوده الأمان والطمأنينة..

أنا الطفلة الوحيدة التي لم تلعب مع باقي الأطفال، كنت دائما أحب معاشرة النساء الكبار والجلوس في مجالسهن والاستماع إلى أحاديثهن.. وكنت حادة الملاحظة، دائما أنبه النسوة من أي خطر داهم.. لذلك تم اختياري لأن أكون ناطورة حفلات السكّر هذه. كانت مهمتي بسيطة ومحببة بالنسبة إلي، كان علي أن أتموضع في موقع، يكون من السهل للنساء أن يروني وأراهن منه، وفي نفس الوقت أستطيع رؤية كل قادم من بعيد، وخاصة الرجال، وبالذات صاحب البيت الذي ذهب إلى العمل، فأنبههن لذلك.

اليوم الخميس، وكان الملتقى عند سميحة زوجة زياد، فبعد أن ذهب زوجها إلى العمل قامت سميحة بغلي السكر مع الماء والليمون على نار هادئة واستمرت بتحريكه حتى تماسك وعَقَدَ وتغير لونه من الأبيض إلى لون العسل، وأصبح صلبا ولزجا نوعا ما.. وما هي إلا دقائق، حتى توافدت النسوة الواحدة تلو الأخرى، وكنت من أوائل من وصلن.

رائحة البيت كانت تعبق بالسكر والليمون والقهوة التي ما زالت تغلي على النار.. بدأت الجلسة النسائية باحتساء فنجان قهوة "أهلا وسهلا" مع تناول أطراف الحديث العادي عن الأطفال والبيت والأكل وآخر مستجدات القرية القليلة.. ويستمر الحديث إلى أن تكتمل مجموعة النسوة المدعوة..

أنا أخذت مكاني المتفق عليه، والنساء بدأن بالتعري والجلوس القرفصاء على الأرض غير المفروشة.. تناولت كل واحدة حصتها من عجينة السكر، مقدار ملء كفها، وبدأن بنقلها من يد من إلى أخرى ودعكها حتى تصبح أكثر مرونة ولزجة، مما يسهل عملية مرغها على الجسد، ومن ثم إزالتها بطريقة النتع السريع، حتى تخفف الألم وهي تأخذ الشعر الذي التصق بها من جذوره.. مرغن العجينة على الوجه وتحت الإبطين وعلى الساقين واليدين وأعضاء حساسة أخرى، الواحدة تساعد الأخرى في الأماكن التي لا تستطيع وصولها، وبدأت تصدر عنهن تأوهات من هنا وهناك، وصرخات الم خفيفة إلى جانب خشخشة أساور النساء وكأنها موسيقى منسابة مع أصواتهن وتعابيرهن..

تنتقل النساء عاريات بحرية في غرف البيت حسب احتياجاتهن. وكأنهن حوريات في الجنة، وما يلفت أكثر هو أحاديثهن التي تتحول من عادية إلى إباحية مفرطة، فهذه تروي نكتة من تحت، تحت الزنار، وهذه تعلق على بروز نهدي تلك، ومواقع أخرى، والضحكات الساخرة لا تتوقف..

فجأة برز صوت سعاد الكتومة عادة- وهي تمرغ السكر على ساقيها:
 الليلة ستكون ليلتي الأولى.. سينزلق زوجي داخلي دون عوائق!!
فترد جمانة:
 البارحة، تقلبت مع أبو ثائر، على الفراش حتى ساعات الصباح!!
 عايدة: "نيال ربها المرة إللي مش مشعرانية"!
 وفاء: أنا وسعيد لا نخرج من الفراش يومي الجمعة والسبت، الله يبارك هو لا يشبع، وأنا بالمثل وأكثر..!
 ابتسام: زوجي صامت ولا يحب الكلام، لكن لسانه في الفراش لا يهدأ ولا يكل عن العمل...
والكل يضحكن بغنج ودلال، وكأنهن فعلا في الفراش!

كانت مهمتي سهلة، فسيارة زياد زوج سميحة من نوع فورد زرقاء، وإذا عاد من العمل فسأراه من بعيد وأحذر النساء ليتبعثرن وتعدن كل واحدة أدراجها إلى بيتها وليس من السهل الإخلال بنظام هذه الحفلات وأنا مثل شرطي المرور لا تفوتني فائتة وعيوني شديدة الملاحظة وكنت كالريح أسرع من السيارة.

حبا لي وتقديرا لجهدي كانت النسوة تقدم لي في كل مرة، البسكوت مع الشاي لألتهمه من خلال مراقبتي، وكم كنت أحب غمس البسكوت مع الشاي وبلعه بسهولة، كنت استمتع به وهو ينساب في فمي ورائحة السكر المعقود بالليمون تفوح في كل مكان فيختلط طعم البسكوت والشاي مع المعقود.

كنت أراقب كل شيء واستمع بشغف للقصص النسائية الخاصة، تارة أنظر إلى الشارع وتارة إلى النساء لأرى أجسادهن العارية وأردافهن وهي تتمايل يمينا وشمالا ولَشد ما لفتت انتباهي من بين النساء ليلى.. كنت أفضلها على الجميع بسبب احمر الشفاه الساطع الذي تضعه على شفتيها، كانت نموذج المرأة الجميلة بالنسبة لي.. تمنيت أن أكبر بسرعة حتى أضع احمر الشفاه على شفتيّ مثلها.

كانت قصص النساء عن أزواجهن تترجم في مخيلتي إلى صور حقيقية، فأتخيل كل واحدة مع زوجها وهي تفعل ما تقوله، وكأنني أشاهد مسرحية إباحية ممتعة جدا.. وأحيانا لم أسمح لبعض الرجال اللعب في مسرحيتي، لأنني لا استلطفهم ولا أحب طبعهم السيئ..

بعد الانتهاء من حفلة السكّر، تصبح أجساد النساء ملساء بلا شعر نهائيا كالبلور، وتستحم الواحدة تلو الأخرى ويجلسن في الصالون.. وترى الواحدة تشع وتلمع وملامح التعب بادية على الوجوه.. تُفتح الشبابيك على مصاريعها لطرد الرائحة من البيت، وتأتي فقرة احتساء فنجان قهوة "مع السلامة" وهنا، تنتهي مهمتي بامتياز وانتقل للجلوس معهن في الصالون..

نظرت إليهن وقلت: أأنتن تحببن الرجال وتحببن القبل والنوم في الفراش؟!
 نعم كل واحدة مع زوجها- أجابت إحداهن..
 ولكنكن تتحدثن بكلام سافل، غير مؤدب!
 ربما غير مؤدب ولكن بين النساء هو مسموح..
 هل الحب مسموح؟
 طبعا مسموح والله حلل الحب..
 إذا كان مسموحا، لماذا قُتلت سلوى التي كانت تحب عايد؟!
 سلوى قُتلت لأنها لم تكن متزوجة..
 لماذا لم يقتل عايد؟
 عايد رجل..
 وما الفرق؟
 البنت ممنوع أن تحب..
 ولكنكن قلتن: إن الحب مسموح..
 الحب مسموح للمتزوجين فقط..
 وما الفرق؟!
 مع الزوج مسموح كل شيء..
 ولكن سلوى كانت مع حبيبها..
 سلوى غير متزوجة، سلوى بنت سافلة..
 أنتن أيضا سافلات لأنكن تفعلن ما فعلت..
 سلوى ليست مثلنا.. وقد حلل قتلها بالدين.. الله حلل ذلك..
 هل الله يحلل قتل المحبين؟
 إن الله سمح بذلك..
 كيف سمح.. بعث أخاها وخالها لقتلها؟
 الله قال: الزانية ترجم..
 ولكنها ذبحت بالسكين!
 مستاهلة..
 هل سيقتلونكن انتن أيضا؟
 لا.. نحن متزوجات..
 لكنكن غير مؤدبات وتقلن كلاما بذيئا، سأقول لأبي وعمي زياد وعمي ميلاد كل ما قلتنه.

هكذا، تناوبن النساء بالإجابة على أسئلتي الساذجة، وعندها قالت أمي: عيب عليك يا سهام.. وتدّخلت سميحة: أتريدين يا حبيتي مزيدا من البسكوت والشاي وعندي أيضا شوكلاطة زاكية مثلك؟! أجبت وأنا ما زلت مغتاظة: حسنا..

وقالت سعاد الكتومة وهي ترمقني بنظرات تعاطف: سلوى كانت مسكينة وضحية، الله يرحمها، أنت تحبينها، صحيح؟
 نعم أحبها وأنا مشتاقة إليها.. فهي كانت تحبني وتعطيني الملبس والشوكولاطة..
 سعاد: وأنا أيضا كنت أحبها ومشتاقة لها.. وأطلب منك بأن لا تتحدثي لأحد بقصص النساء، هذا سر بيننا؟
 حسنا.... بشرط ألا تتحدثوا بسوء عن سلوى..
 سعاد: اتفقنا.. أنا نفسي سأمنعهن من الحديث عنها..

عدت من جديد أغمس البسكوت مع الشاي وأتلذذ بطعمه، وخبأت الشوكلاطة لآكلها مع أخي الصغير فيما بعد.. رمقتني النسوة بعيون متفحصة ومتشككة وغاضبة، ورمقتهن بغير عين الرضا وغير الثقة بهن وبأقوالهن المتناقضة.. ومن يومها لم أعد الناطورة المفضلة لديهن..

أنهيت دراسة الدكتوراة في لندن وأعمل كمحاضرة في إحدى جامعاتها، وخلال دراستي عشت مع صديقي بدون زواج لكن مع حب، واليوم أصبح لدينا طفلان، وفي كل شهر، عندما يكون زوجي (صديقي؟) وأطفالي خارج البيت، أحضّر لنفسي عجينة السكر واختار يوم الخميس لأستقبل يوم الجمعة والسبت، فتبقى رائحة عجينة السكر المعقود بالليمون تفوح في البيت وتنتقل إلى جيراني الذين اعتادوا الرائحة ولم يفهموا ما وراءها.. وبعد انتهائي من مسح الشعيرات عن جسمي، كنت احضّر كوبا من الشاي الساخن وأغمس فيه قطع البسكوت الشهية، وأشعر بطعم السكر المعقود بالليمون بين أسناني.. وأتذكر سلوى..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى