السبت ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

حلم رجل ميت

التقيتها في فندق من فنادق تونس العاصمة كانت كما عهدتها شعرها ليلي وهدوءها أخاذ ومشيتها متمهلة، قطعنا بهو الاستقبال وسط هندسة لامعنى لها و لاعلاقة لها بالبلاد والشرق سوى الرخام الإيطالي الذي أُلصِقَ بشكل يدل على ارتجال و اعتداد بالمال .

طلبنا قهوتين مُرَّتين كما كنا نفعل دائما ، قالت وهي تبعد خصلةً من شعرها عن جفنها:
 أنتَ لم تتغيرْ!
 و أنتِ أيضا..
مدَّتْ أناملها لتحيط بيدي على حياء..
 هل لديكَ سيجارة ؟

جذبتُ العلبة من جيب قميصي، أشعلْتُ لها اللفافةَ، عَبَّتْ منها نفَسًا، وصلني كلامها دافئا من خلال الدخان:
  ما زلتَ تُدخِّنُ نفسَ التبغ ؟
  تعرفينَ هذه الموسيقى ؟
  أعرفها إنها " حلمُ رجُلٍ " لموسيقار يوناني..
  هذا موسيقار مجنون وعظيم و هذه المقطوعة من أروع المقطوعات على كل ممتاز أن هناك من يستمع إلى هذا النوع من الموسيقى فالناسُ اليوم أصبحوا يسمعون بأعضائهم التحتية المبتورة : من تثيرك أكثر فتتعرى أكثر هي الأكثر إطرابا ..
  ما زلتَ على مسحة التهكم..
  كيفَ حياتكِ؟
  مملة جدا، اشتريتُ لها أثاثًا جديدا رجالا عابرين و هاربين من أحضان نسائهم الباردة رحلاتٍ كاذبةً، أصدقاء سرياليين و بعضا من النفاق الجميل.
و أردفَتْ كلامها بضحكة أبرزت جمال شفتيها و بياض أسنانها ..
ترشفتُ قهوتي على مهل و تابعتُ تحديقي في أصابعها القصيرة الممتلئة و المزينة ببعض الخواتم ..قالتْ:
  قابلتُ صديقك القصير الأسمر ذاك أتذكرُهُ؟
  نعم أذكره .. ولكن علاقتي به انقطعَتْ منذ الجامعة ..
  قابلتُه في الفندق، كان ثملا ..لم يتذكرْني ..و لكنه كان محبطا..رجوته أن يبيت في الفندق ..لكنه رفض..
  الفندق الذي تعملين فيه ؟
  إنه فندق رخيص..
  لمْ تجدي إلا هذه المهنة؟
  وهل لديكَ بديل ؟
  أنا متعبٌ..استمعي إلى روعة الموسيقى وكيف تجعلك تدخلين عوالم الحلم والانعتاق..
  و أنا مرهقة ..هذه المقطوعة تذكرني بالضياع والتيه في المدينة التي ابتلعتني ..لقد أصبحتُ جزءًا من فضلاتها ...حياة الليل جعلتني بلهاء وسطحية إلى حد السُّخْفِ.
  السُّخْف سمة هذا الزمن ..
  مازلتَ تحبُّ قريتك تلك؟
  نعم و لكن ليس كما في السابق ..لأن "عمران بالصادق " و هو مجنون قريتنا توفي في بيته دون أن يعلم أحد و لم يتفطن الناس إلى موته إلا في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان بعد أن ملأت الرائحة الكريهة القرية ..دفنَه بعض الشبان ليلا و منذ ذلك الحين فقدت القرية توازنها لأن غيابه جعل أهاليها يشُكُّون أنهم بالفعل عقلاء..حزَّ في نفسي موته الرصين..
  لم تلدغْه أفعى أو عقرب..قُلتَ دائما إن بيته يعج بشتى أنواع الزواحف ..
  لقد تعود التعايش معهم، مجنون قريتنا مات منذ أن هدموا بيته و بنوا له غرفة جديدة بعد ذلك أخذوه إلى الحمام بأمر من السلط المحلية لإزالة الأوساخ الملبدة على جسده المتخشِّب ، كان يصرخ و ينادي و يسبُّ، لم يستطيعوا الإمساك به إلا بعد أن أحاط به كل أعوان الأمن كان يبكي ويصيح بأعلى صوته وبكى أكثر حين وجد غرفته الجديدة لقد كان بيته القديم بدون ماء ومليء بالجرذان والعقارب و الجرائد القديمة .. لقد هرب من مستشفى الأمراض العقلية في المدينة مرتين ... لا أحد يعرف كيف كان لا يخطئ الطريق أبدا كان يستدعيني أحيانا لقراءة رسالة رسمية تأتيه من فرنسا من مصلحة قدماء المحاربين أو لأضع له مصباحا كهربائيا جديدا رغم أنه لم يتعود النور بل أصبح يجد راحة في العيش في الظلام و كلما طلب مني ذلك أعرف أنه يريد أن أسكرمعه في الظلام وبين القش والجرذان والزواحف والحشرات كنتُ حين أدخل بيته ذاك يغني لها و يقول لكل الكائنات التي في بيته : " هذا صاحبي ...صاحبي.." و نجلس على فراشه المتداعي كان يحب مزج البيرة بالبوخا آه لو تسمعينه يتحدث عن أيام الحرب العالمية الثانية و إصابة ساقه بلغم وعودته إلى تونس والتحاقه بالجبال و أصدقاء السلاح "الحنش " "محمد بورية" و " علي الذيب" و حين يسكر يتذكر أشعاره في أصدقائه :

مَقْرُونْ عَلَى الذِّيبْ قَدْ المِيَّهْ
تْقُولْ صِيدْ خَاِرجْ مِنْ الحَرْبِيَّهْ
َوشَّامْ عَالرَّجَّالة ما يرضاشِْ
يُقتلْ اللِّي المالْ عندَه الدِيَّه

يغني ويقول الشعر ثم يصرخ بلغته الفرنسية الأنيقة ( نعم لقد قتلتها ) ثم يقول لي هيا " اخرج"، كان في كل مرة يعترف بقتلها ولا أحد يعرف من هي التي قتلها تلك، هل هي امرأة أو أي شيء آخر المهم أنه ما إن يفعل ذلك حتى يصمت ثم يأمرني بالخروج و يخلد إلى النوم بهدوء.
 غريب أمره .
 لكن غرابته أصبحت أمرا عاديا بالنسبة إليّ بما أن حياته تبدو عادية فقد كان يصحو من نومه ظهرا يتجول بين أزقة القرية طول النهار لا يستجدي أحدا و لا يطلب مالا من أحد يجر ساقه اليسرى ويأخذ معه أي صحيفة يجدها في الطريق وفي الليل يعود إلى بيته ليمارس حياته التي يحب في الظلمة بين جبل الجرائد القديمة والحطب والجرذان يعد الشاي الأحمر يسلق بيضة كان لديه شيء من المال يأتيه في شكل حوالة من فرنسا كل ثلاثة أشهر إضافة إلى بيعه الأقراص المهدئة التي يتسلمها مجانا من المستشفى الجهوي يبيعها لشباب القرية من العاطلين عن العمل والحشاشين، كان يكره أن يطرق بابه أحد لكن بعض الصبية يثيرون حنقه برمي بابه بالحجارة كانت حياته كلها في الليل وكنتُ في كل إجازة لابد أن أسهر معه ليلة، كان يعرف كل شيء وكان دائما يتحدث عن الخيانات وعن فرنسا البريئة من دم عديد الشهداء التوانسة وعن الكذب والزيف الذي يرويه الناس عن الجبال التي لم تعرف خطابات الأيادي الناعمة الرنانة ولا أصحاب الأناقة الفرنسية الذين كانوا يتحدثون عن الوطنية من قاعات باريس الدافئة.

لكن الغريب في الأمر أنه مات في نهاية شهر رمضان و أُجْبِرَتْ القرية على الحداد رغم نظرة السخرية التي تقابله بها إذ بعد أن تم دفنه نزلت الأمطار بغزارة عجيبة إذ كانت من غزارتها تبدو و كأنها مصحوبة بدخان أبيض يحجب الرؤية بل تكاثرت السحب وجرفت المياه الأرض فأتلفتْ المحاصيل وتطور ذلك إلى عاصفة قوية حتى قال الناس أنهم لم يعرفوا مثل هذه العاصفة منذ خمسين سنة على الأقل و أن هذه المياه ربما ستجرف قبرعمران بالصادق و تأخذه إلى حيث لا يعلم أحد ولم يتوقف الأمرعند هذا الحد.

إذ في تلك الليلة قيل أن الذين يسكنون قرب مقام سيدي عبد القادر سمعوا أناشيد وترانيم في مقام الولي الصالح وكان الحدث الذي هز القرية بكاملها أن الأهالي لم يجدوا غرفة عمران بالصادق الجديدة الأغلب أن المياه قد جرفتها ولم تعد موجودة بحث بعضهم في أنحاء القرية فلم يجدوا أي أثر يدل على أنها كانت موجودة ...كما أن مقام الولي الصالح قد تغير أيضا وأصبح خليطا من الأبيض والأخضر بعد أن كان أبيض ناصعا... في قريتي تلك تزور النساء قبور موتاهم يوم الجمعة والأغرب من كل ما حصل أن عمران رغم أنه لم يكن له أقرباء إلا أن سبع نساء كن يزرن قبره أو بقايا قبره كل جمعة عند الفجر ولا أحد يعرفهن لأنهن يضعن " بخنوق" من الصوف ويحكمن وضعه بحيث لا تبدو منهن إلا عين واحدة .
جرفت المياه القرية، هي السنة الوحيدة التي لم يحتفل فيها الأهالي بالعيد لقد غمر الوحل والطين القرية أما الأهازيج التي قيل أنها كانت تُسمع من مقام سيدي عبد القادر فهي لم تخفت إلا بعد سبع ليال باردة منعت أهل القرية من الخروج من منازلهم .

كانت أصوات الموسيقى في الفندق تخفت أيضا عندما انتبهَتْ إلى شرودها و قالت :
  أي رجل هذا حياته غريبة وفي كل مرة يسكر يعترف بجريمة لا يعرفها أحد، يخاف من الماء وكأنه الموت .؟؟!!
  الغريب أنه كان يكره الاغتسال لأنه كذبة ويمقت النهار لأنه زمن عنف الرجال أما الليل فيعبده لأنه زمن الخمر والروح القلب..أظنه كان يعيش حياة أخرى وأحلاما أخرى لا يعرفها أحد .

تنهدَتْ بكل مرارة ثم قالت :
  أنا أُجبرتُ على أن أعيش حياة الليل ومُكْرهَةٌ أيضا على الاغتسال دائما بحكم القذارات التي تعلق بلحمي بل إنني أغسل أذناب الرجال ... أصحو دائما ظهرا أصبحَتْ الشمسُ تحرقني، كل يوم أهيم على وجهي في المدينة بعد أن أخبئ جراحاتي بمساحيق مختلفة أطليها على وجهي بكل سأمٍ، حياتي أصبحت لا معنى لها .. أنا لا أمتلك حتى نفسي ربما عمران هذا أحسن مني أيَّ حياة أعيشها دون شعور بالكفر والتوتر والفناء ....
انتهت الموسيقى وساد الفندق صمت مخملي ناعم ، التفتتْ إليَّ وقالت :
  تبدو منكسرا؟!
  تعبتُ من حياة النهار والليل ..
  هل ستبقى طويلا في المدينة ..
  لا أظن ذلك ..
  مازلت تحلم ؟
  كثيرا خاصة بعد موته ، و أنتِ؟
  أحلامي كلها في النهار .
  لاشك أنها قذرة.
  جدّا .
  لقد تغيرتِ كثيرا
  و أنت أيضا.

نهضَتْ مودعةً .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى