الجمعة ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم ظافر مقدادي

الكتاب المقدس.. قراءة أدبية

ما الكتاب المقدس إن لم يكن تاريخاً؟

مقدمة

انتهيت لتوي من قراءة العمل الضخم للبروفسور الامريكي ثوماس ثومبسون، استاذ دراسات الكتاب المقدس في جامعة كوبنهاغن بالدنمارك. هذا العمل الضخم يحمل باللغة العربية عنوان (داود ويسوع بين التاريخ والتراث المشرقي). وهو العمل الثاني الذي قرأته لهذا الاستاذ الجليل بعد عمله الاول الذي أنجزه في تسعينيات القرن الماضي ويحمل عنوان (الماضي الخُرافي). وفي كلا العَملين الضخمين يحاول ثومبسون الإجابة على السؤال الذي كان يُأرقه منذ بداية دراسته لموضوعات (الآثار التوراتية) في الستينيات، والسؤال هو (ما الكتاب المقدس إن لم يكن تاريخاً؟). والحق يقال أن الاستاذ ثومبسون هو من المأهلين بإمتياز للإجابة على هذا السؤال الأصعب، لأن ثومبسون مسلح بعِلمين: علم الدراسات التوراتية (او الكتابية)، وعلم الآثار. وهو الباحث في آثار فلسطين وتاريخها القديم، حيث عمل أستاذا زائرا في الإكول بيبلك في مدينة القدس، وهو المشارك في إنجاز مجلدين و 7 خرائط عن المستوطنات البشرية في فلسطين في عصر البرونز. إذاً هو ممتلئ باللاهوت والتاريخ. هذا عدا عن اهتمامه الدائم بالأدب المقارن وأدب الشرق القديم والتقاليد الادبية الكتابية، الأمر الذي مكنه من قراءة الكتاب المقدس أدبياً ومقارنته بأدب وأساطير الشرق القديم.

يرتكز ثومبسون في أطروحته على حقيقة آثارية مفادها أن جميع المكتشفات الآثارية في منطقة الشرق الاوسط، وليس فلسطين وحدها، أجابت (إجابة سلبية) على وجود شخصيات الكتاب المقدس وملوكه ومملكة إسرائيل التوراتية في (التاريخ) الشرق أوسطي. هذه الحقيقة التاريخية لم تعد سراً، وانما تتناولها حتى المقالات الصحفية في الغرب وفي إسرائيل نفسها، ويدعمها كبار علماء الآثار في الغرب وإسرائيل. وبناء على ذلك يحاول ثومبسون قراءة الكتاب المقدس بطريقة أخرى غير القراءة (التاريخانية) المعهودة، يحاول القراءة (الأدبية) للكتاب المقدس. سأحاول بدوري في هذا المقال قراءة بعض الأحداث في الكتاب المقدس قراءة أدبية في ضوء أعمال الاستاذ ثومبسون. ليس الغرض من هذه القراءة التقليل من قيمة الكتاب المقدس الدينية أو الحط، لا سمح الله، من قيمة شخصياته المقدسة، بل على العكس، إعطاء هذا الكتاب وشخصياته كامل قدسيتها بعيداً عن التأويلات (التاريخية) أو(المنطقية) التي غيرت فهم الناس للكتاب المقدس من كتاب ديني الى مرجع تاريخي، حتى تمّ باسم هذا (التاريخ) افتعال أعتى الحروب على هذه الأرض، وتهجير شعب من أرضه، الشعب الفلسطيني، الذي أصبحت قضيته وصمة عار على جبين البشرية في حصرها الحديث. إنها قراءة للعودة بالكتاب المقدس الى ذاته ككتاب ديني مقدس.

التكوين

الكتاب المقدس، كغيره من الكتب المقدسة في كل زمان ومكان، غير معني بالتاريخ، فالتاريخ ليس موضوع الكتاب المقدس، وانما موضوعه هو الدين والمنظومة الدينية التي تحدد علاقة البشر بخالقهم، وعلاقتهم ببعضهم البعض في إطار علاقتهم بالرب. هذا لا يعني انه لا يوجد في الكتاب المقدس أحداث تاريخية، فهي موجودة بكثرة، ولكن وجودها ليس من أجل التأريخ لها، بل لإستخدامها كمُحفّزات حيوية وفعّالة لطرح التصورات الدينية. فقصة الخلق (آدم= التربة الحمراء، وحواء= أم كل الأحياء) وقصة الطوفان (نوح= الراحة والهدوء والسلام) لم تُطرحا في الكتاب المقدس للتأريخ، بل لمناقشة (تعريف) ماهية الإله وماهية البشر والفرق بينهما، إنهما قصتان عن الخَلق الأول، وعملية إعادة الخلق (الطوفان) كولادة ثانية من أجل التصالح البشري مع الله وإتباع الدين القويم. فهذه القصص ليست إلا تنويعات على قصص مشابهة وردت عند شعوب عاشت قبل الكتاب المقدس بزمن طويل، مثل السومريين والكلدانيين والفراعنة، كان الغرض منها نفس الغرض التوراتي: الدين وليس التاريخ، مثل قصة الخلق السومرية (الإينوما إيليش)، وطوفان (نون) الفرعوني و(زيوسودرا) السومري و(أرتاحاسيس) البابلي و(ديوكاليون) الإغريقي. فكتبة الكتاب المقدس هم أبناء نفس المنطقة وحملة نفس التراث، ينهلون منه ويُعيدون طرح نفس الموضوعات الدينية للنقاش، ويُعيدون إنتاج نفس التراث، كلٌ بأسلوبه الخاص.

من مميزات الأدب الشرق أوسطي القديم إعتماده على (الحكاية) لطرح الموضوعات (الثيمات) الدينية، وكذلك إعتماده على الرمز والمجاز في سرد الحكايات. إنه خطاب ساحر وجذّاب وفعّال، وهو ليس خطاباً فلسفيا مباشرا وتقريريا. وبذلك على القارئ لهذا الادب، والكتاب المقدس من ضمنه، ان ينتبه للمعاني التي تحملها أسماء الاشخاص والاماكن، أي الإنتباه لمنظومة المجازات والرموز. فالإسم، او الاصح الصيغة اللغوية (Paradigm)، تحمل في معناها وظيفتها التي أنيطت بها لتقوم بعملها داخل نسيج الحكاية، وكأن الاسم سيحقق ذاته أثناء أدائه لوظيفته الادبية في النص. فمثلا (قايين) في سفر التكوين ليس شخصاً وُجد في التاريخ وقتل أخاه (هابيل)، وإنما اراد كاتب سفر التكوين إخبارنا أن (قايين= المخلوق) قد هزم (هابيل= السديم). هذا هو معنى الاسمين، او بالأحرى الصيغتين اللغويتين، قايين وهابيل باللغة العبرية التي كتب بها الكاتب سفره ووجّه خطابه، آنذاك، الى اللذين يفهمون لغته. إن القصة تتحدث عن إنتصار (الحياة) على (الفناء) ضمن منظومة الرموز والمجازات، فالمخلوق قايين يرمز للحياة، والسديم هابيل يرمز للفناء، ألم تتنتصر آلهة الشرق القديم على العماء البدئي السديمي؟!. هذه القصة هي موضوعة (ثيمة) من الموضوعات (الثيمات) الرئيسية في لاهوت الشرق القديم.

وبعد ان ناقش كاتب سفر التكوين موضوعتي (الخَلق) و(الحياة والفناء)، ينتقل الى ثيمة أخرى هي ثيمة (الإيمان)، ويطرحها حسب مفهومه على أنها العلاقة الأمتن بين الانسان وخالقه. يبتكر الكاتب هنا صيغة لغوية أخرى ليزجها في مجموعة من الحكايات لكي يناقش ثيمة الإيمان، هذه الصيغة هي (أب رام) وتعني (الاب الاعلى او الاكبر). إنها الشخصية الاكثر قداسة على طول الكتاب المقدس، شخصية سيدنا ابراهيم عليه السلام كما نفهما نحن تقليديا. لقد أراد الكاتب كالعادة أخذ الامور الى أقصى حدود التطرف، وهي تقنية أدبية تجتاح الكتاب المقدس بأكمله كما سنرى، والغرض من هذا التطرف في عرض القصة هو إستخلاص أقوى البراهين وأمتنها. يبدأ الكاتب بترحيل أبرام عن بيت آبائه في أور جنوبي العراق قاصداً أرض كنعان، مروراً بشمال سوريا (حرّان)، وفي أرض كنعان يُبقيه الكاتب مترحلاً، ويُنزله الى مصر ثم يُعيده الى ارض كنعان. إن هذه الرحلة عبارة عن رمز لخارطة الشرق الاوسط القديم، إنها رحلة ليست تاريخية بل قصصية، وكأن الكاتب يقول لنا: إن (أباكم الاكبر) يا ايها الناس عاش مترحلاً في (طول البلاد وعرضها)، ورغم هذا الترحال الشاق والمضني لم يتذمر ولم يخرج عن طاعة الرب، بل كان مفعماً بالإيمان، وكان أينما حلّ يضع مذبحاً للرب.

ولكي يثبت الكاتب وجهة نظره أكثر يُدخل أبرام في قصص متطرفة حول مفهوم الحياة وواهبها. فهذه (ساراي= الأرض؟) زوجة أبرام، ولاحقاً سيصبح إسمها (سارة= السيدة) بعد الوعد الإلهي بالحمل الإعجازي، لا تُنجب وقد بلغت الشيخوخة. إنها بداية سلسلة النساء العواقر (سارة، رفقة، راحيل، حنة، زوجة منوح، اليصابات أم يوحنا المعمدان..) اللواتي يلدن بأمر الله، وكيف لا والله وحده هو واهب الحياة؟!. إنه حضور (الملكوت) لعكس الحالة، حالة الحزن الى فرح وحالة اليأس الى أمل، بحمل إعجازي.. إنها ثيمة (الحياة وواهبها)، فالمرأة العاقر كالأرض اليباب، ووحده (الحضور الإلهي) واهب الحياة هو الذي يعكس الحالة: فتحمل المرأة مثلما تخضرّ الارض وينمو الزرع. هنا أود التنبيه الى أن الإله الكنعاني (بعل= المطر) كان له 3 بنات: (أرساي= الارض) و(تالاي= الندى) و(بدراي= السمينة والمُطعمة). فهل (ساراي) بالعبرية هي إقلاب لغوي لكلمة (أرساي) بالكنعانية؟ خاصة إذا عرفنا أن كاتب (المدراش العبراني) يخبرنا أن هناك زوجة ثانية لأبرام إسمها (قطورة= الندى) أطلق عليها الكتاب المقدس لقب (الغريبة= هاجار). إن كاتب الكتاب المقدس ينهل من لاهوت وأدب الشرق القديم.

يُصدّق أبرام بكل إيمانه وعد الرب، أما ساراي فـ(تضحك)، وعندما يتحقق أمر الله يُعطي الكاتب صيغة (إسحق= يضحك) إسماً للطفل. هذا الطفل البريء المولود بمعجزة بعد معاناة ويأس سيجعله الكاتب وقوداً لثيمة الايمان. يأخذه أبوه الشيخ الجليل المؤمن أبرام الى أعلى جبل (موريا= مكان الخوف) ليقدمه أضحية للرب حسب طلب الرب. ويسأل الصبي أباه وهما في الطريق الى الجبل وبكل براءة: وأين الكبش الذي سنقدمه قرباناً للرب يا أبي؟. أرى قلب سيدنا إبراهيم يتمزق ألماً أمام براءة الصبي، ولكنه بإيمانه المعهود يُجيب بما معناه (إن الله سيرزقنا). وما إن يضع السكين على رقبة إبنه حتى ينزل الكبش من السماء. لقد نجى ابرام بإيمانه، هذا الايمان المطلق بالله. لم يناقش ابرام ربه او اعترض على حكمه وإنما آمن فقط، والايمان يكفي من أجل الخلاص. إنها قصة لترسيخ (معادلة لاهوتية) مفادها (إيمان الإنسان= وعد الله الحق). إن شخصية أبرام بحق الشخصية الاكثر قداسة في عالم الكتاب المقدس، بدأ بها الكاتب القصة على أنه (الاب الاكبر) والاكثر ايماناً، ليجعل منه الأنموذج الاوحد للإيمان المطلق للقياس عليه لاحقاً. لقد وعد الرب عبده ابرام ببنين واحفاد بعدد نجوم السماء، ووعده بالارض التي جاء اليها وهو غريب عنها. وقد تحقق الوعد الإلهي بفضل إيمان ابرام، واصبح اسمه الآن (اب راهام) ويعني (الاب الاكبر للكثير من الأمم). إنها قصة عن علاقة الانسان بربه، انها علاقة الايمان المطلق تلك التي تُرضي الله الذي لا يبخل على عباده المؤمنين، وهي قصة الحضور الإلهي واهب الحياة وعاكس الحالة: الموت الى حياة، والجدب الى عطاء، واليأس الى أمل. لا يمكننا قراءة قصة أبرام في الكتاب المقدس قراءة تاريخية لأن هذه القراءة أوقعت علماء الكتاب المقدس التقليديين في تناقض مع التاريخ نفسه.. أوقعتهم في تناقضات لم يستطيعوا حلها حتى الآن.

قصة سيدنا يعقوب عليه السلام ايضا يجب قراءتها أدبياً. لقد ابتكر الكاتب هذه الصيغة اللغوية (يعقب = يلي ويتبع) لتتم ولادة ولدين توأمين من رحم (رفقة) زوجة اسحق بعد 19 عاماً من العقم. أنه (الحضور الإلهي) واهب الحياة مرة أخرى. يخرج عيسو اولا، ثم يعقبه (يعقوب) ماسكاً بقدم (عقب) أخيه ربما ليخرج قبله ليحصل على حقوق البكارية. هذه الصيغة التي تحمل معنى (الذي يأتي تالياً) ستقوم بوظيفتها القصصية لطرح قضية من ثيمة (الشريعة اليهودية)، والقضية هي (الميراث)، فحسب الشريعة الميراث يكون من نصيب الإبن الاكبر (البكر)، والميراث لا يُباع او يُتنازل عنه. في حالة إبنيْ إسحق، الميراث يجب ان يكون لعيسو الابن الاكبر، ولكن قبل وفاة إسحق وقد فقد بصره تقوم زوجته بخدعة تجعله يبارك يعقوب بدلا من عيسو ليصير الميراث من نصيب يعقوب. وبالطبع من قام بالخدعة هو الكاتب وليس (رفقة) زوجة إسحق. يستشيط عيسو غضباً ويطالب بحقه في الميراث وعدم التنازل عنه حسب الشريعة، هذه الثيمة سنراها لاحقاً في (سفر راعوث= الوفية) على سبيل المثال. وهكذا تُحقق الصيغة اللغوية (يعقوب) معناها في الحكاية.

لاحقاً يحتاج الكاتب الى صيغة لغوية أخرى ليبدأ معها مناقشة علاقة الشعب بربه، أي الشريعة وإتباعها.. الطريق المستقيم التي يجب ان يسير عليها البشر. هذه الصيغة هي (أسر إيل) ومعناها (تصارع مع الرب). ولذلك يدفع الكاتب بيعقوب ليتصارع مع الله وقد ظهر له على هيئة إنسان، وفي نهاية الصراع يُطلع الله يعقوب على حقيقة الصراع ويُغير إسم يعقوب الى (إسرائيل) ثم يختفي. لقد أسس الكاتب لشعب بأكمله، (أسباط إسرائيل الاثني عشر)، سيأتي لاحقاً حاملاً وظيفته القصصية في إسمه، إنه شعب (إسرائيل) أي (الشعب الذي يتصارع مع ربه). بالطبع هذا الصراع لن يكون فيزيائياً كما في حادثة التأسيس مع يعقوب، بل يصبح صاراعاً دينياً بين الشعب الذي يصر على (عمل الشر في عيني الرب) وبين الرب الذي يريد (عمل الخير في عيني الرب). إنها بحق الثيمة التي تأخذ الحيز الاكبر في الكتاب المقدس.

الخروج

آن الأوان لكتبة الكتاب المقدس أن يناقشوا ثيمة (الشريعة)، أي منظومة القوانين التي ستحدد علاقة إسرائيل، (الشعب الذي يتصارع مع ربه)، بالله. فالملاحظ أن سفر التكوين لا يأتي على ذكر أي شريعة لدى الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، فالعلاقة هناك كانت (الإيمان) فقط. سيحتاج الكاتب وفقاً لأدبيات الشرق القديم لنبي يتلقى هذه الشريعة من الرب. إنه النبي العظيم (موسى) عليه السلام. يشتق الكاتب الصيغة اللغوية (موسى) من منظومة الرموز اللغوية في الشرق القديم، فهي باللغة العبرية تعني (إنتشل أو سحب)، والإنتشال هنا يتم من الماء، أما باللغة المصرية القديمة فالصيغة هي (مو=ماء، سا=إبن)، أي (إبن الماء)، فهذا (المُنتشَل من الماء) سـ(ينتشل) شعبه عبر (الماء) أيضاً، وسينتشله من العبودية والظلم الى الحرية والشريعة. إن براعة الكاتب وذكاءه واضحتان هنا، فهو مسبقاً، وبإشتقاق الإسم فقط، قد إختصر كل الأحداث الموجودة في سفر الخروج. وسيحقق الإسم معناه لاحقاً في الحكاية. إن الكاتب العارف بلاهوت الشرق القديم وأدبياته يقتبس منه، فهو يردد صدى (إنتشال) غرّاف الماء للطفل الطافي على مياه نهر الفرات في سلة من القش، أي الطفل الذي سيصبح (سرجون الأول) ملك أكاد العظيم و(مُشرّعها) (حوالي 2300 ق.م) برعاية إلهة الخصب (عشتار). وتنتشل إبنة فرعون مصر الطفل (موسى) الطافي في سلة على مياه النيل. ويتربى الطفل ويكبر في البلاط الملكي الفرعوني برعاية إبنة فرعون والإله (رع) بالضرورة.

سيحتاج الكاتب الآن لعقد اللقاء بين الرب وبين النبي المُشرّع القادم، ولكن الأرض التي يسكن فيها النبي القادم، وحسب لاهوت الشرق القديم، أرض (نجسة) من وجهة نظر الإله (يهوه) لأنها تحت رعاية إله آخر هو (رع). وبحسب اللاهوت القديم لا يمكن للحضور الإلهي أن يتم في أرض نجسة ليعطي شرائعه. إنها ثيمة (الحضور الإلهي المقدس- الطهارة) التي تناقض (النجاسة). لذا سيدفع الكاتب بالنبي القادم الى قتل رجل مصري والهرب الى خارج المجال الحيوي للإله رع ليدخل في المجال (الطاهر). وهناك في الصحراء وعند شجيرة العلّيق يظهر الإله لعبده موسى، وعندما يحاول موسى الإقتراب أكثر من المصدر الإلهي يزجره الإله (يهوه) آمراً إياه بخلع نعليه لأنه في نطاق مكان مقدس، فالنعل والحذاء يرمزان الى النجاسة، والنجاسة والحضور الإلهي يتنافران. هذه الثيمة سنراها لاحقاً تتردد بكثرة في الكتاب المقدس وستصبح في (العهد الجديد) سلاح السيد (المسيح= الحضور الإلهي) لطرد الأرواح (النجسة).

يشرح الإله يهوه خطته لموسى لإخراج (الشعب الذي يتصارع مع ربه) من أرض مصر. يتردد موسى في البداية، فهذا الإله غريب عن موسى، وسيحتاج يهوه لآيات لإقناع موسى بأنه إله آبائه وأجداده ولكنه غيّر إسمه من (إيل= العليّ) الى (يهوه= يتنفس، يعيش). والكاتب هنا يختصر لنا أسطورة إنتصار الآلهة الأبناء (او المحليين) مثل بعل ويهوه وداجون على الآلهة الآباء (او الإقليميين) مثل إيل، في فكر الشرق القديم. إن عدم إيمان موسى في البداية وتردده عبارة عن (غمزة) من الكاتب أن كل الشخصيات التي ستأتي ليست كإبراهيم الممتلئ بالإيمان المطلق. يضع الكاتب صعوبات أمام موسى: فهو مطلوب في مصر لجريمة قتل، وهو ثقيل اللسان وغير قادر على الجدال، وهو ذاهب لمواجهة أقوى قوة على الأرض في ذلك الزمان:

فرعون مصر. ولكن موسى وبعد أن آمن بربه ينصاع لأوامره ويذهب في مهمته رغم الصعاب. وينجح في مهمته أخيراً و(ينتشل) شعبه عبر (الماء). إنه النبي (المُخلّص= المسيح) الذي خلص الشعب من العبودية والظلم وهداه للطريق المستقيم (الشريعة). ثيمة (المسيح المخلّص) ستأخذ حقها بإمتياز لاحقاً على طول الكتاب المقدس.

ستحقق صيغة إسرائيل (الشعب الذي يتصارع مع ربه) وظيفتها في سفر الخروج كما أراد الكاتب، فالإنسان (خطّاء) ويرتكب المعصية والخطيئة تلو الأخرى، والله يعاقب ليعظ ويسامح. لقد فرح الشعب بالخلاص والعودة الى رحاب الرب يهوه الحنون، إلا إنه سيبقى من البشر: خطّاء وعاصي. وفي (التيه) يبدأ الشعب بإرتكاب المعاصي والرب يسامح. إن (التيه) في البرية تعبير مجازي عن (ضياع) الإنسان بدون دين. ويصل الكاتب بنا، كالعادة، الى أقصى حدود التطرف في الطرح، ففي أقدس وأهم لحظة من لحظات عمر هذا الشعب، أي نزول الشريعة من الرب الى موسى الموجود على جبل (حوريب= المتوهج)، يجعل الكاتب (الشعب الذي يتصارع مع ربه) يتنكر لإلهه ونبيه المخلّص ويصنع العجل (طقوس مصرية) ويعبده. وينزل النبي العظيم والمخلّص عن الجبل حاملاً ألواح الشريعة (الوصايا العشر) ليرى ما لم تصدقه عيناه، ويرمي بالألواح على الأرض وهو في قمة غضبه لتنكسر الألواح. إنه تعبير مجازي من الكاتب معناه أن هذا الشعب لن يلتزم بالشريعة أبداً، لقد إنكسرت من اللحظة الأولى. وسنرى لاحقاً أن الشعب سيُضيّع هذه الشريعة مئات السنين وسـ(يعمل الشر في عيني الرب). هذا الشعب ليس كـ(أبيه الأكبر= أبرام) الذي كان مؤمناً بالإطلاق، يريد الكاتب أن يقول لنا.

وبعد الخروج من سيناء وفي مكان أسماه الكاتب (قادش= مقدس) يشكو الشعب، كعادته، من شح المياه، فيغضب موسى وهارون من قسوة الرب على شعبه ويطلبان منه توفير الماء للشعب، ويأمر الرب موسى أن يضرب الجبل قادش مرتين لتنفجر عيون الماء. سيدفع موسى وهارون الثمن غالياً بسبب عدم إحترام مشيئة الرب، ستقضي الإرادة الإلهية بحرمانهما من دخول (أرض الميعاد). سيتكرر هذا المشهد لاحقاً مع (داود) حيث سيحرمه الرب من شرف بناء (الهيكل). ويموت هارون، ويموت النبي موسى على قمة جبل (نبو) شرقي نهر الأردن وعيناه تنظران الى أرض الميعاد التي حُرم منها. إنها قصة تراجيدية قصة هذا النبي العظيم، لا يستحق هذه النهاية القاسية، ولكن ليس أنت من يقرر بل الرب، هذا ما يقوله لنا كاتب السفر. إنها ثيمة (الإيمان) مرة أخرى، فالإنسان يجب أن يعمل (ما يريده الله) وليس (ما يرغبه الإنسان).. يعمل (ما يحلو في عيني الرب) وليس (ما يحلو في عيني الانسان). هذه الثيمة سيدفع ملوك (الشعب الذي يتصارع مع ربه) لاحقاً ثمنها غالياً.

صموئيل الناصري

بعد موت النبي موسى سيدخل (الشعب الذي يتصارع مع ربه) الى أرض الميعاد بقيادة (يشوع بن نون)، وسيسكن الشعب في الارض بين القبائل الأخرى القاطنة هناك، وسيحكم (القضاة) هذا الشعب، وسيعمل الشعب (الشر في عيني الرب)، وسيعيد كتبة أسفار (يشوع) و(القضاة) طرح الثيمات الدينية نفسها ولكن بإستعمال حكايات ساحرة وبليغة كعادة أدب الشرق القديم. وهنا علينا أن لا نفهم (أرض الميعاد) بالمعنى المادي التاريخي، بل بالمعنى القصصي اللاهوتي، فهذا الوعد أصلاً لأبرام مقابل إيمانه، وهو الإختبار اللاهوتي للشعب الذي يتصارع مع ربه: هل سيكون مثل أبيه الاكبر أبرام أم لا؟.

يرى كاتب سفر (صموئيل) أن الشعب العاصي يحتاج الى (نبي). وفي مكان يُدعى (شيلو= سيُبعث) أقام الشعب (خيمة الإجتماع) وبداخلها (تابوت العهد) حيث توجد (الشريعة)، تماماً كما عمل موسى في الخروج. الصيغة اللغوية (شيلو) إقتبسها كاتب سفر (صموئيل)، الذي نحن بصدده الآن، من مقولة قالها النبي يعقوب لإبنه (يهودا) على شكل نبوءة مفادها أن السلطة الملكية (الصولجان) لن تخرج من شعب إسرائيل حتى يأتي الـ(شيلو). ربما كان قصد كاتب سفر التكوين، على لسان يعقوب، القول أن السلطة الملكية ستنتهي بحضور (شيلو= بعث وحضور) سلطة الانبياء. ولكن هذه الصيغة (شيلو) ستلقي بظلالها على الكثير من التأويلات لاحقاً، حيث سيعتبرها بعض آباء الكنيسة على أنها تعني (السيد المسيح عليه السلام)، وسيعتبرها بعض المفسرين المسلمين على أنها النبي (محمد صلى الله عليه وسلم). وتزور إمرأة مؤمنة الشيلو للصلاة والعبادة، إنها (حنة= نعمة، فضل، رحمة) زوجة الرجل (إيل قنه) الثانية، وهي من سلسلة النساء العواقر التي ستلد بإعجاز (الحضور الإلهي واهب الحياة)، كما يدل إسمها. تدعو حنة الرب أن يرزقها طفلاً، وتنذر نذراً أنها في المقابل ستهب الطفل الى الشيلو لخدمة الرب. هنا يستعمل الكاتب صيغة (ناصر وناصري) ليصف بها الطفل الذي سيأتي. وكلمة (ناصر وناصري) تحمل بالعبرية معنى (الانتصار لله والمشي في طريقه) وتعني أيضاً (تميزه وأنفرازه عن الآخرين). هذه الصيغة يقتبسها الكاتب من سفر (العدد، الاصحاح 6) على لسان الرب لموسى بخصوص الرجل (الناصر)، او المرأة، الذي (ينتذر) للرب ولا يشرب الخمر والمُسكر. هذه الصيغة (ناصري) تتكرر في أكثر من موقع في الكتاب المقدس، وستوقع كتّاب (العهد الجديد) في متاهة كما سنرى.

ترى حنة نعمةً وفضلاً ورحمةً، كما يدل اسمها، في عيني الرب، فتحمل وتلد ولداً، ويدعوه كاتب السفر (صموئيل، بالعبرية شماع إيل= الرب سمع) للدلالة على (سماع) الرب لدعاء حنة. وتهبه حنة للمعبد للخدمة ويباركه آخر القضاة (عالي) ويربيه ويعلمه. وفي سن البلوغ يبدأ صموئيل بسماع صوت الإله يهوه في الليل. إنه الآن النبي صموئيل. يخبره يهوه أن الشعب بإرتكابه المعاصي سيعاقب من الرب بلعن أبناء الشعب حتى التحطيم، ويؤكد له عالي أن الرب يعمل (ما يحلو في عيني الرب). سيثبت الكاتب أن النبي صموئيل كان (ناصرياً) بإمتياز طيلة حياته رغم التحديات التي كان يفرضها (الشعب الذي يتصارع مع ربه).

يلتقط الكاتب أحداث من تاريخ فلسطين القديمة حول الحروب العادية التي كانت تستعر بين القبائل القاطنة هناك بين الحين والآخر، فيعرض لنا معركة بين قوم أسماهم الكاتب (الفلسطينيين) وبين شعب إسرائيل. نحن الآن، حسب التأريخ الإفتراضي لأحداث الكتاب المقدس، في نهاية عصر البرونز (1300-1000 ق.م)، وهي الفترة المعروفة حسب علم الآثار الحديث بالفترة المعترضة الثانية التي شهدت إنهيار المدن والقرى الزراعية في منطقة حوض البحر المتوسط نتيجة موجات القحط المتكررة. في نهاية هذه الفترة ستنزل (شعوب البحر او ما سيعرف لاحقاً بالفلسطينيين) في جنوب أرض كنعان وشمال الدلتا في مصر. هذه الشعوب لن تبني مدنها وتؤسس جيوشاً قوية الا في عصر الحديد اللاحق. وبذلك لا يمكن لحروب سفر صموئيل أن تتم، فلا وجود للفلسطينيين ولا لإسرائيل في ذلك الوقت. إن كتبة الكتاب المقدس الذين كتبوا أثناء السبي البابلي (586 ق.م) وبعده قد إستخدموا كل صراعات المنطقة التي تمت في وقتهم كمحفزات للحكاية ذات المغزى الديني.

تنتهي المعركة بهزيمة بني إسرائيل، (الشعب الذي يتصارع مع ربه)، ويفقد هذا الشعب في المعركة (تابوت العهد) الذي يأخذه الفلسطينيون. وما إن يصل الخبر الى القاضي عالي في شيلو حتى يقع عن كرسيه وتنكسر رقبته ويموت. وفي نفس الوقت تضع كنته، زوجة إبنه فنحاس، مولودها الذكر وتموت فوراً، أما المولود فيعطيه الكاتب إسم (إيخا بود= المجد مضى). لقد أضاع الشعب العاصي تابوت عهده مع الرب والشريعة التي بداخله. إن الحدث هنا أدخله الكاتب من أجل عملية تحفيز الثيمة وتنشيطها، ثيمة (العهد) بين الله والبشر. إنه تعبير مجازي معناه إن الشعب ببساطة لم يعمل بشريعة الرب. سيستعمل الكاتب الفلسطينيين كسيف في يد الإله يهوه مُسلطاً على رقاب (الشعب الذي يتصارع مع ربه) ليتعظ الشعب ويتوب ويرجع الى الطريق القويم. هذه التقنية في الكتابة سيستعملها كتبة الكتاب المقدس في مواقع أخرى بإستعمال أقوام آخرين مثل الفراعنة والآشوريين والبابليين. وبعد 20 عاماً على ضياع تابوت العهد، عبد خلالها (الشعب الذي يتصارع مع ربه) الآلهة الأخرى مثل البعل وعشتاروت، أمرهم صموئيل بالعودة الى طريق الرب، وشن الشعب بقيادة النبي صموئيل هجوماً كبيراً على الفلسطينيين وانتصروا إنتصاراً كبيراً. ينتصر (الشعب الذي يتصارع مع ربه) إذا سار في طريق الرب، وينهزم إن حاد عن طريق الرب، هذا ما يريد الكاتب إخبارنا به.

يتقدم الشعب من النبي صموئيل للطلب من ربه أن يُعيّن عليهم ملكاً أسوةً بالشعوب الأخرى ليحكمهم وليسير أمامهم في الحروب. هذا الطلب بحد ذاته عبارة عن تخلي من قبل (الشعب الذي يتصارع مع ربه) عن النبي صموئيل وأحكامه التي يتلقاها من الرب مباشرة. إستاء النبي صموئيل من هذا الطلب، وصلى لربه، فقال له الرب بأن يستمع لهم (لأنهم لم يرفضوك أنتَ بل إياي رفضوا كي لا أملك عليهم)، وأخبره الرب بأن ينقل لهم قضاءه: سيُعيّن عليهم ملكاً ولكن هذا الملك سيستعبدهم. إنها ثيمة (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)، ثيمة (الراعي الصالح مقابل الراعي العاصي) التي يتردد صداها على طول الكتاب المقدس: من فرعون مصر الى آخر ملوك يهودا.

تراجيديا الملوك: شاول، داود، سليمان

بناءً على طلب إسرائيل، (الشعب الذي يتصارع مع ربه)، بتتويج ملك عليهم أوحى الله للنبي صموئيل ليختار (شاول= الذي سُئِلَ الله لأجله، او المطلوب) لـ(يمسحه) ليكون ملكاً. وشاول كان أكثر بني الشعب حسناً، وكان أطول منهم جميعاً. الصيغة (شاول) بالعبرية تبدو أنها صيغة (مفعول) للفعل سألَ، أي مسؤول او مطلوب، فهو الشخص الذي بخصوصه سألَ الشعب ربه. يُتوج صموئيل شاول ملكاً بـ(مسحه) بالزيت على رأسه، لـ(يُخلّص) الشعب من نير الفلسطينيين حسب مشيئة الرب. إن شاول بهذا المفهوم هو (مسيح) و(مُخلّص) آخر، مثله مثل النبي موسى الذي خلّص إسرائيل من فرعون. ويدخل شاول في طقوس التحول حين يرى مجموعة من الأنبياء نازلين عن المرتفع، فتحلّ عليه (روح الرب). وسيستعمل الكاتب على لسان صموئيل كلمة (مسيح) ليصف بها شاول. سيتكرر هذا المشهد لاحقاً في العهد الجديد مع السيد المسيح عليه السلام. وفعلاً أبلى شاول بلاءً حسناً، فضرب كل أعدائه وإنتصر عليهم: المؤابيين والعمونيين والأدوميين والفلسطينيين. وسار شاول في طريق الرب.

وذات يوم طلب الرب من صموئيل أن يدفع بشاول لقتال العماليق الذي وقفوا في طريق الشعب أيام موسى حين صعدوا من مصر. وطلب منه أن يقتل كل العماليق بما فيهم النساء والاطفال والشيوخ والماشية عقاباً لهم. وجمع شاول الشعب وفعل كما أمره الرب، ولكنه رأى أن لا يذبح زعيم العماليق ولا يذبح المواشي الجيدة لأجل أن يقدمها قرباناً للرب شكراً له. إن نية شاول هنا حسنة هي التقرب من الرب وشكره. هكذا فكر شاول. ولكن غضب الرب نزل على رأس شاول لأنه خالف أوامره القاضية بذبح (كل شيء). لقد عمل شاول (الشر في عيني الرب)، لأنه عمل (ما يحلو في عينيه) ولم يعمل (ما يحلو في عيني الرب). يأتي جواب النبي صموئيل لشاول حاسماً: (هل مسرة الرب بالمحروقات والذبائح كما بإستماع صوت الرب؟!). فأخذ شاول يرجو من صموئيل أن يطلب له المغفرة من الرب، ولكن صموئيل أصر على الرفض، وذهب شاول وسجد للرب، ولكن كان للرب مخطط آخر: نزع شاول عن المُلك وإعطائه لرجل آخر. ولم يرَ صموئيل شاول منذ ذلك اليوم، وناح عليه طيلة حياته. إنها تراجيديا الملك شاول، فخطأ واحد إرتكبه دفع ثمنه غالياً رغم قلبه المؤمن بالله ونيته الحسنة، تماماً كما حصل مع موسى وهارون. إنّ الانسان خطّاء، يريد الكاتب إخبارنا.

سيتابع الكاتب الآن مناقشة ثيمة (الراعي الصالح او الملك الصالح) ومدى إلتزامه بالإيمان والعهد (الشريعة). وسيغيّر الآن من سمات الملك الجديد الجسدية، فلن يختار شاباً قوي البنية طويل القامة كشاول (لأن الانسان ينظر الى العينين أما الرب فينظر الى القلب). ويذهب صموئيل من منطقة شاول في الشمال الى (بيت لحم) في الجنوب، وهناك يختار من أبناء (يسّى) الثمانية أصغرهم، الراعي (دا وُد= المحبوب). كان داود حسن المنظر وحسن الصوت وعازف بارع وشاب شجاع وبارع في القتال كما سنرى. إنه يُذكّر بعض الباحثين بالإله العربي (وُد) الذي جسدته العرب على شكل صنم عظيم يحمل أسلحته ويقول الشعر ويعزف. لن يعثر علماء الآثار على أي أثر في بيت لحم ولا كل فلسطين يدل على وجود داود في التاريخ، بإستثناء نقش صغير في أقصى شمال فلسطين مكتوب عليه (بيت وُد)، فسره الآثاريون على أنه يدل على وجود (بيت= معبد) لشخص مقدس (وُد) ربما كان إله محلياً عُبدَ في ذلك المكان، تماما مثل إكتشاف (بيت داجون= معبد الإله داجون).

قال الرب لصموئيل: (قم إمسحه لأن هذا هو)، فمسح صموئيل داود بالزيت ملكاً، ونزلت عليه (روح الرب)، وفي نفس الوقت غادرت روح الرب جسد شاول فحلّت محلها (روح رديئة). وهكذا يصبح داود بمثابة الطبيب النفسي لشاول، يعزف له فتغادره الروح الرديئة، فأبقاه شاول في رعايته وجعله حامل سلاحه. وفي معركة حاسمة بين الفلسطينيين وشعب إسرائيل يهزم داود بمقلاعه القائد الفلسطيني المخيف (جليات)، ويصبح داود بطل الشعب المحبوب. يغيظ هذا الامر الملك شاول فيصبح عدواً لداود حتى مماته، ويطارده في كل مكان محاولاً قتله، بينما داود يحارب الأعداء في الارض. إنه الصراع بين (روح الرب) و(الروح الرديئة)، بين (الراعي الصالح) و(الراعي العاصي)، وستنتصر روح الرب بكل تأكيد. ويموت شاول في معركة مع الفلسطينيين، ويهرب (الشعب الذي يتصارع مع ربه) من أمام عدوه. ويموت النبي صموئيل، ويصبح النبي (ناثان) نبياً للشعب، ويصبح داود الآن ملكاً في (حبرون) في الجنوب، ويرث إبن شاول مُلك أبيه في الشمال. وتدور الحروب الآن بين مملكة الشمال ومملكة الجنوب، انه الصراع بين مشيئة الرب وبين مشيئة البشر. وتنتصر مشيئة الرب وينتصر الراعي الصالح: مسيح الرب داود، ويأتي شيوخ قبائل الشمال لتبايع داود ملكاً على كل (الشعب الذي يتصارع مع ربه). وجعل داود من أورشليم مدينه له، جلب إليها (خيمة الإجتماع) و(تابوت العهد)، وبنى لنفسه قصراً من خشب الأرز، إنه مثل كل قصور قصص الشرق القديم الخلّابة.

في ذلك الزمان، المفترض حسب تأريخ علماء الكتاب المقدس أنه 1000 ق.م، لم توجد ممالك ولا حتى دويلات ومدن في فلسطين، بل كانت (قرى) زراعية في الشمال وقبائل بدوية في الجنوب، إنها بقايا مستوطنات نهاية (العصر البرونزي) الأخير. أما المدن الزراعية المتواضعة فستظهر لاحقاً في عصر الحديد، حوالي 800 ق.م، حيث ستظهر مدينة السامرة في الشمال (إسرائيل؟)، أما في الجنوب فسيتأخر ظهور المدن في (يهودا)، بما فيها اورشليم، قرناً كاملاً وأكثر. إن الكاتب الذي يكتب، ككل كتّاب الكتاب المقدس يكتب بعد العودة من السبي البابلي ولا يعرف التاريخ الجيوسياسي لفلسطين، ولكنه عارف بتراثها وأدبها وعاداتها، فهؤلاء الكتبة غير معنيين بالتاريخ أصلاً ولكنهم يستخدمون بعض الأحداث التاريخية التي سبقت السبي وبعد السبي كمُحفزّات للحكايات لأغراض لاهوتية.

يظهر الرب لناثان النبي ويخبره حزنه لأنه ساكن في (خيمة) وداود ساكن في (قصر)، ويشكو الرب لناثان أن (الشعب الذي يتصارع مع ربه) خذّل هذا الرب، فقد نساه هذا الشعب ولم يبنِ له بيتاً يليق به كتلك المعابد التي رآها كتبة الكتاب المقدس في السبي في بابل. ويصرح الرب لناثان أنه سيحفظ بيت داود ومملكته إن هو بنى له مسكناً يليق به و(أنا أكون له أباً وهو يكون لي إبناً). إن القاريء الآن يشفق على الرب نفسه، هذا الرب المسكين. إنّ الانسان خطّاء وعاصي، ما إن يرتفع قليلاً حتى ينسى ربه. ويبدأ الكاتب بتوسيع مملكة داود القصصية، فيجعله يستولي على ضفاف الفرات شرقاً مرورا بكل سوريا وشرق الأردن. إن الكاتب يصعد بالمملكة الى حتفها.

وفي ليلة من الليالي، وكان جيش داود يحاصر (ربّة عمون) شرقي الأردن، رأى داود من على سطح بيته إمرأة جميلة تستحم من (طمثها)، فأعجبته. إنها (بيث شبع= إينة التجديف) زوجة (أوريا) الموجود مع الجيش في القتال. ويطلبها داود في بيته ويضجع معها فتحبل. وأرجو من القاريء أن لا يسأل كيف تحبل إمرأة خارجة لتوها من طمثها، إنه عالم الكتاب المقدس الساحر. ينزل غضب الله على داود ويلعن (بيت داود)، وسيموت الطفل المولود لاحقاً. أما أوريا فيرسله داود الى الصفوف الأولى في الحرب ليُقتل هناك، ويأخذ داود أرملة أوريا زوجة له لتنجب له (سليمان، شلومو بالعبرية من الجذر شالوم ويعني السلام). إن داود، حسب الكاتب، قد خالف 3 وصايا من الوصايا العشر: إشتهاء زوجة الجار، والزنا، والقتل. لقد حلّ غضب الرب على مسيحه المحبوب داود، إنه سيجعل سيوف الأمم مصلطة على بيت داود. وفوراً يدب الخلاف في بيت داود ويعود الصراع بين مملكة الشمال ومملكة الجنوب. وتقتضي الإرادة الإلهية عدم إعطاء داود شرف بناء معبد الرب (الهيكل)، وإنما لسليمان إبنه لأن عصره سيكون عصر (سلام). ويمرض داود ويقعد في فراشه بارد الجسد، ويموت بعد أن حكم في إسرائيل 40 عاماً، تماماً كما سيفعل إبنه سليمان (الرقم 40 رقم مقدس في أدب الشرق القديم). إن مخالفة شريعة الرب ووصاياه أمرٌ عظيم عند الله، يريد الكاتب إخبارنا.

ولادة سليمان يطرحها الكاتب كرحمة وهِبة من الرب لداود وزوجته بيث شبع عوضاً عن طفل الزنا الذي أماته الرب. وإشتقاق هذه الصيغة، (سليمان)، التي تحيل على السلام والازدهار ستحقق وظيفتها في الحكاية كالعادة. سيبني الكاتب مملكة عظيمة لسليمان بما تحتويه من التحف المعمارية، ليس فقط المعبد (الهيكل) في أورشليم، بل الكثير من المدن في مملكة سليمان الموحدة (إسرائيل ويهودا)، مثل: ميناء عصيون جابر، حاصور، مجيدو، وحتى مدينة تدمر. سيأتي علماء الآثار في القرن العشرين ليجدوا (لا شيء) البتة، وسيجدوا (حكمة) سليمان في أشعار وأناشيد وصلوات الكنعانيين المكتشفة في أكثر من موقع، وخاصة آثار مدينة (أوغاريت) قرب اللاذقية. لقد كانت فلسطين أرض القرى الزراعية، وإنما هذه العظمة والقصور التي بناها الكاتب لسليمان هي مما شاهده كتبة الكتاب المقدس في السبي في بابل. وحتى المعبد حسب الوصف التوراتي يشبه معابد آلهة بابل ولا يشبه معبداً للتوحيد الإلهي. إن الكاتب يعلن عن طموح الشعب أثناء السبي وبعده ببناء هكذا مملكة والعيش فيها بسلام وإزدهار. والكاتب كذلك يطرح الثيمات الدينية في الحكاية: (الراعي الصالح)، (العمل حسب مشيئة الرب)، (الشريعة). يريد الكاتب أن يقول لنا إن الله قد منّ على عبده سليمان بكل هذا الخير، ووهبه المُلك العظيم والحكمة، ولكن ماذا كان رد سليمان بالمقابل؟. لقد مهد الكاتب لهذا الرد بمشهد حضور الرب لسليمان بعد أن نقل تابوت العهد الى المعبد الجديد، حيث حذر الرب سليمان أن لا يعبد هو وشعبه آلهة أخرى ويعمل بوصاياه ويقيم شريعته، وإلا فإن الرب سيقطع إسرائيل عن وجه الأرض ويهدم المعبد ليكون عبرة لمن يعتبر.

يبدأ الكاتب الآن بإصعاد سليمان ومملكته الى الهلاك، كما فعل مع شاول وداود. يأخذ سليمان لنفسه زوجات من الأمم الاخرى (المصريات والعمونيات والمؤابيات والحثيات والصيدونيات)، بل يصل عدد زوجاته الى ألف زوجة: 700 من السيدات و300 من الأمات. إن الكاتب هنا يغمز من قناة الشريعة ووصايا الرب في سفر الخروج: (لا تدخلون إليهم ولا يدخلون إليكم، لأنهم يُميلون قلوبكم وراء آلهتهم). لقد دفع الكاتب سليمان لعمل (الشر في عيني الرب) ومخالفة وصاياه، وسيدفعه أكثر:

لعبادة الآلهة الأخرى: كموش وعشتروت ومولك وملكوم، ويبني لهذه الآلهة مرتفعات ويذبح عليها. فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب. أما وقد نزل غضب الرب على سليمان فقد قرر (تمزيق مملكته). ويشتق الكاتب هنا إسماً جديدا هو (يرب عام= ينافس العامة او الشعب) ويدخله في حكاية ساحرة كالعادة. بينما يربعام سائر خارج أورشليم يلتقي بالصدفة بالنبي (أخيّا) القادم من (شيلو) وعليه رداء جديد، فيأخذ النبي الرداء ويمزقه الى 12 قطعة، ويعطي يربعام 10 قطع كناية عن 10 أسباط ستخرج عن سليمان لصالح يربعام، ويُبقي قطعة واحدة (اي سبط واحد) لسليمان، ليس من أجله ولكن من أجل أورشليم مدينة الرب ومسكنه، سيعطيها لإبن سليمان (رحب عام= يُوسّع العامة او الشعب). الواضح هنا أن الكاتب وُفقَ كالعادة في إشتقاق الصيغ اللغوية، فيربعام (ينافس الشعب) مقابل رحبعام الذي (يوسع الشعب)، إنها حرب ضروس قادمة سيكون أبطالها صيغتين لغويتين كعادة الكتاب المقدس. وقد يسأل القاريء هنا عن القطعة 12 (او السبط 12)، هذا السبط هو سبط (اللاويين) وهو سبط (الكهنة) وهؤلاء مُستثنون من التدخل في أمور الحكم والسياسة حسب الشريعة.

علم سليمان بمخطط يربعام فطلب قتله، فهرب يربعام الى فرعون مصر (شيشق). الفرعون شيشق هو أول شخصية في الكتاب المقدس تتطابق مع شخصية تاريخية. نحن الآن في الفترة الاولى من عصر الحديد حين حكم الفرعون شيشق مصر (935-914 ق.م). ولكن سجلات هذا الفرعون التي تذكر حملاته الى بلاد الشام وصراع مصر مع آشور لا تذكر أورشليم ولا مملكة سليمان، بخلاف ما سيدّعي كاتب السفر لاحقاً بأن شيشق دخل أورشليم!، كذلك لا تذكر السجلات الآشورية هذه المملكة العظيمة التي وصلت حدود نهر الفرات. لم يكتب الكاتب من أجل التأريخ، بل من أجل اللاهوت. إن الكاتب هنا يستعمل شيشق سيفاً في يد الرب يهوه، كما إستعمل الفلسطينيين سابقاً، ويجعله يضرب أورشليم لتفعيل الحكاية ذات المغزى الديني. إن الملك (او الراعي الصالح) الذي يحيد عن طريق الرب سيسلط عليه الرب سيوف الأمم. إنها دعوة للراعي الصالح لعمل (الخير في عيني الرب).

ويموت سليمان، وتنقسم المملكة، كما وعد الرب، بين رحبعام في الجنوب (يهودا لاحقاً) وبين يربعام في الشمال (السامرة لاحقاً). وسيعمل ملوك (الشعب الذي يتصارع مع ربه) الشر في عيني الرب. إنها بداية نهاية المملكة. إنها حكاية (الشعب الذي يتصارع مع ربه)، الشعب الخطّاء الذي يدفع ثمن أخطائه. كل هذا الذي حدث والذي سيحدث لاحقاً ليس من التاريخ وليس للتاريخ، بل من الدين وللدين. وما زلنا الى يومنا هذا نستعمل نفس الأسلوب، ما زلنا نقول إن الأمة الإسلامية إنكسرت وتراجعت لأنها تخلت عن (طريق الرب). سيستحضر كتبة الكتاب المقدس كل حروب المنطقة التي وصلت الى أسماعهم، حروب آشور ومصر وبلاد الشام وحروب بابل وحروب الفرس، لتفعيل الحكايات. إن الكتبة يكتبون بعد السبي البابلي، بعد أن ضاعت مدنهم وقراهم وبعد سنوات طويلة من الإستعباد. إن السبب حسب رأيهم هو (عمل الشر في عيني الرب) والإبتعاد عن طريقه وشريعته. سيأتي انبياء العصر المحوري (إشعيا وإرميا وحزقيال) ليرفعوا إبتهالاتهم لله ليخلّص البشر من شرور الحروب والملوك، إنه (نداء او نشيد الإنسان البائس والمسحوق) هذا الذي سنسمعه على طول الكتاب المقدس.. حتى صلب السيد المسيح عليه السلام.

العهد الجديد: يسوع المسيح عليه السلام

يتفق علماء الكتاب المقدس على أن القديسين مرقس ومتّى ولوقا ويوحنا قد كتبوا أناجيلهم الأربعة في نهاية القرن الميلادي الأول بعد عام 70 ميلادي، وكان آخرهم القديس يوحنا الذي كتب حوالي 100 ميلادي. ويتفق العلماء أيضاً على أن هؤلاء القديسين قد كتبوا بمعزل عن بعضهم البعض مكانياً وزمانياً، أي أن كل منهم لم يعرف الآخر. أما عن المكان الذي كتبت فيه هذه الأناجيل فإن غالبية العلماء يرون ان القديس متّى كتب في أنتيوك في شمال سوريا (حالياً مدينة أنطاكيا في تركيا) حوالي الاعوام 80-90 ميلادي، والقديسين مرقس ولوقا كتبا في روما، مرقس حوالي 75-80 ولوقا حوالي 85-95، والقديس يوحنا كتب في إفسوس غرب تركيا في محافظة إزمير حالياً حوالي 100 ميلادي. هذا الامر يجعل القديسين الأربعة من خارج فلسطين، أي خارج المكان الذي تدور فيه أحداث الأناجيل، علماً بأنه في ذلك الوقت كانت الديانة اليهودية قد انتشرت خارج فلسطين وبلاد الشام لتصل الى العراق ومصر وآسيا الوسطى وروما وحتى الجزيرة العربية.

نحن الآن بصدد الأناجيل الأربعة التي كُتبت بعد سقوط أورشليم في يد روما وتدمير المعبد، على يد القائد الروماني في مقاطعة يهودا تيطس، عام 70 ميلادي. هذا الحدث الكبير جاء نتيجة ثورة قام بها سكان يهودا في وجه روما على مدار 3 أعوام إنتهت بسحق الثورة وتهديم المعبد في أورشليم، بعد أن كانت الجيوش الرومانية قد إجتاحت مقاطعات الجليل والسامرة في الشمال. ومن هذا الحدث العظيم سننطلق في قراءة الأناجيل قراءة أدبية، وذلك لأهمية هذا الحدث في تشكيل اللاهوت الموجود في الأناجيل، على طريقة لاهوت الكتاب المقدس بعهده القديم وأدب الشرق الاوسط القديم. فإذا كان من الخطأ قراءة العهد القديم من الكتاب المقدس بدون الإنطلاق من (السبي البابلي) لفهم لاهوت العهد القديم، فإنه من الخطأ أيضاً فهم لاهوت الأناجيل دون الإنطلاق من حادثة تدمير المعبد في أورشليم. فليس مصادفة أن الأناجيل كتبت بعد تدمير المعبد وإن كانت تتحدث عن (أحداث) تمت قبل تدمير المعبد، هذه الأحداث ليست إلا (رؤيا دينية) تحاول تفسير ما حدث من وجهة نظر لاهوتية لا تخرج في فلسفتها عن تقاليد العهد القديم.

تتطابق الأناجيل الأربعة في سرد أحداث معينة، وتتشابه في سرد أحداث أخرى، ولكنها تختلف وتتعارض في سرد أحداث أخرى، فيذكر إنجيل ما حدث ما، ولا يذكره إنجيل آخر.. وهكذا. إن التطابق في ذكر الأحداث دفع ببعض العلماء للقول بوجود (مصدر) خارج وسابق عن الأناجيل، هذا المصدر إعتبره بعضهم (تاريخي) أي تاريخ السيد المسيح بكل ما تحمله كلمة تاريخ من معنى، والبعض الآخر اعتبر (المصدر) على أنه مصدر (شفهي) تناقله الناس حول السيد المسيح ووصل هذا التقليد الشفهي الى أسماع القديسين فدونوا أناجيلهم على أساسه (أي البُعد الموضوعي للأناجيل). أما بخصوص الإختلاف والتعارض بين الأناجيل فقد اعتبرها بعض العلماء اختلافات ناتجة عن أسلوب وفلسفة كل من القديسين أنفسهم (البعد الذاتي للأناجيل). هذه التفسيرات دفعت علماء الكتاب المقدس للبحث عن (مسيح التاريخ) و(مسيح الإيمان)، وحتى الآن وُفق العلماء بالعثور على مسيح الإيمان، فهو موجود في (وجدانهم) ووجدان الناس، ولكنهم لم يعثروا على مسيح التاريخ بعد. لقد استند العلماء ببحثهم عن (التاريخ) على أعمال المُؤرخين الذين عاشوا أحداث الأناجيل او بعدها بقليل، منهم المؤرخ اليهودي (يوسيفيوس فلافيوس) الذي عاش في الفترة (37-100 ميلادي) اي نفس الفترة التي دارت فيها ثورة يهودا ضد الرومان وسقوط اورشليم وتدمير المعبد، بل ان يوسيفيوس نفسه كان من الثوار في منطقة الجليل، وتم اعتقاله وحبسه من قبل الرومان، ثم أصبح متعاوناً معهم بإعطائهم معلومات عن الثورة. هذه الأمور من المفترض أن تجعل يوسيفيوس من أكثر الناس معرفة بحياة وتاريخ السيد المسيح عليه السلام، ولكن أعماله التاريخية، تاريخ اليهود وحروب اليهود، (سكتت) عن ذكر المسيح وحياته، باستثناء (جملة معترضة) في إحدى نُسخ كتاب (تاريخ اليهود) باللغة اليونانية تتحدث عن (يسوع المسيح الذي أمر بيلاطس بصلبه). هذه الجملة المعترضة رفضها علماء الكتاب المقدس منذ القرن السابع عشر وذلك لأنها (غير أصلية) في النص وإنما تم وضعها من قبل بعض النسّاخين، وذلك كونها تدخل على النص السابق لها واللاحق لها عنوة، وتستخدم مصطلحات وكلمات وأسلوب لا علاقة لها بأسلوب يوسيفيوس. أما باقي مؤرخي ورحّالة ذلك العصر فقد سكتوا عن ذكر السيد المسيح وحياته، بل وسكتوا عن ذكر ما ورد في (الجملة المعترضة) التي وردت أعلاه، وهذا دليل على أنها وُضعت لاحقاً. أما (مخطوطات البحر الميت) التي تتحدث عن أخبار تلك الفترة الزمنية فهي أيضاً لا تأتِ على ذكر السيد المسيح وحياته. وكذلك سجلات الإمبراطورية الرومانية التي أرّخت لتلك الفترة لا تذكر المسيح رغم أنه نُفّذ عليه حكم الإعدام من قبل الحاكم الروماني (بيلاطس) على يهودا.

سقطت أورشليم بيد البطش الروماني، وتم تدمير المعبد، هذا المعبد الذي يُعتبر (بؤرة) حياة الناس في يهودا. لقد كانت صدمة نفسية ودينية أكثر من كونها هزيمة في معركة. وفي مثل هذه الحالات يتصدى المثقفون، وبالذات رجال الدين والكهنة، لعلاج الناس نفسياً ودينياً. سيأخذ رجال الدين والكهنة على عاتقهم تفسير ما حدث دينياً: إن الشعب في يهودا.. شعب إسرائيل (الشعب الذي يتصارع مع ربه) بإرتكابه المعاصي وبإبتعاده عن الشريعة قد جلب على نفسه غضب الرب، فسلط الرب عليه سيوف الأمم الأخرى. ستنطلق الأسطورة الدينية في رحاب يهودا والبلاد التي إنتشرت فيها هذه الديانة.. هذه الأسطورة التي تحاول تفسير ما حدث حاملة في ثناياها علاجاً للصدمة. وستصل هذه الأسطورة بإختلاف تفاصيلها الى مسامع القديسين خارج يهودا، وستصبح (المصدر الخارجي) لمؤلفي أناجيل العهد الجديد. وعلينا هنا أن ننتبه الى أن هؤلاء القديسين كانوا يهوداً بالديانة، وكان خطابهم موجّه الى اليهود. لم تكن المسيحية قد تشكلت بعد ولم يكن هناك (مسيحية) بالمفهوم الذي نستعمله حالياً. فالأناجيل هي خطاب من (يهودي) الى (يهودي) ولا تخرج عن السياق التقليدي للعهد القديم من الكتاب المقدس، بل على العكس هي تنبثق منه لتتناول نفس الأسلوب في الكتابة المجازية المرموزة وتطرح نفس الموضوعات (الثيمات) الدينية للنقاش.

يفتتح القديس متّى إنجيله بإقتباس من كاتب سفر النبي إشعيا: (ها إن العذراء تحبل وتلد إبناً ويُدعى عمّانويل الذي معناه إن الله معنا). ستدخل الكنيستان الكاثوليكية والبروتوستانتية لاحقاً في سجال حول إذا ما كان متّى قد قرأ سفر إشعيا بالعبرية أم باليونانية، فحسب النسخة العبرية فإن الكاتب يستخدم كلمة (إمرأة شابة) بدل عذراء، أما النسخة اليونانية فتستخدم كلمة (عذراء). هل وُلد يسوع من (إمرأة شابة) أم من (عذراء)؟. سيضع متّى نفسه في مأزق حين يكتب (سلسلة نسب) يسوع، فهو بحاجة الى إرجاع نسبه الى (داود) ثم (إبراهيم) تماشياً مع التقليد اليهودي في الكتاب المقدس، فالملك المُخلّص ومسيح الرب يجب أن يكون من هذه السلالة. سيسرد متّى هذا النسب بدءً من سيدنا إبراهيم عليه السلام مروراً بيعقوب (إسرائيل) مروراً بداود، وصولاً الى رجل إسمه (يوسف بن يعقوب)، ليخبرنا متّى أن (يوسف) هو رجل (مريم التي ولد منها يسوع الذي يُدعى المسيح). وسيحتار المرء: ما علاقة يسوع البيولوجية بيوسف؟ وما علاقته بالتالي بداود وإبراهيم؟ ما دام يسوع ولد من مريم ومن روح الله (الروح القدس) فما الداعي لهذا النسب لعمود الأب وهذه السلسلة الطويلة؟. تبدو الأمور غير منطقية عند متّى.

بخلاف متّى، يذكر القديس لوقا نسب المسيح في إنجيله مُتأخراً بعض الشيء، يذكره بعد (المعمودية)، ويسرد سلسلة النسب بالعكس، أي أنه يبدأ بيوسف منطلقاً نحو داود فإبراهيم ليصل الى آدم!. ربما وُفق لوقا أكثر من متّى، فهو يقول إن (يسوع كان معروفاً أنه إبن يوسف بن هالي) رغم إعترافه سابقاً أن يسوع ولد من مريم العذراء (خطيبة) يوسف!. وعلى كل حال يختلف متّى ولوقا في سرد نسب (يوسف) في اكثر من إسم!. فما هو النسب الصحيح؟. الغريب عند لوقا ومتّى أنهما يصرّان على سرد نسب يوسف ولكنهما لا يأتيان على ذكر نسب مريم نفسها، وهي الأهم هنا كون يسوع وُلد بالروح القدس منها، فلماذا لا يتم متابعة نسب أمه؟. حسب التقليد اليهودي المسيح المخلّص يجب أن يكون من نسل (يهودا بن يعقوب) من ناحية الأب، فجِدّ داود نفسه، عوبيد، هو إبن (راعوث) المؤابية، ولكن عوبيد نفسه من نسل يهودا بن يعقوب، ولهذا أصبح داود ملكاً رغم جدته المؤابية. ومهما يكن من الأمر فإن الإصرار على ذكر نسب يوسف جاء تماشياً مع التقليد اليهودي بخصوص نسب الأب، رغم أن يوسف ليس اباً ليسوع.

بخلاف متّى ولوقا فإن القديس مرقس لم يأتِ على ذكر ولادة يسوع بالمرة، ولم يذكر بالتالي ولادته من إمرأة عذراء، ولم يكنْ بحاجة الى سرد نسب يسوع. وهذا ما فعله القديس يوحنا أيضاً، فهو يفتتح إنجيله بجملة هي أقرب للفلسفة اليونانية منها الى اللاهوت اليهودي (في البدء كان اللوغوس واللوغوس كان عند الله وكان اللوغوس هو الله..). إن ترجمة (لوغوس) الى (كلمة) هو إختزال للمعنى الإصطلاحي والثقافي لكلمة لوغوس، فهي ليست أي (كلمة) بالمفهوم اليوناني، إنها تعني حسب الفيلسوف هيراقليطس (الكل غير المُنجزء)، ثم تطورت لاحقاً على يد الفيلسوف اليهودي الإغريقي (فيلو) لتحمل معنى (المبدأ الخلّاق). لقد وُفق القديس يوحنا، حسب منطقه، في إختيار هذا المصطلح ليُمثل ولادة يسوع بدل ولادته من عذراء، لقد حافظ على الألوهة كمبدأ خلّاق لا يتجزأ. إن الفريق الأول، متّى ولوقا، يضعنا أمام ولادة (إعجازية) تليق بالمسيح القادم، فقد وُلد إسحق وعيسو ويعقوب وأبناء راحيل يوسف وبنيامين وشمشون وصموئيل ويوحنا المعمدان من نساء عواقر، إنه الحضور الإلهي واهب الحياة، فما المانع أن يُولد السيد المسيح من عذراء بنفس الحضور الإلهي واهب الحياة؟ هذا ما يريد متّى ولوقا إخبارنا به. إن الولادة من (إمرأة عذراء) تُعطي (الحضور الإلهي) أقصى درجات الصفاء، بخلاف الولادة من إمرأة عاقر حيث يكون الحضور الإلهي أقل صفاءً وذلك لأن الأب يشارك في عملية تكوين المولود. إن أعمال السيد المسيح (=الحضور الإلهي) التي سيسردها متّى ولوقا تستوجب هكذا ولادة من إمرأة عذراء.

إن كانت (عذرية) السيدة مريم العذراء قد أربكت متّى ولوقا عند الحديث عن نسب يسوع، فإن كلمة (ناصري) ستزيد الطين بلّة. فهذه الكلمة في العهد القديم تحمل معنى الشخص الذي ينتذر لله ويمشي في طريق الرب ولا يشرب الخمر والمُسكر (حسب سفر العدد، 6)، وقد أورد كتبة العهد القديم أن (شمشون) و(صموئيل) كانا ناصريين. في حين أن هذه الكلمة في العهد الجديد ستحمل معنى آخر هو (الانتساب الى مدينة الناصرة).

يُصرح متّى في إنجيله، بعد عودة يوسف ومريم والصبي يسوع من مصر، أنهم توجهوا الى بلدة تسمى الناصرة وسكنوا فيها (ليتم ما قيل بلسان الأنبياء إنه سيدعى ناصرياً). و(ناصرياً) هنا حسب ما قيل بلسان الأنبياء، أي أنها حسب مفهوم العهد القديم الذي أوردناه أعلاه، فما علاقة الناصرة؟!. إن الرحلة الى مصر لا يذكرها سوى متّى، فهل كانت هذه الرحلة مخرجه الوحيد لجعل يسوع ناصرياً؟ فالملفت للنظر أن متّى لا يذكر أن يوسف ومريم قد عاشا في الناصرة سابقاً، بعكس لوقا، بل يذكر أن ولادة يسوع تمت في (بيت لحم)، وذلك للمحافظة على التقليد اليهودي في العهد القديم كما (جاء في الكتاب على لسان النبي: وأنت يا بيت لحم بأرض يهودا لأنه منك يطلع الحاكم الذي يرعى شعبي). إن متّى ينهل من العهد القديم، ولكنه يرتب الأحداث وفق فلسفته، فهو من جانب يريد للمسيح أن يكون ناصرياً كما جاء على لسان الأنبياء، ومن جانب آخر يريد له ان يكون من سلالة ملوك يهودا من بيت لحم، لذلك جعل ولادته في بيت لحم وسكناه في الناصرة ليكون ناصرياً!!. هل أراد متّى ولوقا إستعمال نبوءة إشعيا: (بلاد الجليل التي يسكنها الأجانب، الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً)، وبالتالي جعلوا يسوع الناصري جليلياً من الناصرة؟.

أما القديس لوقا فيحبذ أن يرجع بضع خطوات الى الوراء ليبدأ إنجيله بوعد الرب للكاهن (زكريا= الرب تذكّر) الطاعن في السن أنه سيرزقه ولداً سيكون إسمه (يوحنا= الرب كريم) من زوجته (إليصابات= الله وعَد) العاقر. إن لوقا يستحضر ثيمة (الحضور الإلهي واهب الحياة) التي استعملها كتبة العهد القديم. إن المولود القادم سيكون حسب وصف لوقا ناصرياً، فهو(سيمتلأ بالروح القدس ولن يشرب الخمر والمسكر= ناصري). وحملت اليصابات بيوحنا الناصري، وفي شهرها السادس أرسل الرب الملاك جبريل الى مدينة الناصرة في الجليل الى العذراء مريم المخطوبة ليوسف، الذي هو من بيت داود، وبشرها الملاك بأنها ستحمل وستلد ولداً وتدعوه (يسوع، بالعبرية يشوع ويهوشع وتعني الرب هو المُخلص) ليعتلي عرش داود ليملك على بيت إسرائيل الى الأبد. ولكن يسوع الناصري (نسبة الى الناصرة) يجب أن يولد في بيت لحم حسب التقليد. هذا الأمر سيدفع لوقا لإستعمال مرسوم من القيصر (أغسطس) في روما يقضي بإحصاء كل السكان. هذا المرسوم حلّ مشكلة لوقا، حيث غادر يوسف ومريم الى بيت لحم ليتسجلوا هناك كون يوسف من بيت داود وعشيرته، فتلد مريم إبنها يسوع في بيت لحم.

لم يجد علماء الكتاب المقدس أن القيصر أغسطس (63 ق.م- 14 ميلادي) قد أصدر مرسوما بإحصاء السكان في السنة التي ولد فيها يسوع وإنما أبكر من ذلك بعشر سنوات. إن مشهد (مرسوم الإحصاء) عند لوقا هو شبيه بمشهد (الرحلة الى مصر) عند متّى، ففي الحالتين تم ربط الناصرة (=ناصرياً) ببيت لحم (=ملك اليهود). إن يسوع هنا أشبه ما يكون بشمشون سفر القضاة وصموئيل سفر صموئيل، فكلاهما وُلد بمعجزة وكلاهما كان ناصرياً وكلاهما من بيت يعقوب (إسرائيل). لا جديد حتى الآن عند متّى ولوقا، فهما يعيدان طرح نفس ثيمات العهد القديم بإستخدام نفس منظومة المجازات والرموز.

كل هذه الأحداث حتى الآن، التي أخذت من كل من متّى ولوقا إصحاحين من إنجيليهما، لا يأتِ مرقص ويوحنا على ذكرها، وإنما يذهبان فوراً الى بداية أعمال السيد المسيح: إلى حكاية تعميده على يد يوحنا المعمدان. يأتي يوحنا المعمدان، حسب متّى ومرقس ولوقا ويوحنا، تحقيقاً لنبوءة سفر إشعيا: (صوت منادٍ في البرية: أعدوا طريق الرب..). إن يوحنا هو ذاك الصوت الذي أطلقه إشعيا في زمن السبي البابلي محذراً (الشعب الذي يتصارع مع ربه) من مغبة الخروج عن (طريق الرب)، هذا الصوت يلتقطه الآن كتّاب الأناجيل ليُعيدوا نفس التحذير (نفس الثيمة) لأن شيئاً عظيماً سيحدث، كعظمة السبي البابلي، ألا وهو سقوط أورشليم وتدمير المعبد. سيقوم يوحنا الناصري بالدور الذي قام به النبي صموئيل الناصري: سـ(يمسح) ملك اليهود القادم ومُخلّص (الشعب الذي يتصارع مع ربه)، فمثلما مسح صموئيل شاول وداود ملوكاً مُخلّصين، سيمسح يوحنا يسوع ليصبح (مسيح الرب ومخلص الشعب). الفرق الوحيد هو أن صموئيل مسح الملوك بالزيت أما يوحنا فسيمسح يسوع بالماء (المعمودية). وكما في حالتيْ شاول وداود حيث حلّت فيهما (روح الرب) فوراً بعد المسح، فإن (الروح القدس) ستحلّ في يسوع على شكل حمامة بيضاء. إنه السلام الإلهي الصافي والناصع هذا الذي ترمز له الحمامة البيضاء، إنه (الحضور الإلهي) قد حلّ بين (الشعب الذي يتصارع مع ربه). إن هذا (الحضور الإلهي) المرموز له أدبياً بـ(يسوع المسيح) سيبدأ بمهمته القصصية والدينية. ولا شيء جديد حتى الآن في الأناجيل، فحتى الآن نحن نرى نفس الثيمات والمجازات التي وردت في العهد القديم.

في الجليل يبدأ يسوع المسيح أعماله الخارقة، فيسري اسمه وأعماله على كل لسان في كل نواحي الجليل والسامرة ويهودا وشرق الأردن وسورية كلها. فهو الذي أشفى المرضى والمسكونين بالارواح النجسة والمصروعين والمشلولين، وهو الذي أعاد للعميان بصرهم، وهو الذي سيُحيي الموتى كما فعل الأنبياء إيليا وإيليشع في العهد القديم. إن المتمعن في الأناجيل يجد أن عدد (المُعاقين) في الجليل حسب الأناجيل يفوق عدد سكانها الحقيقي في تلك الفترة، فهل كان كل السكان من المُعاقين؟ بالطبع لا، ولكن كل ما يريده الكتبة قوله لنا هو: إن الشعب كان فقيراً ومسحوقاً ومُستعبداً ومُضطهداً تحت نير البطش الروماني. إن هذه الأمراض عبارة عن تعبير مجازي عن حالة الشعب الإقتصادية والإجتماعية في ذلك الوقت. إنها (دروب الآلام) هذه المشاهد التي يريدنا كتّاب الأناجيل أن نسير فيها ونعيشها. إنها ثيمة (نشيد الإنسان البائس) التي ترددت في العهد القديم على ألسنة إشعيا وإرميا وحزقيال، إن هذا الحشد الهائل من الناس البائسين ليس إلا تحقيقاً لنبوءات أنبياء العهد القديم، وبالذات إشعيا، التي ينهل منها كتّاب الأناجيل وبإعترافٍ منهم.

إن هذه المشاهد هي تصوير مجازي لحالة الشعب أثناء الثورة وقبل سحقها وتهديم المعبد. إن كتبة الأناجيل يؤكدون هنا على ضرورة إتباع (طريق الرب) من أجل الخلاص، فها هو يسوع المسيح (=الحضور الإلهي) يهب الحياة للزرع والأموات، ويُعيد الأبصار الى فاقديها، وتهرب منه الأرواح النجسة. إنها ثيمة (الحضور الإلهي) واهب الحياة والمناقض للأرواح النجسة، هذه الأرواح (النجسة) تهرب حين تشعر بقرب (الحضور الإلهي- الطهارة) فيشفى المريض. إنه من الأهمية فهم الأمور على محمل المجاز، فإعادة البصر للأعمى ليست إعادة بيولوجية، بل هي مجازية دينية تعني (عودة البصر الى القلب) لأن العمى هو (عمى البصيرة) وليس (عمى البصر)، إنها تعبير مجازي عن عودة (الإيمان) لقلوب الناس الذين حلّ بينهم (الحضور الإلهي). هذا الحضور الإلهي الذي جاء ليخلّص (الشعب الذي يتصارع مع ربه) للإسف سيتم (رفضه) من قبل هذا الشعب.. سيرفض هذا الشعب (الحضور الإلهي)، فينزل غضب الرب على شكل (سيف روما) وسيسحق الشعب ويهدّم المعبد، تماماً كما نزل غضب الرب على شكل سيف شيشق وسيف آشور وسيف بابل. لا يوجد تاريخ في الكتاب المقدس بكامله، وإنما يوجد لاهوت لتفسير أحداث عظيمة، هذه الأحداث يتم إستخدامها لتحفيز وتنشيط الثيمات الدينية.

أما الحالة الدينية للشعب فيعكسها لنا الكتّاب على أنها لم تكن على ما يرام كعادة (الشعب الذي يتصارع مع ربه)، فبرغم أنهم كانوا تحت الإستعباد إلا أنهم لم يسيروا في طريق الرب أيضاً، لقد نسي الشعب، كعادته، عهده مع الله، لقد نسي أن الله ينصره حين يلتزم بالإيمان وشريعة الرب. إن السيد المسيح سـ(يُعرّي) الصدوقيين والفريسيين والكتبة، وسيُثبت نفاقهم، وسيثبت لنا أن وضعهم الديني كان في الحضيض، وسيقلب الطاولات على رؤوس الباعة والتجار الذين إتخذوا من (بيت الرب) مكاناً لتجارتهم. إنها مشاهد تعبّر مجازياً عن حالة الشعب الروحية والدينية، فماذا سيكون رد الرب على شعب حوّل بيته الى بورصة تجارية؟!. سيعطي الرب لهذا الشعب آخر فرصة للعودة الى (الطريق القويم). لقد حلّ (الحضور الإلهي) بين الشعب، فماذا سيختار الشعب؟

يختار السيد المسيح تلاميذه من عامة الناس، ويصورهم كتّاب الأناجيل على أنهم بلهاء لا يفهمون، ولكن قلوبهم امتلأت بـ(الإيمان)، فساروا مع المسيح رغم أنهم لا يفهمون. وسيمشي المسيح أمامهم على الماء، فقد كانت (روح الله) ترفرف على الماء في سفر التكوين. وسيتكلم السيد المسيح بالألغاز. إنها نفس المقولات الموجودة في العهد القديم، يُعيد كتّاب الأناجيل طرحها لمناقشة نفس الثيمات الدينية: الحضور الإلهي واهب الحياة، الراعي الصالح، نشيد الإنسان البائس، المشي في طريق الرب، الرحمة بالمضطهدين والفقراء والغرباء والمساكين، فـ(طوبى لهم) كما قال المسيح في موعظته على الجبل، هذه الموعظة التي ترددت في العهد القديم على لسان إشعيا وكاتب سفر المزامير. إنها ثيمة (الحضور الإلهي عاكس الحالة):

الحزن الى فرح والجدب الى عطاء والجوع الى شبع واليأس الى أمل والعمى الى بصر والموت الى حياة. إنها الرؤيا الدينية الطوباوية لعالم مثالي، عالم يسوده الإيمان ويقوم على شريعة الرب، عالم سلام نهائي ينعم فيه الجميع بعيشة كريمة وسلام وإزدهار، لا مكان فيه للظلم والإضطهاد والحروب. إنها رؤيا ترددت في ثقافة الشرق الاوسط القديم: من ملوك أكاد وآشور وبابل الى ملوك مصر. وهي نفس الرؤيا التي طرحها كتبة الكتاب المقدس، خاصة في قصة (سليمان= السلام) ومملكته المزدهرة. لا يمكننا فصل نزول (الحمامة البيضاء) على يسوع عن إشتقاق إسم (سليمان) مجازياً، ففي كلا الحالتين نحن أمام (الحضور الإلهي عاكس الحالة).. نحن أمام (مملكة الرب الطوباوية) التي ينادي بها لاهوت الشرق القديم.

سيرى التلاميذ أعمال المسيح الخارقة ويؤمنون به، ولكن الى أي مدى؟. كان السيد المسيح قد قال بـ(هدم الهيكل وإقامته في 3 أيام)، ولم يفهم أحد المجاز، فقد ظن الشعب أنه ينوي (هدم المعبد). إنها إحدى التهم التي ستوجه إليه في المحاكمة. وفهم التلاميذ لاحقاً أن المسيح كان يتكلم عن (هيكل جسده) أي أنه سيموت وسيُبعث بعد 3 أيام. وفي العشاء الأخير، في عيد الفصح، إجتمع بتلاميذه الإثني عشر، وأخبرهم أن بينهم من سيخونه ويسلمه، وكان هذا التلميذ (يهودا الاسخريوطي) الذي باع المسيح مقابل 30 قطعة من الفضة. إنه تعبير مجازي عن مدى حالة فساد الشعب إجتماعياً وروحياً. ثم يكسر المسيح الخبز ويعطي التلاميذ ليأكلوا (جسده)، ثم يأخذ كأس (نتاج الكرمة) ويعطيه للتلاميذ ليشربوا (دمه) الذي للعهد الجديد، ويعلن لهم إنه لن يشرب من (نتاج الكرمة) هذه حتى يأتي اليوم الذي يشربه معهم في ملكوت الرب. إن مشاهد الخبز والكرمة (الخمر) في أدب الشرق القديم والكتاب المقدس ترمز الى العطاء والحياة والإزدهار والفرح بغلال جديدة، إنها ثقافة شرق المتوسط الزراعية. لن يشرب المسيح من هذه الخمر، لأنه سيشرب (كأس معاناته)، ولكنه سيشرب خمر (الحصاد الجديد= الحياة الجديدة) التي ستنفي سابقتها لأن الحياة الجديدة ستأتي حين يمشي الشعب في طريق الرب ويعمل بشريعته. إن مشهد المأدبة والخمر هنا هو صدى لنفس المشهد عند إشعيا حيث (يقيم الرب القدير مأدبة مُسمنات لجميع الشعوب، مأدبة خمر صافية معتقة، مأدبة لحوم.. ويمسح الرب الدموع المنهمرة على الوجوه). إنه مشهد يعبر عن التوق لمملكة الرب الطوباوية. إن شرب (الخمر= الدم) هو بمثابة (العهد والميثاق) الجديد، الذي يجب على التلاميذ المحافظة عليه. هذا المشهد يررد صدى صعود موسى الى جبل حوريب بصحبة هارون وناداب وأبيهو وسبعين من شيوخ أسرائيل، حيث تقدم موسى وحده لتلقي الشريعة، ثم نزلوا وبنى موسى مذبحاً للرب، وذبح الشعب ذبائح سلامة للرب، فأخذ موسى دم الذبائح وقام برش نصف الدم على المذبح والنصف الثاني على بني إسرائيل وقال: (هو ذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم)، ثم صعدوا مرة أخرى (فرأوا الرب وأكلوا وشربوا).

بعد العشاء يفصح المسيح لتلاميذه أنهم سيشكّون به كلهم، ويستعمل هنا جملة من سفر زكريا: (سأضرب الراعي فتتشتت خراف القطيع)، ولكن التلميذ بطرس ردّ أنه (لو شكّ فيك الجميع فأنا لن أشك)، فقال له المسيح: (إنك في هذه الليلة، قبل أن يصيح الديك، تكون قد أنكرتني 3 مرات). ثم يذهب المسيح الى جبل الزيتون ومعه التلاميذ بطرس وابنيْ زبدي، يعقوب ويوحنا، ليصلي. إنه نفس مشهد صعود موسى وهارون وناداب وأبيهو لجبل حوريب، حيث يتقدم موسى للدخول في (الضباب) ويغيب أربعين يوما وليلة. أما يسوع فيتقدم الى الصلاة، بينما ينام التلاميذ الثلاثة. ويطلب يسوع في صلاته من الرب أن يَعبُر عنه هذه الكأس (ولكن لا كما أريد أنا بل كما تريد أنت)، ثم يكرر نفس الصلاة مرتين إضافيتين. إن المشهد هنا يذكرنا بمشهد صعود ابرام الى جبل موريا(= الرعب) ليقدم ابنه ذبيحة للرب. إن المسيح كأبرام يعمل (ما يحلو في عيني الرب) وليس (ما يحلو في عينيه هو). لاحقاً سيأتي يهودا الاسخريوطي ومعه جمع غفير من الشعب محملا بالسيوف والعصي، وقد ارسلهم رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، لاعتقال المسيح. فقبّل يهودا المسيح، وهي الإشارة الى أنه هو الشخص المعني، فالقوا القبض على يسوع. إن هذا المشهد يبدو هزيلاً إذا فُهم بطريقة مباشرة خارج القراءة المجازية، فلم يكن الشعب بحاجة ليهوذا الاسخريوطي ليدلهم على المسيح، فهو معروف لهم وقد شاع صيته من الصفحات الأولى للأناجيل!. إن ما يريد الكتّاب إخبارنا به أن المسيح (=الحضور الإلهي) سيرفضه حتى أقرب المقربين منه، وها هو يهودا يفتتح المسلسل.

اجتمع رؤساء الشعب والكهنة والشيوخ، برئاسة قيافا، لمحاكمة المسيح، فواجهوه بتهمة تهديده بـ(هدم هيكل الله)، ثم سألوه إن كان هو (المسيح ابن الله)؟، فأجاب المسيح: (إنكم سترون ابن الانسان جالساً على يمين قدرة الله ثم آتياً على سحب السماء)، فقالوا (هل أنت اذن إبن الله)، فقال المسيح: (أنتم قلتم، أنا هو). وهنا تعتبر المحكمة ان يسوع قد جدف ويستحق عقوبة الموت.

هنا ربما يوجد إيحاء وتورية في المحاكمة، فمقولة (المسيح ابن الله) تملأ العهد القديم كلقب لملك إسرائيل الذي يحكم حسب شريعة الرب، فداود (وكل سلالته) كان ابن الرب والرب كان أباه، وآدم كان إبن الله، وشعب إسرائيل كان ابن الله. وهذا من المفترض أن يكون معروفاً لرؤساء الشعب والكتبة، وبالتالي ليس من المفترض أن يُعتبر تجديفاً. إني أرى تورية هنا، وكأن كتّاب الأناجيل يريدون إخبارنا أن المسيح لم يجدف وإنما رؤساء الشعب والكتبة لا يعرفون كتابهم. إن المحاكمة بهذا المنظور يجب فهمها بالعكس، أي أن المسيح هو من يحاكم ويُعرّي الرؤساء والكتبة ويفضح نفاقهم، كما فعل سابقاً في مشاهد أخرى. إنه تعبير مجازي عن الحالة الدينية المُزرية التي وصل اليها (الشعب الذي يتصارع مع ربه).

وفي تلك الأثناء كان بطرس جالساً في الدار التي تعقد فيها المحاكمة، فتقدمت منه خادمة وقالت انت كنت مع يسوع الجليلي، فأنكر بطرس، ثم خرج الى مدخل الدار فعرفته خادمة ثانية فأنكر بطرس مرة ثانية وأقسم، ثم تقدم منه الواقفون هناك وقالوا بل أنت واحد منهم، فقال بطرس أنه لا يعرف المسيح، وفي الحال صاح الديك. إن اختيار بطرس لإنكار المسيح 3 مرات تعبير عن إنكار كل التلاميذ للمسيح، فبطرس هو أول التلاميذ الذين اختارهم المسيح، وكان إسمه (سمعان) ولكن المسيح سمّاه بطرس (=الصخر باللغة اليونانية وصفا بالآرامية) وما يحمله هذا الاسم من دلالات، علاوة على أن بطرس كان الناطق باسم التلاميذ. ورغم (عهد الدم) الذي تم بين المسيح وبينهم فقد أنكروه، لقد نقضوا العهد. إنه صدى لمشهد نقض (الشعب الذي يتصارع مع ربه) لعهد الدم الذي عقده موسى بين الرب وبين الشعب.

لقد رفض المقربون من المسيح الحضور الإلهي، فماذا سيكون رأي (الشعب الذي يتصارع مع ربه)؟. ستبدأ الآن محاكمة المسيح أمام بيلاطس الحاكم، فسأل بيلاطس الشعب: (اتريدون أن أطلق باراباس أم يسوع الذي يدعى المسيح)، فأجاب الشعب: (باراباس)، فسأل بيلاطس: (فماذا أفعل بالمسيح؟)، فأجاب الشعب: (فليصلب). فأخذ بيلاطس ماءً وغسل يديه وقال: (أنا بريء من دم هذا البار). لقد رفض (الشعب الذي يتصارع مع ربه) الحضور الإلهي الذي حلّ بينهم. إنه شعب عاصي وخطّاء. إنها نفس الثيمة التي تجتاح الكتاب المقدس كله. إن محاكمة المسيح عبارة عن قصة مجازية تعبر عن رفض الشعب للمشي في (طريق الرب).. حتى لو حضر ملكوت الرب وسار بينهم فسيرفضوه. إن غسل بيلاطس يديه بالماء تعبير عن عدم تورط روما برفض (الحضور الإلهي)، فروما غير معنية بعلاقة (الشعب الذي يتصارع مع ربه) بالله، وروما غير معنية بالعهد والشريعة. لم يقتل (اليهود) السيد المسيح كما فهمت الكنيسة لاحقاً، لم يكن هناك (مسيحية) مقابل (يهودية) في ذلك الوقت. لقد رفض (الشعب الذي يتصارع مع ربه) الحضور الإلهي.. رفض الإيمان والعهد والشريعة ولم يعمل بها، فسيحل عليه غضب الرب.

وعلى الصليب، وفي عز الظهر وقد حل ظلام على الارض، صرخ المسيح بصوت عال: (إلهي إلهي لماذا تركتني؟)، هذه الصرخة التي ستجوب الأزمنة والأمكنة سيبقى صداها يتردد ما بقيت البشرية. إنها الصرخة-السؤال الذي تركه كتّاب الأناجيل بدون جواب، فالجواب معلوم للجميع: لقد تركه الله لأن الشعب رفض الحضور الإلهي. إنها ليست صرخة المسيح، بل هي صرخة (الشعب الذي يتصارع مع ربه) التي سيطلقها حين ينزل عليه (سيف روما) لتدمير المعبد، وقتها لن يجد الشعب من نصير له سوى الله، ولكن بعد فوات الأوان. فبعد الصرخة مباشرة يخبرنا كتّاب الأناجيل أن (ستار الهيكل) قد انشق شطرين من الأعلى الى الأسفل وزلزلت الأرض. إنه تعبير مجازي عن تدمير الهيكل على يد تيطس الروماني. والآن وقد تحقق غضب الرب ودُمّر المعبد بسيف روما، يعود الرب ليغفر ويسامح، وإن رفض الشعب الحضور الإلهي (= صلب السيد المسيح) فإن الله حي لا يموت، وسيبقى الحضور الإلهي قائماً في هذا الكون (= قيام السيد المسيح). إن المنطق الداخلي لمنظومة المجازات والرموز في لاهوت العهد الجديد يقتضي صلب المسيح وقيامه. إنه (مسيح الإيمان) هذا الذي عاش في قلوب البلايين من البشر على مدى ألفي عام، وسيبقى.. وهل بالتاريخ وحده يحيا الإنسان؟ أم بإيمانه المطلق بالله؟. فيا أيها الناس (أعدّوا طريق الرب وجعلوا سبُلَه مستقيمة).

ما الكتاب المقدس إن لم يكن تاريخاً؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى