الجمعة ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم إبراهيم مشارة

طيور الشمال

ارتفع صوت المقرئ عبد الباسط عبد الصمد مجودا سورا من القرآن الكريم، صوت عذب شجي يأخذ بشغاف القلب ويأسر الروح فتهتز النفوس رغبة خالصة في النجاة ، وكان من عادة القيمين على ذلك المسجد المشرف على البلدة مسجد أبي حيدوس أن يسمعوا أهل البلدة تجويد القرآن من الأصيل حتى قبيل الأذان ، وقد قرفص بعض شيوخ البلدة بقنادرهم البيضاء يتبادلون أطراف الحديث ، يتسلون عن الجوع والعطش وعن السعوط التي حال الصيام بينها وبينهم كما حال الموت بين آدم وبين البقاء وغط بعضهم في نوم عميق ، و تسمع أحدهم يقول :
 غلبني اليوم تناوب علي العطش والجوع الشديد وكية الشمة (السعوط) خاصمت أهل الدار وصحت في وجه العجوز ، كسرت الأواني و خرجت !

فيعلق أحدهم :

 سي محمد غلبه رمضان

على أن هذا الشيخ كان إذا غضب لم يضبط لسانه يهيج ويثور ويخوض في سباب عجيب يستعذبه الجميع ويقهقهون له طويلا ، وربما جروه إليه جرا حتى يسمعوا سبابه هذا !

و سي عبد الباقي واقف أمام إناء كبير يبيع الزلابية كدأبه بحركته الثقيلة وصوته الخفيض ، يجلبها من المدينة كل صباح حتى إذا أشرفت الشمس على المغيب لم تبق منها حبة واحدة و ربما باع بعضا منها على الحساب ، وهذا لص من لصوص الحقول يتوب في رمضان و يعود إلى السرقة بعده ،يقسم بأغلظ الأيمان أنه صائم ويقسم غيره أنه رآه يحشو فمه سعوطا ويأكل في "رأس الكاف" و هو منبع ماء خفي يقع على طرف الحقول و يقول آخر عابثا :

صائم على ضرسة (ضرس) وفاطر على خمسة ! و يضحك الجميع لذلك.

و لكن لابأس أن يتظاهر بالتعب والعطش وأن يبدي شيئا من النرفزة وهو يبيع حلوى قلب اللوز ويعلق على أحدهم قد اختار حبة حلوى :
 هذه محجوزة و تلك أيضا لم يبق غير هذا الصف

حركة دؤوب لا نظير لها إلا في هذا الشهر ، ترى البشر في الوجوه رغم أتعاب الصيام والفرح يغمر القلوب وقد اقترب موعد آذان المغرب وانتشرت في الأجواء رائحة "الشربة" و هذا عمي المدني قد جلب شيئا من التين من حقله يوزع بعضه على بعض الشيوخ وذاك آخر خف إلى العين يملأ قربة الماء ، وآخر للوضوء استعداد للصلاة والصبية يمرحون ينتظرون الآذان حتى إذا سمعوه خفوا إلى بيوتهم يزدردون طعاما شهيا لم يتهيأ لهم إلا في رمضان ويخرجون بعد الإفطار يعدد بعضهم ألوان الطعام التي أصاب منها في شيء من المبالغة و الكذب الحلو !
على أن بين تلك الجموع المقرفصة شبح يسير في تؤدة ، مطرقا أكثر الأحيان ، صموتا كدأبه ، كأنه في بحران عظيم، انسل إلى بيته وسط تلك الجموع ، شاب نحيف على عتبة الثلاثين لف جسمه في سترة زرقاء شاحبة ، لم يحلق ذقنه منذ أيام ، غير أنه إذا تكلم تبينت على الفور أن الفتى غريب بين أهله وفي لسانه بقية من عجمة ولثغة ، وربما استغرقت في الضحك ،يسمى لك شيئا باسم شىء آخر أو يذكر ما هو مؤنث ، يسمع الآذان فلا يفقه له شيئا و يرى القوم يخفون إلى الصلاة فلا يفهم ما يصنعون وتحل على البلدة مناسبات دينية ووطنية فلا يعرف لها معنى ، أما لغته الفرنسية فيتكلمها كأنه واحد من أبنائها ويدفعه البعض إلى الكلام باللسان الفرنسي حتى يستشعروا لذة لذلك وهم لا يفهمون عنه شيئا !
عاش زروق شيكوش طفولته وشبابه في فرنسا بين أهله وتهيأت له موهبة أهل الفن والابتكار، في تفكيره افتنان واختلاق وقدرة عجيبة على ايجاد الحلول لعويص المشكلات، يرسم رسوما رائعة تنم عن دراية بالفن وينحت الأشكال بديعة ، لولا أنه في فرنسا خالط عصبة من رفقة السوء وأفادهم هو بما تهيأ في رأسه من مكر وفي يده من فن ، شرب المسكرات و أتى شيئا من الشقاوة، ولم يستطع أهله منعه من مباشرة أعمال السوء فأمعن في انحرافه ، وخطط لسرقة بنك كما يروى ، فسجن ثم أعيد إلى بلده الأصلي تفاديا لخطورته الناجمة عن استغلال ذكائه و مهارته الفنية في السوء.
عاد الفتى إلى البلدة مسلولا في صدره رطوبة السجن وفي خلاياه بقايا من الكحول والأفيون ، اكترى بيتا هو غرفة واحدة وكانت أشبه بالكهف جدرانها حجارة سوداء وسقفها العربي يكاد يقع على من فيه وزواياها لا تخلوا من نسيج العنكبوت وأرضيتها من الطين ،مظلمة لأنها بلا نافذة و قد هرم خشب الباب وامتلأ شقوقا و ثقوبا وكان يحلو للبعض متابعة الفتى وما يقوم به من تلك الثقوب ! ومفتاح البيت كبير وثقيل وقد تأذى طويلا من حمله . كان ذلك الكهف هو بيته تناثرت على أرضيته بعض لوازمه، موقد و بعض أواني و فراشه و دق في الحائط بعض مسامير كأنها مشجب علق بها مرآة و ثيابه القديمة ، و أحبها إليه سترته الزرقاء الشاحبة ، لا يختلط بأحد إلا لماما و للضرورة ،مطرقا كدأبه ، لم يجد بيتا يأويه ولا هو كان يقبل به إن وجده .
كان غريبا بين أهله لا يستشعر فرحهم ولا يشاركهم أحلامهم ولا يفقه معنى لعاداتهم وطرائق حياتهم حتى لسانه اعوج ،لا يقبل طعاما من أحد ، إلا سجائر إن افتقدها وافتقد النقود لشرائها ، يفتح باب بيته ويشرف على الفتيان المجتمعين أمامه ، يسأل أحدهم سيجارة ، فيجدها البعض فرصة سانحة للحديث معه مستغلا حاجته إلى السجائر فيبادره أحدهم :

 زروق فرنسا جميلة

فيرد :

 هي كذلك بلد فن وعلم وحرية ، الانسان فيها محترم والقوانين تصون كرامته و تعزز حريته .

و يسأله آخر :

 و لماذا عدت ؟:

فيرد في اقتضاب متحرجا :

 قضيت حكما بالسجن و أبعدت إلى البلد ويتفادى التفاصيل

 و كيف تجد الحياة بيننا؟ :

 أنتم طيبون والبلد آمن طيب، ناسه أهلي و أديمه موطني الأصلي ، لكني نشأت هناك ، روحي وعقلي ووجداني وراء البحر ، أنا نبتة مزروعة في غير أرضها ، وفلذة غريبة عن هذا الجسد !

يقول ذلك ويأخذ سجائر ثم يغلق عليه باب بيته وربما استمع إلى حديث لم يفقه فيه شيئا وقهقه الجميع وسكت هو.
ولايخلو رمضان من بعض المزاح والضحك مما يأتيه زروق فالفلفل يقلى والطعام يطهى في رائعة النهار، و يعلق أحد العابثين :

 حضرته زروق يفطر على آذان الظهر !

أما شيوخ البلدة فيتحاشونه، وقع في روعهم أنه ظال ميؤوس من صلاحه ومن تدينه ، وأما فتيان البلدة فيعبثون به أو معه ، ومن الناس من يستغله ، يرسم لهم ما يطلبون أو يصنع لهم قوالب وأشكال ، أو يكتب لهم لافتات بخطه الجميل يضعونها على حوانيتهم لقاء دريهمات معدودة لا تشبعه من جوع ولا تتيح له الإنفاق على نفسه فيما يحتاج إليه.
و ربما اشتد به الحنين إلى أهله وأصحابه وإلى ذلك البلد الذي نشأ به، فكان يشرف على العين العمومية مطرقا متأملا و يستدير نحو الشمال وفي الأجواء طيور تحلق ناحيته ، إذا رأتيه أدركت فيما يفكر فيه ، إنه يتمنى لو أعاره طائر جناحيه يطير بهما إلى ذلك البلد ولو كان يعرف قول الشاعر لتمثل به :

بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي

فقلـــت و مثلي بالبكاء جديـــــــــــر

أسرب القطا هل من يعيرجناحــه

لعـــلي إلى من قد هويت أطـــــــــير؟

أكثر من التدخين وربما حشا السيجارة بشىء بني ، ازداد نحولا وتمكن منه الداء العياء ، تعضده عفونة البيت ورطوبته ،ثقلت عليه الحركة حتى كادت تستعصي عليه ، وألحت عليه الصفرة والنزيف والسعال ، والأرض تدور متنها كمتن جواد جامح حرن ، يلقي بالكثيرين إلى ضفاف الموت من الذين ضاق بهم ذلك المتن، وقد أشرف عليه الفتى ، و تهيأ له بالمكوث في فراشه وبالإكثار من السعال و النزف ، دافعا بعض الوحشة بالاستماع إلى الراديو لا يستجدي أحدا، يحضر إليه بعض الفتيان شيئا من الطعام أو الدواء و يسألون عن صحته مغتنمين الفرصة في تأمل زوايا الغرفة أو بعض رسومه ومهاراته اليدوية ، و يخرجون مسلمين إياه إلى الوحدة ومقاساة تباريح الداء ، حتى أفاق أهل البلدة على خير موته صباح أحد الأيام ، وقد علق بعضهم حين سمع بالخبر :
 رحمة الله عليه جاء وحيدا وعاش وحيدا وقضى كذلك ولا يجلس بعض رجال البلدة اليوم وقد كانوا يومها فتيانا إلا تذكروا الفتى ومفتاح بيته الكبير في يده ، وسترته الزرقاء الشاحبة وتذكروا بعضا من نوادره حين يفطر على آذان الظهر !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى