الثلاثاء ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم ميلود بنباقي

عاجل

أقتعد صخرة يتيمة وأرنو متعبا للعشب النامي فوق قبرها العريان... أقول لها: " ما مت يا حنة وما قرب الموت ناحيتك! "

أسمع عظامها النخرة تطقطق معاتبة. أخجل من نفسي ومن وقاحتي الفجة. أمسح غبشا حط فوق جفوني المتورمة، وأكاد من فرط الشوق، أراها... تهش بيديها النحيفتين على نمل جسور يعبث بخصلاتها الحمراء ودود يخرج من الأرض الجافة بغير حساب. تقول لي: مت يا وليدي من زمان، وانتهى خبري.

أضع يدين مرتجفتين على شفتي وأسألها: وهاذي الحشائش؟ وهذا النوار؟ كركاز وكرطوفة وشيح
وخضير جمال وذيل الخروف...؟ هذا يطلع من الموت أو من الحياة؟ في هذا العام سقط مطر كثير يا حنة، ونبت عشب كثير والموت من الناس ابتعد قدر ما تبتعد السماء عن الأرض.

تشيح بوجهها. أنا مت. أكلني النمل والدود وغطاني التراب. أنت تعرف ذلك والناس كلهم يعرفون. لكن يا عفريت لا تراوغني. قل لي هل وفيت بوعدك أم لا؟
أي وعد يا حنة؟ أي وعد؟ وعودي كثيرة وما وفيت إلا بالقليل منها. ذكريني يا حنة. نسيت. أي وعد؟

تشيح بوجهها. أنا كبرتكم وتعبت وشقيت من أجلكم. ذقت الحلو والمر وسهرت الليل. شفت وسمعت ورحلت من بلاد لبلاد وتهجرت. وكان الموت يقرب مني ثم يفزع ويخاف. يطير وما يمس مني شعرة. كنت قوية مثل الرجال وأكثر من بعض الرجال. لكني كبرت وعييت ونخرني المرض. غلبني الموت القهار وأخذني معه في عام لم يمت فيه أحد سواي. هذا هو موت الرجال. ما ندمت وما تأسفت لحالي ومآلي. بنيت لكم ولعمك عمران دارا وحيطانا... بالطوب والطين وعرقي. وقلت لك يا مجيد، يا ابني، الله يرضى عليك, لما تنهي دراستك وتتوظف, ويصير لك مرتب في آخر الشهر وعطلة في بداية العام ونهاية العام. وتصير من المخزن. تلبس المكوي والنظيف وتلمع حذاءك وتمشط شعرك مرة من اليمين لليسار، ومرة من اليسار لليمين. ومرة تتعب وتمل من اليمين ومن اليسار وتمشطه للوراء... قلت لك يا مجيد لما تسترخي على الكرسي وترخي بطنك وتدليها وتنفخها وتغير ملحك وخبزك وطعامك... لما تغير وجهك إذا ما عجبك وجهك وتبدل جلدك إذا لفحت الشمس جلدك... ابن لإخوانك ولعمك عمران دارا غير هذه الدار. ابنها بالحجر والحديد والإسمنت. واجعلها عالية في السماء حتى ما يعلو عليها في القرية كلها غير صومعة الجامع. ابن دارا فيها سطح وحوش وأدراج وزليج يلمع مثل الذهب. ما فيها تراب ولا قش. ما تقطر في المطر وما تدخلها ريح. وما يخاف أحد تسقط عليه في العواصف والرعود.

ابتسمت لي يا مجيد وقلت آمين. فقط ادعي لي يا حنة، أتوظف وأصير من المخزن وأبني الداروأعليها على ديار الجيران. أطليها وأزينها. تعجبك وتعجب الناظرين. احتضنتك يا مجيد ومسدت شعرات رأسك وفليتها. قصعت الصيبان والقمل ودعيت. دعيت لك يا مجيد.

أشيح بوجهي. يا حنة، خطفك الموت من زمان ونهش النمل والدود عظامك، وما نسيت هذا الوعد؟ يا حنة أنت قلت، وأبي قال، والناس كلهم يقولون: الدار قبر الدنيا.

يا حنة، أبني قبرا وأدفن فيه أهلي وناسي؟

تشيح بوجهها. وقبري أنا يروقك؟

يروقني يا حنة.

تزورني فيه؟

أزورك فيه. غلي الماء واعصري الشاي في الإبريق الصغير، وأنا أزورك.

أشيح بوجهي وأنهض. أزورها في قبرها؟ تطقطق علي عظامها وأتمدد كالميت؟ أحسست بأسناني تصطك وبركبتي ترتجفان فزعا. رأيت القبور تفتح أفواهها ورأيتني أركض مثل الأرنب المفزوع. أتعثر في خوفي وأسقط. أتمرغ في التراب. أنهض وأركض. تفتح القبور أفواهها وتتبعني.

أرى أمي تغلي الماء. تعصر الشاي في إبريق صغير لا يلمسه أحد سواها. أتذكر موعدي. أقف مفزوعا. أمسح مؤخرتي بيدي. أمسح حبات التراب وأعواد التبن على رأسي. أرفع بصري إلى سقف الغرفة. الأرضة تأكل أخشاب الأكالبتوس وتنخر القصب. مياه الأمطار القديمة رسمت خطوطا على الجدران وحفرت عليها أخاديد، وعرت وعدي القديم وجلت كذبي.

أرى أمي تغلي الماء وتعصر الشاي كأنه القهوة. أتذكر موعدي مع جدتي. أركض مثل الأرنب المفزوع. أجثو على الصخرة وأتملى العشب النامي فوق القبر. أقول لها: يا حنة, ما غليت الماء ولا عصرت الشاي.

تشيح بوجهها. و أنت ما وفيت بوعدك وما بنيت لإخوانك وعمك عمران دار الإسمنت. صرت من المخزن تلبس النظيف وتسترخي وصار لك مرتب وما وفيت بوعدك!

أشيح بوجهي. سأوفي يا حنة، سأوفي. فقط اغلي الماء واعصري الشاي. ابتسمت وفتحت لي قبرها. التفت إلى القرية خلفي. رأيتها بعيدة وصغيرة. صعدت دمعتان إلى عيني. مسحتهما على عجل قبل أن تفضحاني. أحنيت رأسي وانزلقت داخل القبر. قامت جدتي وأغلقت فتحته. تمددت جنبها. شربت الشاي. قعدت تفلي رأسي. تفجر الصيبان والقمل بأظافرها الطويلة. طربت لصوت الانفجارات المتتالية. رأيت الدخان يصعد. يلف ويدور ويخنقني. رأيت سيارات الجيش والشرطة والإسعاف والمطافئ تولول وتركض مثل الأرنب المفزوع. رأيت الشريط الأحمر يأخذ مكانه على شاشة التلفزيون. قرأت فوقه خبرا عاجلا. أغمضت عيني. لم أفتحهما أبدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى