الخميس ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم كمال الرياحي

المرأة والقصّ.. ا

لثورة على تاريخ الصمت ..

يرى بعض النقاد أن الأدب العربي ما يزال، منذ الشعر الجاهلي إلى اليوم، يبخس حقّ المرأة ويختزل حضورها في حضور جسدها حضوراً إيروتيكيّاً، فيقرن ظهوره بالليالي الحمراء وغرف النوم والحفلات الماجنة واللحظات الساخنة ودور الدعارة وبائعات الهوى، من دون أن يكون لذلك الحضور أي توظيف رمزيّ أو دلالي، بل هو في الغالب حضور ساذج غايته مخاطبة غرائز القارئ وإطعام هواه الجائع أبدا...
وقد انتقلت هذه النظرة الدونية للمرأة من المعيش إلى الأدب من خلال وظيفة الأدب بوصفه مرآة عاكسة في كثير من الأوقات للحالات والأفكار..
وقد انتبه إلى ذلك أبو القاسم الشابي في كتابه النقدي الخيال الشعري عند العرب حين خصّص لصورة المرأة في الأدب العربي فصلا كاملا أكّد فيه أن نظرة الأدب العربي إلى المرأة نظرة دنيئة سافلة منحطّة إلى أقصى قرار من المادّة، لا تفهم من المرأة إلاّ أنها جسد يشتهى ومتعة من متع العيش الدنيء... .

ولم تكن هذه النظرة حبيسة الشعر فقط، بل هي ظاهرة مبثوثة في كلّ أجناس الكتابة الإبداعية العربية، ومثلما ثار الشعر الرومانسي على هذه النظرة وعارضها بأخرى ترفع من قدر المرأة من حضيض الرؤية إلى سماء الرؤيا، ثارت بعض الخطابات الرّوائية العربية على عاداتها في نقل صورة المرأة لتربك أفق انتظارات متلقّيها بصورة جديدة لامرأة جديدة علامتها الأولى أنها أكثر من أنثى، وحرّرت هذه الكتابات التنويرية - إن جاز لنا التعبير - المرأةَ من سجن جسدها المستباح وأخرجتها - من خلال فعل أدبي فاتح - من هذه الصورة لتعيد لها صورتها ووظائفها المسلوبة، فتتحسّس المرأة نفسها -بعد قرون من القهر - كائنا عاقلا وفاعلا استُعبد طويلا بتهمة جمال الجسد ورقّة الشعور.
ولكن هل تخلّصت المرأة فعلا، من أداء هذا الدور: دور الجارية وفسحة اللذّة الذكورية في المجتمع الشرقي؟.
ظلّت مجتمعاتنا تأكل نساءها بنهم في مآدب ترتّب في الخفاء/ في الظلام/ في الصمت، إلى أن كان الحدث العظيم الذي هزّ مملكة الرجال وفضح أسرارهم..

إنّ الحدث العظيم الذي أطاح بمملكة الذكر وأقام الحدود لمملكته اللامتناهية في الكبر وحدّد جغرافية سلطانه..لم يكن، كما يعتقد بعضهم، في خروج المرأة للعمل، لأنها كانت تعمل خارج البيت منذ قرون حتى في الجماعات البشرية الأكثر بدائية، في مجاهل إفريقيا السوداء وفي القطبين وفي أرياف العرب وقرى الهند... إنّ الأمر الذي هزّ الكرسي الذكوري هزّا من تحت الرجل هو دخول المرأة إلى عالم الكتابة، وبالتحديد عالم القصّ. وعالم القصّ هو عالم الإفصاح وعالم الكلام الحرّ وعالم التفاصيل الصغيرة وعالم الأسرار خلافا للشعر الذي هو عالم الانزياح والتكثيف والرمز..
من أجل ذلك حورب لسان المرأة القاصّة وقلمها وطورد بألف مقصّ. ربّما لأنّ اللسان والقلم ارتبطا تاريخياً ودينياً بالرجل؛ بينما ارتبطت المرأة بالصمت وبالخفاء..

التجأت المرأة إلى الأسماء المستعارة لإخفاء فعلتها/ الكتابة، والتي عُدَّت خطيئة و عيباً ، واختارت أخريات أن يكتبن بإيقاع ذكوري استجابة لسلطان الرقيب الذكوري وشرهه، فكانت المرأة منهن كما لو كانت تستعير قلم الرّجل وهي تكتب قصصها ورواياتها، فتروي بنفَس شهرزادي ما كان يحبّ سماعه شهريار سيّدها ومالكها وواهب حياتها/ الرجل..

ولكن من بين الكاتبات من آمنت بقضيّتها ودفعت مقابل ذلك من راحتها، فهوجمت بألف لسان..
وتختلف حدّة الرفض لما تكتبه المرأة ولقلمها الهارب من أسيجة الفحولة العالية، من بلد عربي إلى آخر، انطلاقا من خصوصية كل بلد.. فما هو محرّم في مكان ما ليس كذلك في مكان آخر، وما هو مقدّس في مجتمع ما ليس كذلك في مجتمع آخر..

فتطول قائمة التحريم وتقصر حسب التقسيم الجغرافي من ناحية، والتقسيم الطبقي والثقافي من ناحية أخرى. فلكلّ طبقة مقدّساتها ومحرّماتها، حتّى إننا لو درسنا الظاهرة بعمق لوجدنا ما يمكن تسميته أخلاق الطبقات أو الأخلاق الطبقية ، وهي أخلاق مرنة/ مائعة وغير ثابتة..
إنّ المجتمع الواحد قد يمرّ بمراحل كثيرة، فيقرأ العمل الأدبي الواحد فيه بأكثر من رؤية، ونمثّل لذلك برواية مدام بوفاري التي حوكم من أجلها فلوبير أثناء ظهورها الأوّل وعُدَّت مفسدة للأخلاق. وبقراءة عرضية لما يُكتب اليوم في فرنسا الجديدة من نصوص غاية في الجرأة تنقلب مدام بوفاري إلى سيدة متديّنة، وكاتبها إلى راهب خارج للتو من ديره..

وقد أثبتت الكاتبة العربية اليوم، وبعد أن امتلكت ناصية القلم، أنها قادرة على أن تكون أكثر جرأة من الكاتب العربي/ الرجل في معالجتها لقضايا الهامش وعوالم العتمة والصمت، فظهرت في مشهدنا الروائي العربي أسماء وتجارب نسائية أصبحت تمثّل علامات فارقة في كتابة المقموع والمسكوت عنه، مثل: غادة السمان وحنان الشيخ وسلوى بكر وسميحة خريس ورجاء العالم وعروسية نالوتي ومسعودة أبو بكر وأحلام مستغانمي وفضيلة الفاروق ونعمة خالد وميرال طحاوي وليلى الأطرش وهدى بركات وآسيا جبّار....

لثورة على تاريخ الصمت ..

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى