الخميس ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم ميسون أسدي

قضية ضِد مَعلوم

"لن تستيقظ أبدًا من غيبوبتها.. الأمل في نجاتها يساوي صفرا.. إصاباتها بالغة جدا.. فحتى لو نجت من الموت ستعيش طوال حياتها مع ضرر في دماغها... لكن من يدري، ربما تحدث معجزة! صلـّوا لها"...

هذا ما سمعته وأنا في شبه إغماءة- تساءلت في نفسي: مَنْ صاحب الصوت؟.. مع من يتكلم؟ وفجأة سمعت صوتا أعرفه جيدا، إنها أختي "صبحيه"، بدت ساخطة وهي تقول: سأستشير أحسن الأطباء المختصين، لا تخافي يا "نايفة"، اتصلت بطبيب عربي متخصص يعيش في ألمانيا..

إنها تكلمني أنا "نايفة".. حاولت أن أبصرها، فلم أتمكن من تحديد ملامحها، لكنني شاهدت هيكلها وتأكدت أنها أختي.. وعادت تقول: لن ادع القدر يأخُذكِ منا، سأجلب لكِ أمهر الأخصائيين العالميين، سأبذل من أجلك الغالي والنفيس، المهم أن تبقي على قيد الحياة..

"الآن يا أختي الحبيبة "صبحيه" تذكرتني؟ كان يجب عليك أن تقفي إلى جانبي منذ زمن بعيد، فأنت بالنسبة لي كنت القدوة وما زلتِ، لقد سرتُ على دربك طوال الوقت، كنت أحاول أن أتشبه بك في كل شيء، لم تقولي لي أين الخطأ وأين الصواب، كان عليك أن تحذريني، كنت سأتقبل كل ما تملينه عليّ.. لماذا لم يحصل لك ما حصل معي؟ أعرف أن أبي وقف إلى جانبك ودرأ عنك الخطر، لكنه معذور، فنحن ست أخوات، وكم يستطيع أن يحمي ليحمي"..

مسكينة أختي، تعاني وكأنها هي المصابة، لا تتركني أمارس غفوتي الطويلة، نادتني بصوت حنون وهزتني: "نايفة" هل تسمعينني يا أختي؟ إذا كنت تسمعينني أعطيني إشارة، اضغطي على يدي، المسيني ولو لمسة خفيفة؟

حاولت أن ألبي طلبها، لكن أطرافي لم تطاوعني، كنت فاقدة الإحساس في كل جسمي.. شعرت أن جميع أعضائي مشلولة.. أنا فقط اسمع ولا أكاد أرى..
واصلت أختي حديثها: أنا بقربك، لن أذهب إلى أي مكان، لا تخافي، لست وحيدة، أريدك أن تُصلـّي معي.. أرجوك رددي من بعدي في قلبك: يا رب، ساعدني ونجني من هذه الضربة.. يا رب، حقق إحدى معجزاتك ودعني أقف على رجليّ وادخل البهجة إلى قلب أحبائي كما فعلت سابقا- لم أستطع أن أعطيها أشارة بأنني أسمعها، لكني رددت كل ما قالته في عقلي..

استوعبت الآن حقيقة ما جرى لي.. أنا في المستشفى ولا أدرى كم مضى من الوقت وأنا في شبه غيبوبة وتذكرت ما حدث لي قبل أن افقد الوعي.....

"كنت مستلقية على السرير في بيتنا الكائن في حي معظم سكانه من العمال الذين جاؤوا لهذه المدينة الصناعية، سعيا وراء الرزق ووالدي واحد منهم.. تصفحت جريدة محلية، حين كانت أمي تحيك لأختي شالاً، وبين اللحظة والأخرى كانت تشد انتباهي لأرى كم هو جميل هذا الشال، معتقدة أنني سأطلب منها أن تحيك لي مثله، فانا أعرف أنها تفضل باقي أخواتي عني وإذا كانت ستعطيني شيئا، كان يتوجب أن أطلبه بنفسي، وأنا لم افعل ذلك. فالقصة بدأت عندما أنجبتني بعد عملية مستعصية.. وأصيبت بمرض اكتئاب ما بعد الولادة، رافقها لسنوات، مما جعلها ترفضني ولم تقترب مني أبدا، حتى أنها لم ترضعني، واستمر رفضها لي حتى بعدما كبرت.. لم اطلب منها الشال ولكني قلت لها إن أختي جميلة وهذا الشال سيزيدها جمالا..

فجأة.. دخل علينا رجلان ملثمان وبأيديهما أسلحة، وقف احدهما بباب البيت يراقب والثاني تقدم باتجاهنا مباشرة، مصوبا سلاحه نحونا، ذعرنا جدا.. وللحظات لم نستوعب ماذا يجري، لكن عندما صوب السلاح نحوي فهمنا أنا وأمي أنني المستهدفة، التفتُ حولي، لأجد نفسي محاصرة ولا مفر لي، نظرت إلى عيون أمي بخوف شديد، وقفت أمي بسرعة أمامه لتحميني بذراعيها، واستمر الملثم بملاحقتي دون أمي.. كما يبدو لا يريد إيذاءها.. حاولت الهرب منه، أطلق علي رصاصة فأصابني في يدي، لم اشعر بالوجع وصرخت مستنجدة بأمي، وهي بدورها حاولت جاهدة الدفاع عني بصدرها.. عندها أطلق عليّ رصاصة أخرى فأدت إلى جرح في كتفي، وازداد صراخي واستنجادي بأمي.. أصر الملثم على النيل مني، ركل أمي بقوة وأوقعها بعيدا عني، أحطت رأسي بذراعي وتكورت على السرير.. ثوانٍ معدودة ما بين محاولة وقوف أمي من جديد ، وبين الرصاصة التي اخترقت جمجمتي.. شعرت بدمي الدافئ يسيل على عنقي نحو صدري، عندها تبخر الخوف وأحسست براحة نفسية وجسدية لا مثيل لها.. كأنني في حلم، استمتع بسقوط وبتهاوي جسدي بهدوء..."

قطع صوت أختي حبل أفكاري وتسلسل الأحداث: أهلا "نبال".. تفضلي.. إنها في غيبوبة وهي على هذا الحال منذ ثلاثة أسابيع.. ممددة على ظهرها والأنابيب تخترق جسدها.

يبدو أن ابنة جيراننا "نبال" صديقتي منذ الطفولة، حضرت لتزورني.. لم افلح بالاستيقاظ، لكني سمعت ما دار بينهما، صوت نبال كان حزينا وهي تقول: أين شعرها الأسود الطويل المجعد والجميل؟ كانت ترطبه بزيت الشعر ليلمع ويتدلى على كتفيها، كيف حلقوا لها رأسها؟ هل يمكن لهذا الجمال أن يزول؟! أين ضحكتها التي لم تكن تفارق مبسمها؟!- أزداد صوت "نبال" حزنا وكان يشوبه البكاء- أين بنطلونك الجينس الذي كان يبرز قوامك الجميل، والبلوزة القصيرة التي كانت تكشف عن بطنك وظهرك، وتثيرين أعجاب الجميع؟

بدأت أستوعب كلام "نبال"- يا ويلي!! هل قصوا شعري حقا، هل أنا صلعاء؟! هل يمكن ذلك.. لماذا يا ربي تعاقبني؟

سمعت أختي تقول: كانت "نايفة" دائمة السؤال "هل الندبة على جبيني نتيجة سقوطي عن الدراجة الهوائية واضحة للعيان؟ هل تؤثر على شكلي؟ سأجرى عملية تجميلية لإخفائها"... ثم قبلتني على جبيني، وشعرت بدموعها دافئة على وجهي، هي التي لم أرها تذرف الدمع طوال حياتها.. وأضافت بسخرية مريرة: عن أية ندبة كنت تتكلمين؟

بعد نحو شهرين وأنا في حالة شبه إغماء، استيقظت لأجد أختي بجانبي تقرأ في كتاب، وشعرت بأنني أستطيع الكلام فقلت: "صبحية"... التفتت إليّ بسرعة فوقع الكتاب من يدها، ورأيت في عينيها علامات السرور والاستغراب.. أكملت حديثي: أتذكرين عندما طلبت مني أن أصلي معك؟ لقد صليت معك حينها فعلا... زاد فرح أختي وضمتني إليها وأجهشت في البكاء...

خرجت من المستشفى وأنا إنسانة أخرى.. عدة جروح لم تلتئم كليا في رأسي وجسدي، جراح رأسي كانت تلتهب بصورة دائمة وتؤلمني بشدة، ولكن بمساعدة أختي وتجنيدها لأفضل الأطباء تم إنقاذي من موت مؤكد.. بقيت مع شلل بجانبي الأيسر، أسير بمساعدة عكازين وحركتي أصبحت كالطفل في أول خطواته، دماغي تضرر وأصبح يعمل ببطء شديد.. طال شعري بتجعيداته الدقيقة ولكن لم يبرق بالحياة كما كان.. شيئا فشيئا عاد منظري جميلا نوعا ما.. حتى أن بعضهم كان يسمعني كلمات الغزل.. كان هدوئي الجديد يثير سخريتي، أنا التي أزعجت الجميع بضوضائي، كنت أثير المتاعب في حياتي دون أن أخطط لها. كان لي عشرات الأصدقاء.. تحرشت بالناس بشكل اعتباطي، فإذا رأيت شابا أو عجوزا يجر كلبا، كنت ألقى عليه التحية وأبدأ بمحادثته عن الكلب أو أي موضوع آخر، كنت أذهب إلى حفلة رقص بمرافقة صديق وإذا أعجبني آخر أترك الأول وأرافق الثاني.. لم أحاسب نفسي على أفعالي ولم أعمل حسابا لأحد..

هواجس عدة عصفت بي، فقد عرف أهلي من كان وراء محاولة قتلي.. إنهم أولاد عمي، وقد تم تبليغ الشرطة بذلك، لكن لم يكن هناك أي دليل.. وسجلت القضية ضد مجهول.. لماذا فعلوا بي ما فعلوا، أنا لم افعل شيئا مما قد يدعوهم إلى محاولة قتلي، كل ما فعلته أنني لبست تجولت وفرحت بحرية، لا بل إنني حتى لم أُقدم على تقبيّل شاب- مع أني كنت أتمنى ذلك ولم تسنح لي الفرصة- لا حق لهم بالاعتداء عليّ، فانا اعرفهم خير معرفة وأعرف أن معظمهم أصحاب سوابق جنائية، كنت أسير بمساعدة عكازي أمام بيوتهم.. تلتقي عيناي بهم، فينظرون إلي بنظرة لم أستطع تحديد فحواها، إنها خليط من الفرح والحزن والشماتة، وخالية من الندم تماما...

زارتني صديقتي "نبال" قبل يومين، وقالت لي إنها سمعت زوجات أولاد عمي يتحدثون بقصتي، واحدة قالت: إنها تستأهل كل ما جرى لها، لقد لوثت سمعت عائلتنا بجريها البطال... وقالت الأخرى: كان يجب أن تقتل، فالدين وشرف العائلة لا يسمحان بتصرفاتها المشينة..

هكذا إذا.. أنا الطفلة البريئة لوثت شرف العائلة المصون! ومن يقول ذلك؟ زوجات القتلة، الذين يلتحفون بعباءة الدين والشرف.. سنرى يا أولاد الكلاب من منّا صاحب الشرف ومن منّا الكافر..

بدأت بوضع خطتي المحكمة للانتقام.. راقبت خطوات أولاد عمي: متى يذهبان إلى العمل ومتى يعودان، متى يذهبان إلى الصلاة، في أية ساعة يعودان من السهر، متى يصحبان زوجتيهما ومتى يخرجان بدونهما.. يوسف يعمل في النقب ويعود في آخر الأسبوع ويقضي يومين في بيته مع زوجته ومن ثم يرجع إلى عمله وهكذا كل أسبوع، شقيقه جمال يعمل في بيع قطع سيارات مأخوذة من سيارات مسروقة ويزور زوجة أخيه بشكل يومي ليلبى طلباتها كما طلب منه أخيه.. دونت كل شيء، وبت أترقب الفرصة لتنفيذ خطتي.. وفي أحدى الليالي، ذهب جميع أفراد عائلتي إلى فرح صديق.. جلست على الشرفة أنتظر عودة ابن عمي من الصلاة وعندما أقترب من شرفتي، ناديته باسمه: يوسف يا ابن عمي.. اصنع معي معروفا..

اقترب مني أكثر وسألني بجفاء: ماذا تريدين؟.. فقلت له بدلال أنثوي متقن: أنا وحدي بالبيت وخائفة جدا، تعال واجلس معي قليلا..
 وأين باقي أهلك؟

 إنهم في العرس ولن يعودوا إلا في آخر الليل.. تعال واجلس معي، لو بضع دقائق، حتى يذهب عني الخوف..
نظر حوله، ثم نظر إلي، فرأى في عيني نظرات التوسل.. هي نفس نظرات التوسل التي نظرتها إليه وهو ملثم، لكنها الآن مع خوف مصطنع.. دخل إلى بيتنا، وكنت مستعدة لهذه اللحظة، مرتدية بنطلونا حريريا قصيرا جدا يبرز مفاتن ساقيّ وقميصا تعمدت تسريح الزرين العلويين ليكشف اكبر مساحة من نهديّ..

جلس مقابلي، أحضرت غلاية القهوة التي أعددتها مسبقا وفنجانين، وعندها تعمدت سكب القهوة على قميصي، فتظاهرت بالغضب وقلت له أن لا يقلق لأنني سأبدل قميصي في الحال.. دخلت غرفتي وبعد لحظات ناديت: يوسف تعال، أريد مساعدتك.. حضر إلي بسرعة وقال: ما المشكلة؟ فأجبته بأنني لا أستطيع خلع قميصي بسبب يدي المشلولة.. ساعدني من فضلك..

خلع عني قميصي فرأيت كيف يريد أن يلتهم صدري الناهد بعيونه.. تجمد مكانه وهو ينظر إلى جسدي وأنا شبه عارية أمامه.. فما كان منه إلا وانقض عليّ يقبلني وأنا أتمنع بدلال.. حملني إلى السرير وذاب معي قرابة الربع ساعة.. قلت له ونحن ما زلنا عراة في السرير: كم كنت أتمنى هذه اللحظة، فأنا أراك يوميا تتعرى أمام النافذة تضم زوجتك وتدخلان معا إلى غرفة النوم..

حاولت جاهدة أن أكون صادقة بكل كلمة، لكنه رمقني نظرة غريبة جدا، وسألني: هل أنت متأكدة بأنك ترينني يوميا أتعرى أمام النافذة وادخل مع زوجتي إلى غرفة النوم؟ فأجبته ببراءة متناهية: نعم وتمنيت أن أكون مكان زوجتك.. فسألني ثانية: عن أي شباك تتكلمين؟ قلت له وأنا اصطنع ضحكة : لا داعي لان تخبئ عليّ، فأنا اعرف انك تسكن في الطابق الثاني ذي الشبابيك الخضراء وهي الشبابيك الوحيدة في البناية وكنت أراقبك تخلع ملابسك ابتداء من قبعتك السوداء حتى آخر قطعة.. تعمدت التدقيق في وصف القبعة السوداء التي اعرف أنها لا تفارق رأس شقيقه جمال.. نظر إليّ نظرة غاضبة والشرر يتطاير من عينيه.. صمت للحظات، وقف وارتدى ملابسه بسرعة، ثم خرج من عندي بعصبية مخيفة.. ولم يمض على خروجه عشر دقائق حتى سمع كل من في الحي صوت إطلاق رصاص في بيت أخيه جمال، وبعدها صفارة الشرطة..

في اليوم التالي، كتبت صحيفة محلية خبرا تحت عنوان "أخ يقتل شقيقه على خلفية ما يسمى بشرف العائلة وقد تم إلقاء القبض على الجاني، لأن القاتل كان معلوما"...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى