الأربعاء ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم عناق مواسي

الشجرة التي لا تثمر حلال قطعها.

رجعت إلى سريري باكية والدموع تحرق قلبي وتبلل وسائدي وتؤرق جفوني، أعتصر ألماً على حياتي وشكل حياتي والناس الذين يدورون في فلك حياتي..
آاآاااه.....
يا رب، لماذا أنا بالذات؟
لماذا أنا؟
لماذا؟

غرست حماتي الموقرة كلماتها المتوحشة في بستان قلبي اليافع ولوّنت لوحاتها بزيوت آلامي وجراحاتي حين قالت أمام الجميع بجرأة وحسم لابنها: "اسمع يا محمد، الشجرة اللي بتثمرش حلال قطعها، وإحنا بدنا نستنى لآخر الشهر مع مرتك، وبعدها نشوفلك عروس" !..

غرست كلماتها بنادق واحدة تلو الاخرى، لتدور معركة دامية في رحى وجداني...
كثيراً ما كنت أشعر أني أرضٌ جرداء يسير المارة عليها، دون أن ينظروا إلى المكان الذي تهوي عليه نعالهم. أو لربما كالدمية، التي لم تحظ بيدي أحد لينفض عنها الغبار فيكتشف جمالها..

دائماً كان مخي دفتر حساب، أحسب أيام الشهور، أجمع السنين مع بعضها، أنقص أيام وحدتي ثم أقسم على ما تبقى من عمري. أقارن نفسي بأخواتي وقريباتي وبنات عمي، بأنه لو كان عندي ولد لكنت الآن أجهزه للصف الأول وأشتري له الألعاب والكتب وأراجع معه الوظائف وادعوه للتوقف عن اللعب بالكرة ليستحم ويتعشى وينام استعداداً لصباح يومٍ جديد. ثم أصرف النظر، فتقع عيّني على ابنة أخي أراها في أبهى جمالها فأحسب أن لي بنتاً تلعب وإياها "بيت بيوت" وأنهن صديقات ستذهب الواحدة منهن لزيارة الأخرى. ثم أخربش الصفحات مرة أخرى وارجع للحسابات، واحسب منذ بداية الشهر وانقص منه الأسبوع الأول والأسبوع الأخير لأستثمر الأسبوعين الأوسطين وهكذا كانت تمر الساعات حسابات في حسابات وافتراضات وتخيلات وآااااااهات...

وفي أحد الأيام وعندما كنت أرتشف فنجان القهوة مع جاراتي لنتبادل أطراف الحديث ونمضي ساعات النهار بادرت إحداهن بالسؤال:
  آه، انشاءالله نفسك غامّة عليك؟
ثم عدّلت أم جمال جلستها ونفشت ريشها وقالت
  "كنّتي مرة جمال، شهر واحد بس وحملت على طول، الله يرضى عليه جمال أمه داعيتلوا".
 يختي وزوجة حسام ابن الحاجة فاطمة، سبع أشهر الحافظ الله وجابت توم ولاد، واحد كيلو ومائتين وخمسين غراما وواحد كيلو وخمسمائة غرام .
 عقبال عندك يا حبيبتي.
ثم انتفضت الأخيرة من مكانها واستعدت للمغادرة وتمتمت من وراء ظهرها ببضع كلمات انشاءالله هذا الشهر بتحبلي، ومضت في سبيلها...
امتزجت القهوة بالسخرية وتوغلت في صدري حسرة، بالكاد كنت أحبس دموعي، كنت أحس أن أوردتي ستنفجر، لا لاعتراضي على قضاء الله ولكن لأن نساء الحارة كن يملأن جلساتهن بفراغ حياتي وأصبح شغلهن الشاغل متى حملت فلانة، ومتى ولدت فلانة، ومتى ستتزوج علانة، وما ستجهز أم فلان لزفاف ابنتها ومتى ومتى ومتى...

لم أكن احكي لزوجي مغامراتي مع آلامي حينما يعود إلى البيت إذ كنت دائماً أتكلم معه عن عمله وأحاول باجتهاد أن أصرف نظره عن الحزن الذي طغى على حياتي، حبي له كان يزيد أكثر وأكثر في ملامسته لوجهي مغلغلاً أصابعه في شعري معانقاً إياي جاعلاً مني انساناً جديداً ذا قيمة.

وبعد أن يهبط الليل، كنا نحلم على سريرنا رافعين عيوننا إلى السماء راجين من الله أن ينعم علينا طفلاً يملأ زوايا حياتنا، يبعثرها بطفولته يخربشها ببراءته ينثر أثير بكائه في فضاء بيتنا...

حين كانت تمر أيام زواجي ثقيلة متعبة، فارغة، جافة، ومهملة.. كنت أتفانى من أجل هذا الزوج وأسعى لإرضائه وأتحسس كل اللحظات الريحانية لاستنشق عبير سعادته ورضاه. لطالما حلمنا أن نسمع بكاء طهوره وجوعه وعطشه وأن نطرب لشدواه وإيقاعه لكي يفتت من الصمت شيئاً يسيطر على كياننا.. ونغرق في أحلامنا لنستفيق في صباح يوم جديد تغرقه الرتابة في قوانينها الصارمة المفروضة سلفاً على حياة صاخبة لزوجين أصمين...

سبع سنين عذاب في عذاب، عشتها سطراً من السخرية في دفتر الحياة، إنسانة بلا معنى، تكبر في الجيل وتصغر في القيمة.. كياني مهدد بالانهيار... لأن هذا العش الصغير لم يثمر أطفالاً.. ورغم كل محاولاتي اليائسة والميؤوس منها.. لم يبرعم رحمي لأنجب له اطفالاً من دمه ولحمه يقولون له:
بابا .. بابا..

الجزء الثاني

وبعد مدة عولجت في ضبط الهرمونات لكن دون جدوى فلقد كنت أنتظر الحمل ولما أتى...
يا رب متى سينتهي هذا المسلسل؟؟؟
في ذات مرة همست في أذني إحدى صديقاتي وقالت لي لماذا لا تطلبي من زوجك أن يتوجه لعمل فحوصات ليطمأن على حاله، ربما.. ربما..
  مستحيل. زوجي، لا.. لا.. المشكلة مني، أنا متأكدة، فجميع إخوته أنجبوا وهذا دليل قاطع على انه يتمتع بصحة جيدة..
  لكن يا عزيزتي، لا ضّر في ذلك.. فأنتما الاثنين لكما مستقبلاً مشتركاً معاً.. حاولي..

انصرفت من عند صديقتي وأنا الملم بقايا أفكاري التي تبعثرت، وضربات قلبي التي اندفعت بعشوائية..
أمضيت النهار وأنا اقّلب الموضوع في دماغي، وعندما تدحرج المساء من السماء، أمسكت بيديه وصوّبت نظري نحو عينيه وبلعت أنفاسي وتنفستُ بعمق..... وتكلمت!
  حبيبي، ما رأيك أن نتوجه للطبيب!
  ما الجديد!
  ايييييه !!
  تكلمي، ماذا؟
  نعمل فحوصات من جديد.
  اذهبي!
  لا يا حبيبي، ما رأيك أن تعمل أنت فحوصات بالتحديد، لتتأكد ....
قاطعني الحديث، واستشاط زوجي غضباً هاج وماج ودمعات حارة ترقرقت في عينيه...
  أنا لست مريضاً.
صبرت عليك كل السنين، وتحملت معك انتظار الفحوصات ومشاوير العلاجات وكفكفتُ دموعك لتأتي في نهاية المطاف وتطلبين مني أن اجري فحوصات! بأني مريض، واني أنا السبب في عدم الإنجاب... أتعتقدين أن طلبك فيه شيء من المنطق.. ثم ماذا سأفحص؟ جسدي، أعضائي؟ لم يتبقى سوى أن تأخذي بيدي إلى طبيب نفسي؟ انسي الموضوع، أنت السبب في عدم الإنجاب. المشكلة واضحة!!!!!!! لا.. لا..
  لم لا ؟ ربما... نحاول..
  ربما ماذا؟! لدي مشكلة.. مستحيل وألف مستحيل...
وغادر البيت.....
كيف سأقنعه يا ربي؟؟
يبدو أني احفر قبري بيدي الصغيرتين، ينعل أبو الفحوصات، نبكي عندما نريد الإنجاب ونبكي أكثر عندما ننجب.. يا ليتني لم اطلب منه هذا الطلب الغبي.. لكن لا، من حقي أن اعرف لماذا لا أثمر..

توددت إليه بكل الطرق وبكل الحيل وحاولت اخيراً إقناعه بان هذا إجراء روتيني..
عندما تنفس الفجر في صبيحة الأحد، ركبنا السيارة وتوجهنا نحو العيادة.. صوّبت نظري نحو عينيه، تعجبت لأمر هذا الرجل الذي لم يسمح للكلمات أن تمر عبر شفتيه، فحاولت أن اصطادها.. تهت في مساحة عينيه وبريقهما، لكن هذا الرجل بقي صامتاً. بين هذه الصور نوع من الثقة بالنفس يسيطر على كيانه...
 حبيبي.. أرجوك، أرجوك..
أرجوك لا تطلقني.. لا تتركني بعد هذه السنين.. أنا احبك، ولا سبيل أن أتخلى عنك.. أنا ضعيفة بدونك.. أرجوك.. خذ كل ما أملك وأنا موافقة أن تتزوج لأفرح بأولادك وذريتك.. وسأعتني بهم .. خذ صيغتي وتزوج بها.. أنت لست الرجل الأول ولا الأخير.. هذا قدري يا حبيبي وأنا اقبل به.. لكن لا تحرمني أن أكون بجوارك طيلة عمري.. أريد أن استظل بظلك.. أن أحيا بقربك..

ونزلنا من السيارة.. متوجهين إلى العيادة.. أجرينا الفحص اللازم وعدنا إلى البيت كل منا ينظر الى الآخر ، لكني كنت دائماً انظر إليه بتوسلٍ لان يبقيني على ذمته، لأني كيان امرأة مهددة بالانهيار..

كان العلاج بالنسبة لي مغامرات، حيث اختلطت أعضائي بالمرارة، امتزجت مساماتي بالأدوية والعلاج..كان للعلاج وخزاً اشد ألماً ووقعاً من الإبر والحقن التي غرست في جسدي، في أعضائي، في كياني، كل واحدة لها قصة مختلفة مع مسامات جلدي، حينما تتغلغل مع إيماني ومناجاتي لله أن يصلح حالي.. شُخصّت مشكلتي في تبويضٍ ضعيف لامرأة شابة، بجسدٍ له رد فعل واستجابة بطئيه جداً الأمر الذي أطال فترة العلاج.. هذه الفترة التي كنت أسافر بها لوحدي إلى عيادات النساء.. وأنا أرى نساء أخريات برفقة أزواجهن، الذين يتحسسون الأجنة في بطون زوجاتهم منتظرين سويعات اللقاءات الحميمة لخروج إنسان من رحم إنسان.. فانظر بازدراء إلى بطني الفارغة.. فأتحسس الألم والحسرة تنمو في أحشائي وتكبر يوماً بعد يوماً، أتمخض فألدُ فراغاً وأوهام... بحياتي لم أفرح بزوجي معي في عيادة النساء فهذا على حد تعبيره للنساء فقط...
أو ليس الأطفال والإنجاب والحمل والولادة مسائل للنساء فقط ؟؟؟؟ !!!!

لا اعلم ما الذي حدث في ذلك المساء، رجع زوجي مبكراً من العمل على غير عادته، هرعت نحو الباب، وإذ به بترنح، ثملاً .. لا ليس ثملاً.. مريضاً.. لا ليس مريضاً.. وإذ به يهوي على صدري وعانقني .. عانقني.. ربما كان أطول عناق في العالم... وأجهش بالبكاء.. بصعوبة كبيرة حاولت أن أفلت من بين ذراعيه القوية، وصدره الواسع .. وقعت عينّي على ورقة منكمشة بين أصابعه، خفت كثيراً.. اشتدت ضربات قلبي..حاولت أن احلل هذه الرموز أمامي...
ما بك؟ سألته بذهول..
فقطع استفهامي ومخاوفي وظمأي للمعرفة وقال بصوتٍ متقطع.. لا لم يكن متقطعاً.. بل كان صوتاً خائباً ، حزيناً ... ارتعد صوته، وتصاعد في السماء..أنا بخلفش.. أنا لا انجب.. أنا رجل عقيم... سائل الحياة لم يعد ينبض بالحياة.. جفت من عروق سائل الحياة، الحياة.. لضعفها، وقلة عددها، ونوعيتها التي لا تصلح للإخصاب..أنا بخلفش.. أنا.. حلال ق ط ع ي...

ركضت إلى سريري... بمشاعر مختلطة بين شكٍ في الخصوبة ويقين بالإنجاب أو عدمه.. فرحت كثيراً طرت في سماء الغرفة. أنا استطيع الإنجاب... أنا لست عاقراً.. سأنجب اولاد وبنات.. سأنجب كل تسعة أشهر وأربعين يوماً.. سأشتري كل الألعاب التي في الدنيا.. أنا امرأة تدب الحياة في جسدي من جديد... أنا .. أنا.. عادت تدب في عروقي الحياة، كما في عروق الوادي تدب المياه... أنا لا اذكر حجم السعادة التي اعترتني لكن اذكر بالتحديد أنها مساوية لحجم الصدمة والمفاجأة.

والآن أنا لست الشجرة التي حلل لها أن تقطع، أن تجتث من أرض هذا الزواج، أن تحرق وتذرى في يبادر الحنطة.. أنا الشجرة التي ربما ستثمر يوماً ما.. لكن ماذا مع هذا المسكين.. زوجي.. سأرحل.. سأتزوج من جديد .. لا..لا..لا..لا..لا..
لكني آثرت البقاء..

آثرت الحفاظ على كينونة زوجي الذكورية دون أن أخدش كبرياءه، أو أن أزعزع كيانه. آثرت الحفاظ على سر زوجي فالبيوت أسرار.. أنا لن أنسى ابد الدهر تلك النظرة التي رمقني من مقلتيه حيث قال لي بكلماتٍ ليست كالكلمات.. بكلمات صامتة.. قال لي
 حبيبتي.. أرجوك، أرجوك..
أرجوك لا تطلبي الطلاق.. لا تتركيني بعد هذه السنين.. أنا احبكِ، ولا سبيل أن أتخلى عنك.. أنا ضعيفٌ بدونكِ.. أرجوكِ.. خذي كل ما أملك .. أنت لست الرجل الأول ولا الأخير.. هذا قدري يا حبيبتي وأنا اقبل به.. لكن لا تحرميني أن أكون بجواركِ طيلة عمري.. أريد أن استظلَ بظلكِ.. أن أحيا بقربك.. نطق زوجي بكلمات لها ثورةٌ من حجر، تثبتت في أذناي كالاوتاد.. أن معرفة الحقيقة للحظة غيرت مسار حياتي في لحظة، وتحولت من امرأة متوسِلة إلى امرأة متوسلٌ إليها..

الآن أصبحت أعاني معاناة مضاعفة بين رجل يراهن على بقائه بالحياة مقابل ضعفه الذي تتقوى به امرأة..
لا وألف لا. ما ذنب هذا الزوج ليترك وحيداً ويموت بحسرته. أنا لن أدير له ظهري بعد هذه السنين وأن القي بالكأس التي استمرأت منها وبللت عطشي، سأكون الشجرة التي ستظلل على هذا الزوج ، سأحميه بقوتي..

لم يعد تهزني كلمات جاراتي، ولم تعد بنادق حماتي مصّوبة نحو ضعفي لأني في قريرة أعماقي أدرك انه باستطاعتي أن أنجب حتى لو مع شق الأنفس..

لن ارجع إلى بيت أبي، سأحافظ على كينونتي الاجتماعية، وما أدراني إن رجعت أن احداً سيتقدم لطلبي بعد مسلسل العلاجات في جسدٍ أصبح اقرب إلى سوق وحقل تجارب لأيدي متمرسين في مهنة الطب...

دموعي التي حرقني يوماً وبللت وسائدي لأني شجرة تنتظر أن تقطع، لم تعد .. سأكون الشجرة التي سيستظل بها غيري.. سأحميه رياح الزمان العاتية.. سأقف كالكينا شامخة.. باسقة.. دون أن آبه إلى قصار الحشائش..

وكما كانت تقول جدتي في مجلسها الموقر " الله يكون بعون اللي معندوش ويعطي كل مشتهي..
الله لا يخليهم ببال حدا، بجاه اللي سيّر الندى.." .


مشاركة منتدى

  • لقد أعجبني النّص (حلالٌ قطعها..) الجزء الأوّل والثّاني
    وأعجبتني اللّغة الشعريّة والفصحى والعاميّة البارزة في نصوصك
    للتعبير عن مشاعر وهموم المرأة ومعاناتها، وقد شعرت أن المونولوج
    في نصوصك كان بارزًا.
    فأنا الأن أقرأ كتابك الأوّل" ساعة رمليّة وثلاث أمنيات"
    ومطلوب مني أن اختار عدة نصوص للقيام بتحليلها لحلقة البحث العربي
    وقد اخترت عدة نصوص تحمل هموم المرأة بشكل بارز ومن ضمنها " حلال قطعها.."

    أقف احترامًا لك ولكلماتك المعبرة.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى