الأربعاء ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم سليمان عبدالعظيم

"جَوْجَلة" المعرفة

تشير "الجوجلة" إلى العملية التي تقوم من خلالها شركة جوجول بالتحكم في مسارات المعرفة الكونية المختلفة عبر القبض على معظم، إن لم يكن، كل المصادر المعرفية المتاحة في العالم بأسره. وهى عملية غير مسبوقة في كامل التاريخ الإنساني من حيث رصد وتجميع المعارف الإنسانية بأكملها عبر منافذ وآليات محددة تتيح للمستخدمين أينما كانوا أن يتعاملوا مع هذا الكم الهائل والمعروض من المعرفة. وعبر شركة جوجول تفقد المعرفة خصوصيتها حيث التعري أمام الجميع الذين يملكون إمكانية الولوج عبر الإنترنت وتصفح المحرك جوجول. فلا توجد هناك أبواب موصدة أمام الإطلاع، ولا توجد حدود وخصوصيات مرتبطة بالثقافات القومية المختلفة. فكل المعارف الإنسانية يتم عرضها عبر فاترينة جوجول، وعبر محركاته المختلفة، وعبر مجموعة من الفنيين والخبراء الذين يواصلون العمل ليلاً ونهار من أجل جمع وتصنيف وتحزيم المعارف البشرية وربطها بالمحرك جوجول. لقد قامت شركة جوجول بمهمة بالغة الأهمية، رغم الأبعاد الربحية المرتبطة بها، والتي تسم أى مشروع رأسمالي. فعبر محرك واحد يمكن أن نعثر على ما نريد عبر العديد من المواقع المختلفة، وعبر العديد من اللغات، وعبر العديد من الثقافات المختلفة، وهو ما لم يكن متاحاً بمثل هذا الحجم الضخم الذي أتاحته لنا شركة جوجول.

ورغم أن الإنترنت تمثل الوسيلة الأسرع والأكثر نفوذاً من أجل التعرف على العالم والتواصل بين البشر، فإن ماقامت به شركة جوجول يهدف إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث الرغبة في مركزية المعرفة عبر المحرك، وتجميعها ضمن سياق واحد يكفل للجميع التعامل معه، والاستفادة منه. وهى خدمات غير مجانية على الإطلاق، رغم الجانب الدعائي المرتبط بها، والمتمثل في نشر المعرفة، وتسهيل الوصول إليها والتعامل معها. إن عملية جوجلة المعرفة ترتبط بالعديد من القضايا الأخلاقية والقانونية والإنسانية، التي يجب التعرض لها والحد من مخاطرها والنتائج السلبية المرتبطة بها.

أولى القضايا المرتبطة بجوجلة المعرفة هو ما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية للمواد المعرفية المختلفة التي وفرتها شركة جوجول. فما يحدث الآن هو في واقع الأمر عملية سطو معرفية واضحة وصريحة وغير مسبوقة في التاريخ. فالشركة تقوم بتسجيل كل المعارف الإنسانية المتوفرة، وإعادة وضعها عبر المواقع الخاصة بها، الأمر الذي يسهل لمستخدمي الإنترنت، من خلال كلماتهم البحثية المختلفة الوقوف عند هذه المواد والتعرض لها. وعلينا أن نتصور ما تقوم به الشركة حالياً من تحويل ملايين الكتب المقروءة إلى كتب الكترونية، الأمر الذي يجعل المستخدمين في المستقبل في غير حاجة للمكتبات بمعناها المتعارف عليه. وعلينا أيضاً أن نتصور الأمر الذي سوف يكون عليه العالم حينما يمكن مشاهدة كل الأفلام الخاصة بنجم ما، أو سماع أغنيات مغني معين في أي مكان في العالم، أو مطالعة كافة اللوحات الفنية العالمية، أو مشاهدة خبايا المتاحف المنتشرة عبر ربوع الأرض. لقد أثيرت الكثير من حقوق الملكية الفكرية سواء بالنسبة للكتاب أو الممثلين أو الشركات المختلفة المرتبطة بصناعة الأدب والفن. وهو أمر مازالت تواجه شركة جوجول العديد من تبعاته وآثاره، ولم يتم حله بشكلٍ نهائي يرضي جميع الأطراف.

وثانياً يرتبط بما سبق صعوبة إخفاء أي شيئ عن عيون الآخرين المتربصين مثل جوجول وغيره من المحركات البحثية الأخرى. فالقدرات الهائلة لتلك المحركات تمنحها القدرة على اقتحام تواريخ وثقافات وخصوصيات الآخرين، وإعادة عرضها ونشرها، وربما فضحها أمام الآخرين، أمام العالم. فلم يعد في مكنة أحد أن يخفي شيئاً عن عيون الآخرين، ومحركاتهم البحثية العديدة. فالجوجلة لا تعرف حدوداً جغرافية أو مساحات زمنية، فكل ما يقع تحت أيديها قابل للنشر وللإستهلاك وللعرض وللتربح.

ورغم ضخامة المشروع الثقافي والمعرفي للجوجلة المعاصرة، فإنها في جوهرها تشكل وجهاً قبيحاً من وجوه العولمة، أو هى أحد الأوجه المستترة تحت قناع المعرفة، لكنها تدور في فلك الأرباح والمكاسب مثلها في ذلك مثل العولمة. فالمحرك جوجول يمزج مزجاً واضحاً بين الجوانب المعرفية التي يروج لها وبين عالم الإعلانات والسلع التي يجني من ورائها مئات الملايين من الأرباح. فالمحرك جوجول يقدم العديد من الخدمات المجانية مثل تتبع الشحنات المرسلة عبر شركة الشحن العالمية "فيديكس"، وتحديد محلات البيتزا عن طريق كتابة كود المدينة، إضافة لآلاف السلع التي يتم الإعلان عنها، بما فيها الإعلانات المرتبطة بالمعرفة وصناعة الثقافة العالمية، حيث يحصل أصحاب شركة جوجول على نسبة عن كل مستخدم يفتح أيقونات الإعلانات المنوه عنها عبر المحرك. واللافت للنظر هنا أنه سواء اشترى المستخدم السلعة المعلن عنها أو لم يشتريها فإن الشركة تحصل على النسبة المتفق عليها نظير الإعلان، وهو الأمر الذي دعى البعض للتعريض بالشركة، وبالمكاسب الهائلة التي تحصل عليها نظير خدمات افتراضية تقدمها عبر الإنترنت. وهو الأمر الذي جعل البعض يرى أيضاً أن شركة جوجول لها في كل كعكة نصيب. فالمحرك جوجول يستقطب العالم كله عبر عالم الإنترنت الافتراضي، ونظير ذلك فهو يلتهم من الجميع أرباحاً هائلة، تكرس له الهيمنة من ناحية، واستقطاب ملايين المستخدمين من ناحية أخرى.

وثالثاً، فإنه ورغم هذا الإمكانات المعرفية الضخمة التي يقدمها المحرك جوجول، فإن الأمر لا يعني حرية وديمقراطية المعرفة المقدمة. علينا هنا ألا ننسى أن المشروع برمته مشروع ربحي بالأساس، وإن تمثل الثقافة وارتكز على المعرفة. من هنا فإن القائمين على الشركة، وعبر ملايين المواقع التي يتحكمون فيها، يقدمون بعض الخدمات للدول التي تفرض رقابة صارمة على الإنترنت والمواقع المرتبطة بها مثل الصين على سبيل المثال لا الحصر. فالقائمون على الموقع جوجول يقومون بفرض رقابة مسبقة على المواقع التي لا تريدها تلك الدول، الأمر الذي لا يتيح لمستخدمي تلك الدول مطالعة مواقع بعينها من ناحية، والانفتاح على بعض القضايا التي تتعارض ورؤى أنظمتهم السياسية الحاكمة من ناحية أخرى. وهو الأمر الذي يجعل من القائمين على شركة جوجول الرقباء الكونيين الجدد. فقدراتهم الهائلة، والحجم الضخم من المعرفة الذي يهيمنون عليه، يجعل من هؤلاء الرأسماليين الرقباء الجدد الذي يحددون ما يجب أن تقرأه الشعوب، وما لا يجب أن تقرأه في ضوء العلاقات الجديدة بين هذه النوعية من الشركات المعرفية وبين الأنظمة السياسية الاستبدادية.

تمثل الجوجلة مرحلة جديدة من مراحل التطور البشري بقيادة المعسكر الرأسمالي، ورغم الاتساع الواسع النطاق للجوجلة في مختلفة دول العالم فإنها مازالت في مراحلها الأولى وتأثيراتها المبكرة. لكن الأمر الذي لا شك فيه أننا أمام حالة كونية جديدة لم تشهدها البشرية من قبل، ولم تتوقعها العقول الإنسانية. وهو الأمر الذي يستدعي فهم ودراسة هذه المرحلة الجديدة، والاستعداد العلمي لها، خصوصاً في العالم العربي والدول النامية.

ملاحظة من ديوان العرب: بعض العناوين التي تظهر في بداية البحث عن شيء معين تكون لشركات تدفع بدلا جعل اسمها في مقدمة البحث وليس دليلا على شعبية الموقع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى