الخميس ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم عبدالوهاب محمد الجبوري

التلمود والطريق إلى يثرب وبابل

توطئة

التلمود كلمة عبرية معناها التعاليم وهو كتاب مقدس عند اليهود يعادل في قيمته الروحية والعلمية التوراة، بل يفوقها بمراحل في كثير من الجوانب التطبيقية، وهو مجموعة الشرائع اليهودية التي نقلها أحبار اليهود شرحا وتفسيرا واستنباطا من أصولها، وهو يتألف من قسمين: المشناه وهي النص والجمارا وهي التفسير أو الشرح.. والمشناه عبارة عن مجموع التقاليد اليهودية المختلفة في شتى نواحي الحياة مع بعض الآيات من التوراة، ويزعم اليهود أن هذه التعاليم شفوية ألقاها موسى ( عليه السلام ) على شعبه حين كان على الجبل ثم تداولها هارون واليعازر ويشوع وسلموها للأنبياء، بعدها انتقلت من الأنبياء إلى أعضاء المجمع الأعلى وخلفائهم في القرن الثاني الميـــلادي حينما جمـــــــــــــعها الحاخام ( يهوذا ) ودونها..
أما الجمارا فهي مجموع المناظرات والتعاليم والتفاسير التي دونت في المدارس العالية بعد الفراغ من المشناه.. وهناك تلمودان يجب التمييز بينهما، أولهما التلمود الفلسطيني ويسميه اليهود الأورشليمي ( المقدسي ) وقد كتب بين القرنين الثالث والخامس للميلاد ويعرف الثاني بالتلمود البابلي وقد أُنتهي من كتابته وصيغته النهائية في بابل في القرن الخامس للميلاد..ولكل من التلمودين طابعه الخاص وهو طابع البلد الذي وضع فيه، ولغتا التلمودين مختلفتان تمثلان لهجتين آراميتين: التلمود الفلسطيني بالآرامية الغربية والتلمود البابلي كتب بالآرامية الشرقية، وقد احتوى على مصطلحات يونانية ولاتينية..

لقد احدث التلمود أثرا كبيرا في حياة اليهود ولعب دورا مهما في تكوينهم، حتى أن اليهودية، في معتقداتها وإيمانها، في شعائرها وطقوسها الدينية، لا بل في كل ما يتصل بحياة اليهود وتفكيرهم وأفعالهم، هذه اليهودية باتت مقترنة بالطابع ألتلمودي والرباني.. ومنذ نهاية القرن السابع للميلاد أو مطلع القرن الثامن فصاعدا يصبح الحديث لازما عن (اليهودية التلمودية ) أو (الربانية ) كما يصح اعتبار التلمود بمثابة نقطة التحول الأبرز في تاريخ اليهود، فقد أخذت هذه اليهودية التلمودية تعمل جادة على ترسيخ دعائمها وتوطيد تعاليمها، ولم يطل الوقت كثيرا حتى أضحت تعاليم التلمود هي المعايير السائدة والمقبولة في كل ما يتعلق بحياة اليهود وأعمالهم ونشاطهم الفكري..وليس من قبيل المغالاة أو التعميم المتسرع أن نجد كبار المؤرخين المحدثين، المؤرخون اليهود منهم قبل الأجانب، يعتبرون التلمود بمثابة العامل الجوهري في التاريخ اليهودي..فهو يؤلف في نظرالمؤرخ ( هاينريخ غريتس ) نقطة التحول في التاريخ اليهودي لا بل هو مربي اليهـــود ومعلمهم الأكبر.. وليس أدل على منزلة التلمود بلسان أحباره من تلك التشبيهات التي نجدها في أماكن عديدة من أسفار التلمود.. فقد جاء في سفر الكتبة: ( أن التوراة أشبه بالماء والمشنا أشبه بالنبيذ والجمارا أشبه بالنبيذ المعطر، فلا يمكن الاستغناء عن هذه الكتب والأصناف معا.. إن الشريعة هي كالملح والمشنا كالفلفل والجمارا أشبه بالتوابل، فلا يمكن الاستغناء عن هذه الأصناف أيضا )..

فلسفة التلمود

تقوم فلسفة التلمود على العنف والقتل والحرب..وقد ركز اليهود على تعاليم التلمود الفلسفية فاتبعوها أكثر مما اتبعوا ماجاء في التوراة، التي بين أيدينا ، وذلك لان علماء اليهود وحاخاماتهم اعتبروا التلمود كتابهم المقدس الأول وجعلوا التوراة في المقام الثاني، وقد جاءت نصوصه اشد عدوانية من نصوص التوراة..

والتلمود كنص تعليمي مقدس تعتبر محتوياته في الإجمال تعاليم إلزامية وثابتة غير متغيرة وهي تحمل كل معاني الاستعلاء والعنصرية والعداء للشعوب..ومن بعض نصوصه القاسية أن الخارج عن الدين اليهودي حيوان على العموم فسمّه كلبا أو حمارا أو خنزيرا، والنطفة التي هو منها هي نطفة حيوان، وخلق الله الاغــــــيار ( غير اليهود ) على هيئة إنسان ليكونوا لائقين لخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا لأجلهم.. وفي باب آخر نص يصدر بشكل أمر مقدس ): اقتل الصالح من غير الإسرائيليين ومحرم على اليهودي أن ينجي أحدا من باقي الأمم من هلاك أو يخرجه من حفرة يقع فيـــها لأنه بذلك يكون حفظ حيــــــــــاة احد الوثنـــــــيين ) و( جميع المسيحيين حتى أفضلهم يجب قتلهم ).. و( حتى أفضــل الاغيار يجب قتلهم ) وجاء في سفر الكتبة أيضا ( اقتلوا الأفضل من بين الأمم )..

ومن بين الصفات التي نسبها أحبار اليهود إلى الله سبحانه وتعالى – وتنزه عن ذلك – ( أن الله غير معصوم عن الخطأ والطيش وانه اعترف بأخطائه تجاه اليهود، ويندم على تركه اليهود في حالة بؤس حتى انه يبكي ويلطم كل يوم فتسقط من عينيه دمعتان في البحر فيسمع دويهما من بدء العالم إلى نهايته وترتجف الأرض فتحدث الزلازل )..

كما لاننسى مسالة استنزاف الدم المسيحي المنسوبة إلى اليهود والجرائم التي قاموا بها في هذا الصدد، حيث أن لليهود أعيادا لا تتم طقوسها إلا بتناول الفطير الممزوج بالدم البشري، ولكن أمر هذا الدم وأمر استباحته سرا موقوف على الحاخامات، وقد أيد هذا الكلام الحاخام ( يعقوب العنتابي )..
هذه المواقف النابضة بالعنصرية والحقد تعكس موقفا تجاه الاغيار يتسم بإنكار إنسانيتهم والحط من كرامتهم، فالأرواح غير اليهودية شيطانية وشبيهة بأرواح الحيوانات وان الأرواح عندما تخرج تدخل جسدا آخر، ومثال على ذلك يقول التلمود: ( إن روح اشعيا دخلت يسوع ) واشــــــــــــعيا كما يقول التلمود كان (قاتلا وزانيا )..

أما عن المسيح المنتظر عند اليهود وبسط سلطانهم على جميع الأمم بعد مجيئه فيقول التلمود: ( عندما يأتي المسيح تطرح الأرض فطيرا وملابس من الصوف وقمحا حبه اكبر بقدر كلى الثيران الكبيرة، في ذلك الزمن ترجع السلطة لليهود تخدم مسيح اليهود وتخضع له ) ويحدد التلمود أن المسيح لا يأتي إلا بعد انقضاء حكم الأشرار !! الخارجين عن دين بني إسرائيل، ويجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع استهلال باقي الأمم في الأرض حتى تبقى السلطة لليهود وحدهم، ويلزم أن تقوم الحروب بضراوة ويهلك ثلث العالم..

وفيما يتعلق بالقتل، تعتبر الديانة اليهودية التلمودية قتل اليهودي جريمة كبرى، أما قتل اليهودي الذي يتسبب بموت يهودي آخر بطريقة غير مباشرة فانه مذنب حسب (الهالاخاه ).. والهالاخاه معناها اللغوي قانون أو أسلوب أو تقليد وهي المبادئ الهادية لأحكام الشرع الديني وتعني أيضا ما تجمع من تقاليد الشريعة اليهودية دون نصها..أما التسبب بموت غير اليهودي بطريقة غير مباشرة فلا يعتبر خطيئة أبدا..وإذا وقع القاتل غير اليهودي تحت سلطة التشريعات القضائية اليهودية فيجب إعدامه فورا..

ويجري الترويج العلني لهذه الأفكار منذ العام 1972 لتوجيه الجنود الإسرائيليين المتدينين، وقد جاء في كراس نشرته قيادة المنطقى الوسطى في الجيش الإسرائيلي على لسان الحاخام المسئول: ( في حالة احتكاك قواتنا بمدنيين خلال الحرب أو خلال مطاردة حامية أو غارة، وإذا لم يتوفر دليل على عدم إلحاقهم الأذى بقواتنا، هناك إمكانية لقتلهم )..

وفي رسالة من جندي إسرائيلي شاب إلى حاخامه يقول: ( جرت في وحدتي مناقشة لفكرة طهارة السلاح وما إذا كان من الجائز قتل العربي الأعزل من السلاح أو النساء أو الأطفال ؟ أو حتى ما إذا كان علينا الانتقام من العرب ؟ولم استطع التوصل إلى إجابة حاسمة ) أجابه الحاخام ( شمعون وايزر ): ( أن قتلهم في زمن الحرب يعتبر واجبا دينيا وينبغي الافتراض بان غير اليهودي يأتي لقتلك في زمن الحرب، هذه قاعدة طهارة السلاح حسب الهالاخاه وليس حسب المفهوم الأجنبي الذي تسبب بوقوع العديد من الخسائر )..

خلاصة القول أن فلسفة التلمود تقوم على العمل على إذلال البشرية وتسخيرها لليهود ونسف جميع المدنيات والحضارات وإزالة الأديان السماوية من على وجه الأرض لتحل محلها الفلسفة الحاقدة على البشرية وليقوم على أنقاضـها ملك إسرائيل..ولقد كان التلمود هو ( دستور ) العمل للسيطرة على البشرية واحتواء الأديان والأمم، عن طريق إقامة تشريع يمنح اليهود ذلك الامتياز الذي يجعل من حقهم استلاب الثروات والأمم والبلاد جميعا وحرق وقتل أهلها واستعباد شعوبها.

وقد ظهر هذا الاتجاه في الفكر اليهودي أبان الترحيل البابلي حيث أعيدت كتابة التوراة بشكل محرف وبوشر بإعداد التلمود الذي أصبح في تقدير الحاخامات أعلى درجة من التوراة، ومنذ أن اخرج اليهود من الأندلس ( مع العرب ) عام 1492 ميلادية بدأ الإعداد لهذا المخطط، ويبدو ذلك في أمر تلك الجماعة اليهودية التي أقامت في سالونيك وهي من مهاجري الأندلس وقضية دخولهم في الإسلام وما يحيط بها من شبهات وشكوك يوحي بأنها كانت خطة دقيقة محكمة الكتمان تستهدف إقامة دعامة في قلب بلاد الخلافة الإسلامية لإحداث أمر ما فيما بعد..ولا ريب أن يهود الدونمة في سالونيك كانوا جزءا من المخطط الذي نفذته اليهودية بعد سقوط مملكة الخزر التي أصبحت من بعد جزءا من الإمبراطورية الروسية التي اقتلع اليهود جذورها.. والواقع أن مخطط اليهود في الإمبراطورية الروسية لإسقاطها ونشأة الدعوتين الصهيونية والماركسية في قلبها سنوات وسنوات كان انتقاما من إسقـــــــاط دولتهم ( الخزر ) التي حجبوها عن دوائر المعارف الغربية حتى لا يكشفوا خطتهم في إسقاط الدولة الروسية وقد ثبت أن اليهود صنعوا في هذه الفترة كلتا الدعوتين ووزعوا أنفسهم عليها حتى يقسموا العالم إلى معسكرين كما ظهر لاحقا على مسرح السياسة العالمية..
ثم هم من الناحية الأخرى في سالونيك اخذوا يعملون بصمت واستمرار لأمد طويل حتى استطاعوا إسقاط الدولة العثمانية أيضا وأحدثوا خلافات بين العرب والأتراك لإضعاف هذه الدولة وإسقاطها كي ينفتح الطريق لهم فيما بعد إلى فلسطين وإقامة وطن قومي يهودي لهم على حساب سكانها الأصليين..

لقد أقام اليهود مشروعهم ألتلمودي كله على أساس الاغتصاب والغدر والخيانة وساروا فيه ضد تيار التاريخ وضد طبيعة الأمم وضد نواميس المجتمعات والحضارات وقد خططت حركاتهم الحديثة: الماسونية والصهيونية والمادية على قاعدة هدم الدين والأخلاق بهدف تقويض الحضارة ومحو العقائد وإسقاط الدول والإمبراطوريات والقضاء على الأمم..
وابرز ما تحمله تعليمات اليهود: نصوص تفيض وحشية وعنصرية وحقدا على العالم كله، وقد غذيت العقول بهذه الأحقاد على مدى الأجيال فأصبحت قوام النفسية اليهودية وعقدة التركيب الاجتماعي، وقد استطاعت الصهيونية التلمودية المسيطرة على الحضارة الغربية طبع الفكر الغربي بطابع الجشع والطمع والحقد وإنشاء منهج التلمود الجشع الذي يستهدف إقامة إمبراطورية الربا.. وفي هذا يقــــــــول الدكتور( أيدر ) رئيس اللجنة الصهيونية: ( إن هدف الصهيونية هو إبادة العرب جميعا ) ويقول ( موشيه دايان ) وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق:( لقد استولينا على أورشليم ونحن في طريقنا إلى يثرب والى بابل ) أما المفكر اليهــــــــــــودي ( نورمان بيوش ) فيقول: ( في وسع اليهود الامتداد إلى جميع البلاد التي وعدوا بها في التوراة من البحر الأبيض حتى الفرات )..

التلمود والصهيونية

إن المطلع على مضمون التلمود يمكنه العثور على الكثير من المسائل والعقائد التي تمتد جذورها الصهيونية إلى هذا الكتاب، ومن ذلك فكرة الاستعلاء أو التفوق والسيادة والعنصرية والقتل واستخدام العنف كوسيلة شرعية لتحقيق الأهداف اليهودية ومد سلطان اليهودية إلى جميع أنحاء العالم وإخضاع شعوبه بأي وسيلة كانت... إلى غيرها من المبادئ والأفكار التي اعتمدتها الحركة الصهيونية لاحقا في تنفيذ سياستها العدوانية والعنصرية.. وإزاء الإجماع اليهودي على الإقرار بمنزلة التلمود ودوره الأساسي في تكوينهم والحفاظ على خصوصيتهم ونظرتهم الضيقة إلى الغير، لايسعنا إلا القبول بما يقوله اليهود عن أنفسهم دون تجاهل الخصائص العنصرية التي يحاولون العزوف عنها أو حتى مجرد التلميح إليها.. وهنا نشير إلى هذه الرؤى والمبادئ التي اعترف بوجودها المؤرخ اليهــــــــــودي ( غريتس )، دون التعليق عليها ، وقام بتصنيفها تحت الفئات الأربع التالية:

1. يحتوي التلمود على الكثير من التفاهات والضلالات التي يعالجها الربانيون بقدر كبير من الجدية والسرية والخطورة..

2. يعكس التلمود شتى الممارسات والآراء الخرافية التي كانت سائدة في مكان ولادته، وهي تؤمن بفعالية العلاجات العجائبية والعقاقير الشيطانية والسحر والرقيات والتعاويذ، إلى جانب تفسير الأحلام.. وهذه كلها من الأمور التي تتنافى مع روح الديانة اليهودية على حد تعبير المؤرخ غريتس.

3. يتضمن التلمود أيضا أمثلة متفرقة ومنعزلة على الأحكام والمراسيم القاسية ضد أبناء الأمم والديانات الأخرى..

4. ويحبذ التلمود، أخيرا، شرحا وتفسيرا مغلوطا للكتاب المقدس، فيقبل التفسيرات الخاطئة التي ينفر منها الذوق السليم ويأباها..

ومما ورد في النصوص السابقة وتحليلنا لها يتضح أن في التلمود تأكيدا وتأصيلا لنزعة العنف والتفوق العنصري اليهودي على بقية شعوب الأرض باعتبار أنهم الشعب المختار وان الله اصطفاهم دون سواهم من الشعوب، لذلك كانوا حريصين على أن لا يطلع على التلمود غيرهم إلا من يأمنون جانبه خوفا من ثورة الاغيار ضدهم، حسب تعبير حاخاماتهم..

وجدير بالذكر أن هؤلاء الحاخامات اخفوا التلمود 14 قرنا منذ أن وضعه حاخاماتهم الأوائل، لكن ما إن تسرب حتى تسبب بردود فعل متتالية وكبيرة، ففي سنة 1242 ميلادية أمرت الحكومة الفرنسية بإحراق التلمود علنا وتكرر هذا الأمر عشرات المرات في اغلب العواصم الأوربية وفي أزمنة مختلفة منذ الحين، وفي العراق فان الباحث يشير إلى انه كان هناك تلمودا واحدا في جامعة بغداد وقد اطلع عليه شخصيا فبل احتلال العراق عام 2003 وقام بترجمة بعض نصوصه عن اللغتين العبرية والآرامية وبعد احتلال العراق وصلته أخبار عن فقدان هذا التلمود..

والنتيجة التي يمكن استخلاصها مما تقدم هي أن التلمود كتاب سياسي يؤكد على القومية اليهودية القائمة على العرق والعنصر والاصطفاء وحرمان الشعوب الأخرى من الوجود لأنهم، كما يذكر التلمود، ليسوا مخلوقات أو كائنات إلهية، وإذا تأملنا محتويات هذا الكتاب وتعاليمه وشرائعه التي هي مجرد تفاسير وشروح وتعليقات لا تنتهي، أدركنا أن ما جاء فيه يعتمد على ماجاء في التوراة – التي بين أيدينا – أي الشريعة المكتوبة التي يدعي الأحبار والحاخامون بأنهم الموكلون والمؤهلون لتفسير الشريعة الشفهية التي تلقاها موسى ( عليه السلام ) وتدوينها، الشريعة الشفهية التي تُركت للأحبار والربانيين الذين سيعملون، يوما ما، على توضيحها على نحو اجتهاد يتحمل التعليق والشرح، وعلى الرغم من أن بعض المجتهدين في نطاق تأويل ما جاء في التوراة رفضوا ما جاء في كتاب التلمود واعتبروه تلفيقا وتحريضا وتزويرا للتوراة، لكن الغالبية العظمى من اليهود يأخذون به على نحو يجعلونه متساويا مع التوراة ومنسجما مع الشريعة المكتوبة..

ويرى بعض الباحثين المتخصصين أن التوراة والتلمود كتابا واحدا ينقسم إلى مجلدين يتميز كل منهما بخلفيتين: في الخلفية الأولى، يتحدث الكتاب عن الشعب الإسرائيلي الذي سيصبح في وقت لاحق الشـــــــــعب اليهودي الذي اصطفاه إلههم ( يهوه ) ليكون شعبه الخاص وجعله الممثل الوحيد له في العالم الأرضي، وفي الخلفية الثانية يتحدث الكتاب عن الخطة أو الطريقة التي تساعد على احتفاظ هذا الشعب اليهودي بخصوصيته التي تميز بها نتيجة لاصطفاء الهه (يهوه ) له وبقائه تحت رعايته في كل الأزمنة والظروف..

على هذا الأساس يعتبر الكتابان أطروحة طقسية – سياسية، وفي هذا المنظور تؤسس الحركة الصهيونية قاعدتها وتركز منهجيتها أولا بالاعتماد على دولة عظمى كانت بريطانيا سابقا وألان الولايات المتحدة، من اجل أقامة دولة إسرائيل الكبرى ومن ثم ارض إسرائيل العظمى حسب الأساطير التوراتية والتلمودية واستباحة دماء الاغيار والتضحية بهم لبناء مملكة العدالة والحرية ( أورشليم الجديدة ) وتوظيف التاريخ لخدمة هذه الأهداف السياسية، فالتاريخ بالنسبة للحركة الصهيونية هو التوراة والتلمود وبروتوكولات ( حكماء ) صهيون، من هنا استمدت الصهيونية جانبا من فلسفتها من التراث اليهودي الذي يقوم على أساس عزل اليهودي عن غير اليهودي، وقد تم هذا العزل من خلال مجموعة من المفاهيم الدينية، والتلمودية بشكل خاص، والتي فسرت تفسيرا عنصريا قوميا ومن أهم هذه المفاهيم خصوصية الإله وخصوصية العهد والاختيار الإلهي وخصوصية الخلاص الإلهي.

وقد أدت الترجمة العنصرية للمفاهيم الدينية إلى تحويل اليهودية إلى ديانة قومية خاصة والى تكوين صورة سلبية للآخر غير اليهودي تصل في قمتها إلى التعبير عن الرغبة في دماره وإبادته لان الخلاص الخاص الذي يحققه الرب لجماعته الخاصة يقابله دمار شامل لأعداء الرب ويمثل هؤلاء الأعداء بقية البشرية، وبمرور الزمن انتقل هذا الفكر الديني التلمودي ( القومي ) وفلسفته إلى الصهيونية الحديثة وأصبح دعامة أساسية من دعائم الإستراتيجية الإسرائيلية بجوانبها العسكرية والسياسية والثقافية، ومع أن الصهيونية الحديثة قامت غالبا على أكتاف اليهود العلمانيين وان هذه الصهيونية كانت تمثل مرجعيتهم الأولى، فقد تم توظيف الرافد التراثي الديني التلمودي لخدمة المصالح القومية للصهيونية وبخاصة الجناح السياسي وأداته العسكرية والذي لم يؤمن بالمعطيات التراثية الدينية لكنه وظفها لخدمة المشروع الصهيوني وأهدافه القومية.. والشيء الأخر الذي نشير إليه هو أن الصهيونية استخدمت النظريات العرقية الغربية لتبرير نقل اليهود المنبوذين من أوربا وتبرير إبادة السكان الأصليين، وهكذا اخذ الفكر الديني ألتلمودي بهذه النظرية العنصرية وطبقها حرفيا في طرح برامج التعامل مع العرب وبرر غزو فلسطين وطرد سكانها الأصليين منها أو أبادتهم بنفس النظرية التبريرية الاستعمارية وتكونت الرؤية اليهودية ( ببعديها الصهيوني والإسرائيلي ) للعربي الفلسطيني وللعربي عموما من عنصرين:
الأول: يعتبر العربي عضوا في الشعوب الشرقية الملونة المتخلفة..

الثاني: يرى في العربي ممثلا للاغيار، ووفق هذه الرؤية، فان العربي شخصية متخلفة يجب نقلها إلى المدنية والحضارة على يد الحركة الصهيونية التلمودية التي ترى اليهودي عضوا في الحضارة الغربية منتميا إلى الجنس الأبيض وموضع القداسة، وقد عبرت الكتابات الأدبية العبرية العديدة عن هذه النظرية الصهيونية ورؤيتها للعربي المتخلف كمقابل لليهودي الأبيض، وقد وردت تعبيرات كثيرة لهذا التصور في كتابات مفكري وفلاسفة اليهود أمثال (موســـى هيز) و( تيودور هرتزل ) و( حاييم وازمان ) و( جابوتنسكي ) و( دافيد بن غوريون ) وغيرهم..

وإسرائيل، حسب النظرية الصهيونية التلمودية، مضطرة إلى الاختيار بين الاستعمار الاستيطاني كهوية وتصبح دولة عنصرية رسمية يقوم نظامها على التمييز العنصري أو التخلص من الآلية والروح الاستعمارية والاستيطانية، ويشير التوجه الإسرائيلي الحالي إلى تأكيد وضع الدولة العنصرية بشكل رسمي من خلال سيطرة اليمين اليهودي المتطرف، الذي تبني الأيديولوجية التلمودية الموجهة ضد الفلسطينيين والعرب وينمي العقيدة العنصرية النظامية من خلال تطوير نظـــــرية لا سامية العرب وإسقاط اللاسامية الأوربية على العرب..

الخلاصة والاستنتاج

لقد عمدت اليهودية العالمية، ومن ثم الحركة الصهيونية، على التحرك لتحقيق أهدافها من خلال السيطرة على مجالات الثقافة والصحافة والفكر ودوائر المعارف الغربية وراحت تروج لمشروعها ببعث تراثها التلمودي القديم في محاولة لتقديمه للبشرية في صورة علمية حديثة، وعلى شكل نظريات وأيديولوجيات ومذاهب وضعت في دقة وبراعة، بحيث أمكن أن تبدو في صورة محايدة فترة طويلة من الزمن قبل أن ينكشف زيفها وهدفها المسموم ومصدرها التلمودي المادي الوثني القديم.. وقد عمدت إلى تقديم خطتها على أنها ليست من عمل اليهودية الصهيونية المعاصرة ( بمطامعها وأحقادها ) وإنما على أنها عمل متصل بالكتب المقدسة القديمة التي هي موضع تقدير المجتمع الغربي المتدين، وكان ذلك حين حاولوا الربط بين العهد القديم والعهد الجديد في كتاب واحد في مجلد جامع منذ ذلك الوقت البعيد، الذي يمتد إلى عصر ما قبل الثورة الفرنسية، والذي كان موضع قداسة لدى الطوائف الدينية في انكلترا والولايات المتحدة وأجزاء من أوربا، وما يتصل بذلك من فرض على المناهج التعليمية في تلك البلاد، بحيث تتلقى الأجيال الجديدة هذه الفكرة على أنها عقيدة: فكرة ميراث اليهود لأبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام من طريق ابنه إسحاق وحجب ابنه الأكبر إسماعيل وما يتصل بهجرة إبراهيم وإسماعيل إلى الجزيرة العربية وتجديد بناء الكعبة وما يتصل بارتباط العرب بإسماعيل وإبراهيم جيلا بعد جيل حتى ظهور الإسلام على يد خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم.. ولقد نشأت هذه الأجيال على الإيمان بتلك الفكرة التي صاغها كتاب التوراة حين أعادوا كتابتها خلال وجودهم في بابل وعلى يد كبيرهم ( عزرا ) وهناك قاموا بتحريف التوراة ووضعوا هذه الفكرة العنصرية التي تتفق مع دعوتهم التضليلية ( شعب الله المختار ) وأقاموها على أساس أن وعد الله لإبراهيم عليه السلام في أبنائه بامتلاك هذه الأرض، هذا الوعد قاصر على ابنه إسحاق وذريته وحدهم، ومن هنا يجيء هذا الادعاء التاريخي الباطل بحقهم في العودة إلى ارض الميعاد..وفي ضوء جهودهم هذه فان اليهود لم ينجحوا في غزو العالم العربي وتحريك القوى العالمية في اتجاه مصالحهم اعتباطا أو صدفة وإنما كان ذلك عن تخطيط مدروس وبأساليب غاية في الخبث والدهاء والشمول، وقد تحركت التلمودية الصهيونية على ثلاث جبهات شملت العالم كله:
1. الحركة الاولى: في اتجاه المسيحية والغرب وذلك عن طريق الماسونية وحصيلتها الثورة الفرنسية التي أفرزت نشوء حركة الهاسكالاه اليــــهودية بزعامة ( مندلسون ) والتي دعت اليهود إلى خرق الجيتو والاندماج بالمجتمعات الغربية وإحياء اللغة العبرية والتفكير بإنشاء وطن قومي لليهود، كما ساهمت هذه الثورة بكسر قوانين الكنيسة التي كانت تحجزهم عن الاشتراك في الحياة الاجتماعية والسياسية ومن ثم أتاحت لهم تملك وجوه النشاط الثقافي والصحفي والاجتماعي ومن ثم السيطرة على رجال الحكم والسياسة..

2. الحركة الثانية: في اتجاه الارثودوكسية وروسيا وذلك عن طريق الماركسية وثمرتها الحركة الشيوعية..وتجلى هذا بإسقاط القيصرية وإقامة البولشفية في روسيا.. وبذلك أصبح لليهود نظام مواجه للرأسمالية التي كانوا هم صناعها من قبل ووضع العالم كله بين فكي أسد..
3. الحركة الثالثة: في اتجاه الدولة العثمانية والعالم الإسلامي وذلك عن طريق الماسونية وثمرتها الحركة الصهيونية التي طرحت برنامجها الاستيطاني العنصري في مؤتمرها الأول ببازل بسويسرا..وتجلى هذا بإسقاط الدولة العثمانية والخلافة، وبذلك انفتح الطريق أمام يهود العالم إلى فلســــــــــــــطين وإقامة الدولة اليهودية في القدس..

من هنا نجد ان اليهودية العالمية هي أم لثلاثة توائم: الماسونية والماركسية والصهيونية.. الماسونية التي فتحت الطريق أمام السيطرة العالمية والماركسية التي أقامت الصراع العالمي والصهيونية التي أسست دولة في قلب العالم العربي الإسلامي..

وأخيرا نقول أن النجاح الذي حققته التلمودية الصهيونية سوف لن يستمر بعون الله لان العرب والمسلمون قد عرفوا الطريق الصحيح إلى المواجهة مع الصهيونية، رغم حالة الضعف التي هم عليها الآن، ورغم محاولاتها حصر التعامل مع فلسطين في دائرة قومية أو عربية، إلا أن هناك من العرب والمسلمين من نقل فكرة الصراع لتشمل الدائرة العربية والإسلامية والإنسانية حتى وان كانت هذه الحركة بطيئة أو غير فعالة في الوقت الحاضر، ومن الحقائق التي تكشفت أمامهم هي أن الصهيونية لم تنجح في إقامة إسرائيل إلا لضعفهم وسيطرة الأطماع المادية والشخصية عليهم وانقسام حكامهم وساستهم وانفصام عرى الوحدة بينهم، لكننا نعتقد أن تجربة الحروب الصليبية ما تزال قائمة أمامهم ولا بد أن يأتي اليوم الذي يتعلمون فيه من هذه التجربة وان يعرفوا ويقرروا أن طريق الوحدة والتكامل والترابط في مواجهة الصهيونية ورص الصفوف وتناسي الخلافات وتغليب المصلحة القومية العليا على المصالح الأنانية الضيقة هو وحده منطلق النصر ولقد اصطنعه صلاح الدين فحقق لهم الخروج من الأزمة وقوامه العودة إلى منهج الإسلام وتطبيق شريعته ونظامه التربوي وإقامة فريضة الجهاد كمعلم بارز من معالم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وان الباحث عندما يطرح هذا الأمر على علم تام بان الصهيونية والامبريالية وقوى الشر تسعى للحيلولة دون تحقيق ذلك، لكنه واثق بعون الله من تمكن العرب والمسلمين في يوم ما، ولعله قريب بعون الله، من تجاور حالة ضعفهم وواقعهم المؤلم لأنهم يؤمنون إيمانا مطلقا بان لا سبيل لتحرير فلسطين إلا بالتخلص من سيطرة الأفكار الدخيلة عليهم والتحرر من الأنانية والخوف والرهبة من سطوة القوى الدولية المتحكمة وان قراءته العلمية والدقيقة للتاريخ تؤكد أن الشعوب المظلومة والمضطهدة والمغلوب على أمرها وطلائعها النخبوية لابد وان يبلغوا في لحظة معينة أو في زمن معين نقطة الوعي والإدراك لحقيقة الواقع المؤلم وعندها سوف يتحررون من الرهبة والخوف ويتحركون بإرادة ووعي واتكال على الله وعلى قواهم الذاتية لتصحيح مسارات اللعبة السياسية القذرة التي تديرها الحركة الصهيونية والولايات المتحدة وقوى الشر الأخرى دون خوف أو تردد..

مراجع

1.أنور الجندي، المخططات التلمودية الصهيونية اليهودية في غزو الفكر الإسلامي، دار الاعتصام، القاهرة، بدون سنة طبع

2. الدكتور اسعد رزوق، التلمود والصهيونية، منظمة التحرير الفلسطينية – مركز الأبحاث – بيروت، تشرين الثاني 1970

3. عبدالوهاب محمد الجبوري، فلسفة الحرب عند اليهود وانعكاساتها في الأدب العبري المعاصر، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية اللغات / جامعة بغداد 2005

4. منير العكش، الأساطير العبرية التي تأسست عليها أمريكا، جريدة المدار، العدد 32، 31/ 7/ 2004

5. دكتور كامل سعفان، اليهود تاريخا وعقيدة، دار الاعتصام، القاهرة

6. دكتور حسن ظاظا، الفكر الديني الإسرائيلي، القاهرة، 1971

7. الكتاب المقدس، إصدار دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، ط1، 1993

8. دكتور ابراهيم موسى هنداوي، الاثر العربي في الفكر اليهودي، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى