السبت ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧

الجواهري.. مجمع الأضداد

عزمي خميس - الأردن

رغم قامته الشعرية الشاهقة التي ظلت حاضرة بقوة طوال القرن العشرين، إلا أن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري لم ينل حظه الذي يستحقه من الاهتمام والدراسة قياسا الى عطائه الشعري المميز الذي ظل محتفظا بحيويته وتطور أدواته، حتى بعد صعود موجة الشعر الحر (شعر التفعيلة) الذي صبغ الانتاج الشعري العربي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك أن الجواهري الذي ظل وفيا للشعر العمودي ربما كان الشاعر الوحيد من الكلاسيكيين الذي اقترب بالقصيدة العمودية من القيم والحساسيات المعاصرة التي صبغت شعر التفعيلة عموما، والشعر الحديث خصوصا. لهذا ليس غريبا أن يستقطب الجواهري الدارسين والنقاد، بل إن شعره ما يزال بحاجة إلى التحليل والدرس للوقوف على ما فيه من مضامين وأساليب ولغة ومميزات.

من هنا تأتي دراسة د.سليمان جبران المعنونة مجمع الأضداد.. دراسة في سيرة الجواهري وشعره ، لتشكل إضافة نوعية تضيء جوانب من شاعرية الجواهري وعلاقتها بحياته المليئة بالأحداث والتقلبات والتناقضات.
يتتبع المؤلف في المدخل سيرة حياة الجواهري منذ مولده في بداية القرن العشرين أو نهاية القرن التاشع عشر على اختلاف الروايات، والبيئة التي نشأ فيها، وهي بيئة النجف التي تميزت بأنها بلد الدين والثورة والأدب، بوصفها أحد أهم مراكز الشيعة التي تحوي مراكز العلم والفكر، وربما - كما يعتقد المؤلف - أن العامل الديني والطائفي في نشأة الجواهري هو الذي دفع لإهمال كل ما يتصل بالنجف والجواهري وتاريخ الشعر العراقي الحديث، ذلك أن الحديث عن النجف وعن هيمنة الدين عليها وعن المؤسسات الدينية فيها، هو في الواقع حديث عن الشيعة وعن التراث الشيعي وعن المؤسسات الشيعية أيضا.

إضافة إلى أن علاقة السلطة المركزية في بغداد مع النجف ظلت مضطربة على الدوام، مما ولّد لدى الشيعة احساسا بالغبن التاريخي والاضطهاد السياسي الاجتماعي مما كان يؤجج روح الثورة والتمرد لديهم سواء أيام الحكم العثماني أو الاحتلال الانجليزي مطلع القرن العشرين.
نشأ الجواهري في هذه البيئة العلمية المشبعة بروح الثورة والتمرد ومقاومة الانجليز، اضافة الى تفتح عينيه على مجالس الشعر والأدب التي كانت زادا يوميا للناس، حيث الشعر يتلى في كل مناسبة ويتبارز الشعراء والمثقفون في روايته وإنشاده.

وكان الجواهري منذ صغره مهووسا بالشعر والأدب، يطالع كتب التراث ويحفظ الأشعار كما لم يحفظها شاعر آخر. فقد تحدث مؤرخو الجواهري عن حافظته وذكروا فيها العجب العجاب، ولم يقتصر على هذا، بل اطلع على الأدب الحديث والترجمات للأعمال العالمية، وبدأ يكتب الشعر وينشر في الصحف العراقية وبعدها في المجلات اللبنانية والمصرية منذ العشرينيات من عمره، إذ خلّد في أشعاره كل الأحداث التي عصفت بالعراق والعالم العربي، كما تنقل من النجف الى إيران ثم الى بغداد التي أقام فيها منذ العام 1927، وعمل في التعليم ثم انتقل الى بلاط الملك فيصل الأول حيث التقى بالسياسة ورجالها، وظل في هذا البلاط ثلاث سنوات عادت حياته بعدها للاضطراب. فقد عمل في التدريس والصحافة وتعلق بالأفكار التقدمية والثورية، وخصوصا ما تمثله صحيفة الأهالي .

ورغم حب الجواهري للأفكار الثورية وروح التمرد التي كان عليها، إلا أن حب السلطة ظل يسكن حيزا واضحا من نفسه. وربما بسبب هذه التناقضات التي تسكنه ظل يتنقل من وظيفة لأخرى، خصوصا في سلك التعليم، كما ظل يعاني من تقلبات السياسة في العراق ويعاني من تقلبات مواقفه أيضا. وقد أصدر في تلك الفترة أكثر من صحيفة منها: الرأي العام و الانقلاب و الفرات . كما شارك في تأسيس عدد من الأحزاب، خصوصا حزب الاتحاد الوطني، ودخل البرلمان الذي كان يحلم بدخوله، فجمع بالفعل كل المتناقضات: المعارضة وحب السلطة. وظل هذا دأبه بين المعارضة والموالاة سواء أيام الحكم الملكي أو بعد انقلاب العام 1958 وما تلاه من اضطرابات وتقلبات. فقد غادر العراق الى تشيكوسلوفاكيا التي قضى فيها سبع سنوات ثم عاد الى العراق ثم خرج منه وهكذا حتى وافته المنية في دمشق في العام 1998.
وقد تتبع المؤلف مراحل تطور شعر الجواهري ووجد أنها تنقسم الى ثلاث مراحل محددة تختلف الواحدة عن الأخرى اختلافا واضحا سواء في رؤية الشاعر أو موضوعات قصائده ومقوماتها الفنية.

يسمّي المؤلف المرحلة الأولى مرحلةَ الرؤية التقليدية ، وتمتد منذ أن بدأ الشاعر نشر قصائده في أوائل العشرينيات حتى رحيله الى بغداد ودخوله بلاط الملك فيصل الأول موظفا في دائرة التشريفات سنة 1927. وقد تميزت هذه المرحلة بأنها لم تشهد أي تجديد في رؤية الشاعر أو موضوعات قصائده وسماتها الفنية. فقد كان الجواهري في بداية الطريق يستكمل عدته الثقافية والفنية، ولذلك كان يسير على نهج الأقدمين إيقاعا وصياغة في كل ما يكتب، بل يقلدهم أحيانا بكتابة المعارضات شأن الكلاسيكيين الجدد آنذاك.

أما المرحلة الثانية التي تبدأ من دخوله البلاط موظفا وتمتد حتى أوائل الأربعينيات فقد تميزت بالاضطراب الشديد والتناقض أحيانا في سيرة الشاعر وفي رؤيته الفكرية السياسية، وظهر ذلك جليا في أشعاره، لذلك سمّى المؤلف هذه المرحلة مرحلة اضطراب الرؤية ، حيث تقاذفت الجواهريَّ الوظائفُ والأعمال، فلم يستقر في وظيفة ولم تطل اقامته في موقع، إذ سرعان ما يغادره الى غيره. ورغم التفاته الى قضايا الناس السياسية والاجتماعية وتعبيره عن رؤية اصلاحية إلاّ أن هذا لم يخلص الشاعر من طموحاته الذاتية بالجاه والمنصب، وقد عبّر عن ذلك أيضا بصراحة، ومن هنا هذه الازدواجية الواضحة في الرؤية والموقف بين الذات والجماعة، ثم انعكاس هذه الازدواجية على موضوعات شعره وفنه، في المزاوجة بين الجديد والقديم في ايقاع القصيدة ومعجمها الشعري وموضوعاتها، كما تمثل هذا الاضطراب في غزله المكشوف أيضا.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فتبدأ أوائل الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية وما رافقها من أحداث عاصفة في العراق بعد سقوط النظام الملكي ثم مغادرة الشاعر وطنه، وهذه المرحلة تمثل قمة شاعرية الجواهري.

لقد كانت قصائد الجواهري في الأربعينيات تشكل بيانات ثورية عنيفة للنضال الوطني وسلاحا في مقاومة الانجليز والحكم في العراق، بل إن قصائده تخطّت حدود العراق لتشارك في نضال الشعوب العربية الأخرى.

وقد تمثلت هذه المرحلة باليسارية الواضحة في شعره وطروحاته التي برزت من خلال تحريضه الجريء على الإطاحة بالأنظمة والتبشير بالخلاص عن طريق الثورة، مما أكسبه سمات الشاعر الثوري الحقيقي، لكن مواقفه الشخصية لم تَخْلُ من سقطات تناقض رؤيته الثورية وتعكس طموحاته الشخصية.

يقول في قصيدة له كتبها في العام 1927:

العذر يا وطنا أغليت قيمته عن أن يُرى سلعة للبائع الشاري
الكل لاهون عن شكوى وموجدة بما لهم من لبانات وأوطارِ .

ومن قصيدة له في العام 1940 بعنوان أجب أيها القلب التي أثارت قرائح الشعراء حينها يقول:

أجب أيها القلب الذي لست ناطقا إذا لم أشاوره ولست بسامع
وحدِّث فإن القوم يدرون ظاهرا وتخفى عليهم خافيات الدوافع
يظنُّون أن الشعر قبسة قابس متى ما أرادوه وسلعة بائع .

ومن قصيدة له في العام 1951 بعنوان تنويمة الجياع يقول:

نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام
نامي فإن لم تشبعي من يقظة فمن المنام
نامي على زبد الوعود يداف في عسل الكلام .

لقد عالج المؤلف وحلّل ملامح شاعرية الجواهري خلال مراحله كلها، وخصّ المرحلة الثورية بالنصيب الأكبر بوصفها قمة شاعريته، فقد درس مجالات قصائده وموضوعاتها وأشكالها الإيقاعية ومبنى القصيدة وصورها الشعرية التي ميّزت هذه العبقرية الشعرية المتدفقة التي تصاعد مستواها طوال القرن العشرين.

عزمي خميس - الأردن

عن الرأي الأردنية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى