القصة القصيرة جداً في الأردن.. خصائصها وتقنياتها السردية
الابداع سبّاق دائماً على النقد، ولكن النقد يتابعه بالتقويم والتوجيه.. فيكون أن تحدث حالة من الجدل بين الطرفين، تسهم في تطوير العملية الأدبية والفنية، وتعيين حدود أنواعها التي تكاد، خصوصا هذه الأيام، تختفي مع تعاظم حالات التجنيس الابداعية، ومن هنا وجدنا ضرورة تناول شكل أدبي جديد هو القصة القصيرة جداً بهدف الوقوف عند خصائصه الفنية وتقنياته السردية وتبيان حدود نوعه الأدبي.
ظهرت القصة القصيرة جدا في وقت مبكر في آداب أميركا اللاتينية مع بدايات القرن العشرين، لتنتقل بعد ذلك إلى أوروبا الغربية. أما في الوطن العربي فتتفق الآراء بأن بدايات القصة القصيرة جداً قد تشكلت بصورة عفوية متفرقة في خمسينيات القرن الماضي، ولكنها برزت بعد هزيمة حزيران 1967، مثل العديد من ظاهرات التمرد على السائد الثقافي، والتعبير عن الوقائع الجديدة، من خلال أنواع الإبداع الفني والأدبي (1).
أما في الأردن فجاءت البدايات على يد محمود شقير في منتصف السبعينيات (2)، غير أنها لم تستقر وتتكرس كجنس أدبي إلا في تسعينيات القرن الماضي، وبعد أن استفحلت الكوارث مع حصار بيروت وهزيمة المقاومة 1982، ثم حرب الخليج عام 1990، وحصار العراق.. وصولاً إلى حرب الخليج الثانية 2003.
ورغم أن القصة القصيرة جداً مثلها مثل القصة القصيرة العربية قد تناسلت من القصة الموباسانية الغربية، إلا أن جذورها الحقيقية إنما تكمن، أساساً، كما يقول محمد علي سعيد، في الحكاية العربية القديمة، وما يشابهها كالطرائف والأساطير والنكات والأجوبة المسكتة والأخبار والملح والنوادر.
ونضيف: الأمثال الشعبية، ولكن ليس من زاوية البنية الفنية، ولكن من زاوية ما هو متواطأٌ عليه بين الكاتب والقارئ، ويمكن معرفة المقصود منه في سياق المشترك الثقافي بينهما... ذلك أن الأمثال نُحتت أساساً من حادثة ما، وجرى التعبير عنها والاشارة لها على هذا النحو المكثف في المثل الشعبي، كأن تقول: فلان مثل تيس عاهرة ، أو مثل مصيف الغور ، أو للي قالته ليلى، أو طول عمرك يا زبيبة ، أو اللي ما يعرف الصقر بشويه ، أو جاء يكحلها عماها ، أو قالوا للبغل مين ابوك قال الفرس خالي ، أو اللي تعرف ديته اقتله ، أو خلي اللي في القلب يسطح، ولا يبين للناس ويفضح .. فإن استكمال المغزى أو حتى مضمون المثل أو خاتمته موجود في ذهن المستقبل، كما لدى المرسل..
ولكن، ونحن نتحدث عن الأنواع والأجناس الأدبية، قديمها وحديثها، بل حتى عن التجنيس فيما بينها، يظل من الضروري تحديد الحدود، وتعيين الأنواع، والأجناس، حتى لا يختلط الحابل بالنابل، وتتوه المفاهيم والتقسيمات بين الأنواع الأدبية والفنية، خصوصا بوجود تشابهات وتقاطعات عديدة بين الكثير منها: القصيدة وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ثم القصة والقصة القصيرة جدا والخاطرة والمقال الأدبي والوجداني والنص والكتابة، وما أسميته يوما أدب الصفحة الأخيرة الذي كان يكتب في صحف ومجلات المقاومة، وهو نوع من الكتابة السياسية المصاغة بلغة الإبداع الأدبي، وهذا ما تابعه لاحقاً بجماليات أرقى: محمود درويش ومعين بسيسو ثم غادة السمان ونزار قباني ومحمد الماغوط، من دون أن ينسبه أي منهم إلى أحد الأنواع الأدبية المعروفة. وفي نهاية المطاف لا بد أن يندرج فن القصة القصيرة جداً في إطار مفاهيم ومعايير نقدية محددة مثله مثل بقية الأشكال والأنواع الأدبية، وهو ما قصدناه عند اختيار هذا العنوان.
القصة القصيرة جداً، وسنختصرها ب(ق ق ج) تستند في مقوماتها السردية إلى الخاصيات الفنية نفسها في القصة القصيرة.. فثمة حدث وشخصية وفضاء مكاني وبنية زمنية، ولكنها تمتاز بقدرتها على التكثيف الشديد وتعدد حقولها الدلالية، وتنويع أشكالها السردية وقدرتها على إثارة التأويلات المختلفة. ولا شك أن أبرز خصائص فن (ق ق ج) تنهض على تلخيص التجارب الإنسانية وتقطيرها ضمن موقف فكري، وفي أسلوب موجز ومركز على حدث واحد، وهو في ذروة توهجه، وتقديمه بلغة الإيحاء والرمز وليس بصورة صريحة ومباشرة، كما يتسم هذا الفن بالمفارقة وروح الفكاهة والسخرية والتأنيس والنهاية الذكية، وقد قيل: الطرفة هي القليل الذي يحتوي الكثير ، و البلاغة هي الإيجاز . ويتساءل محمد علي سعيد: أليست هذه من صفات القصة القصيرة جدا الحالية، أيضاً؟ (3).
إذا كانت الخاطرة وقصيدة النثر، وهما أقرب الأشكال الأدبية إلى القصة القصيرة جداً، تنتميان إلى عام المجردات من الأفكار والأحاسيس، فإن القصة، على وجه العموم، ورغم كل ما لحقها من أشكال تطويرية، ظلت تنتمي إلى عالم المحسوسات والملموسات، من كائنات وأمكنة وأزمنة، أو هي تقارب هذه الجوانب، وسآتي بمثال من ليلة اكتمال الذئب لمهند العزب، من دون أن ينسبه صاحبه إلى نوع أدبي:
مات ذئب.. وفي مكان قصي بكى غزالٌ شيخوختَه القادمة .
في هذا النص تتقدم الفكرة بمحمولاتها النفسية والرمزية على ما عداها، ولكن عناصر الواقع الملموس تظل حاضرة بقوة.. فثمة غزال، وذئب، وموت، ومكان قصي مضمر هو الغابة، وزمن يمتد إلى الشيخوخة، وثمة ألم وحزن ودموع.. وهذا كله مصاغ كحدث باستخدام الفعل الماضي: مات، بكى.
وشبيه بذلك ما لاحظتُه في المقدمة التي كتبتها لكتاب مهند العزب ليلة اكتمال الذئب من أن كتاباته عبارة عن أفكار مكثفة مصاغة بعبارات سريعة، لتعبر عن رؤيا ما أو خلاصة تجربة.. وربما مجرد التقاطة ذكية لمفارقة ما مثل: تمنى الذئب لو أن الحمل الذي يطارده لا يسقط من التعب . ثم بكى الذئب أمام الحمل أن لا مناص لهما الاثنين ، فكان أن صرخ: في المشهد الكوني لست إلا مثل الغزال الذي أقتل .
ومثله: صرخت الجمرة: بنار من أنا أحترق..؟ ، أو: وحدها بكت الشوكة عندما داسها طفل لم ينتعل حذاءً في حياته . والشوكة نفسها تصرخ أيضاً: أي زور هذا!! الذي داسني هو الذي يصرخ !! .
على هذا النحو المفاجىء يمضي العزب في انفجاراته وتأملاته المدهشة، كي يخبرنا عكس ما نعرف، لنعرف أكثر.. مما يجعلنا نغادر عالم البديهيات البليدة والمعتادة لنرود آفاق جديدة من المعرفة النقيضة للسائد والساكن.. فتنكشف أمامنا ببساطة عميقة عوالم مضيئة من المعرفة المقطرة عن موجودات حياتنا ومفرداتها(4). إن مجموع هذه العناصر الواقعية الملموسة التي يصوغ منها تجاربه المكثفة تجعل من هذه الكتابة قصصاً قصيرة جدا بامتياز.
والآن ماذا عن القصة القصيرة جدا؟
لقد استقر الأمر على هذه التسمية لهذا النوع الأدبي بعد أن أطلقت عليه تسميات ومصطلحات عديدة مثل: القصة الجديدة، القصة الحديثة، القصة اللحظة ، القصة البرقية ، القصة الذرية، القصة الومضة، القصة القصيرة القصيرة، القصة الشعرية، الأقصوصة القصيرة، اللوحة القصصية، مقطوعات قصيرة، بورتريهات، مقاطع قصصية، مشاهد قصصية، فقرات قصصية، ملامح قصصية، خواطر قصصية، إيحاءات،.. إلى أن استقرت التسمية على القصة القصيرة جداً.
وهي قصة وفق شروط وتعريفات الفن القصصي المعروفة، وقصيرة جدا لأن عدد كلماتها، حتى بالنسبة للقصة القصيرة الاعتيادية قليل جدا، وما يستتبع ذلك بالطبع من تأثير في مضامين وتقنيات هذا المكون الأدبي الجديد.. ذلك ان جوهر المسألة لا يقاس بعدد الكلمات فقط، بل بمدى تطابق المضمون المراد تقديمه مع الاقتصاد الوظيفي للغة في القص.. فالقضية في نهاية المطاف، وكما ينبغي أن تكون، ليست قضية تغيير حجم النص المقروء فحسب، فالرغبة الملحة في التغيير، كما تقول د.نبيلة إبراهيم، لا بد أن يكون وراءها دوافع جوهرية نابعة من متغيرات الحياة التي نعيشها (5).
لنأخذ على سبيل المثال آخر مجموعة قصصية صدرت في الأردن (2006)، وهي بعنوان مزيدا من الوحشة (6)، وتحتوي وفق تقسيمات الكاتبة على 32 قصة قصيرة جداً، وسنكتشف أن هذه القصص كتبتها امرأة تدلف نحو زمن الكهولة، مع بدايات الألفية الثالثة، في ظل انهيار عربي مريع.. وسنلحظ أن هذه المجموعة تنتمي إلى زمن نفسي واحد، وتؤشر بجلاء إلى كتابتها تحت وطأة هذا الزمن: زمن الوحشة والكآبة واليأس، وحيث البطلة المرهفة تحاول، بما تملك من عزيمة الروح الشابة، التشبث بالقمة الحادة كنصل السكين، م دون جدوى، إذ لا تلبث أن تنزلق عن الحافة نحو زمن الأفول.. فيما هي تحلم بالارتداد نحو المنزلق المقابل نحو زمن الطفولة، حيث حضن الجدة التي تهدهدها بالحكايات، من دون أن تصارحها، مرة واحدة، بسر الشيخوخة والموت الذي يأتي.
وتكاد القصص بمجموعها تعكس هذه الروح المجرّحة في زمن الكآبة والهزيمة، وهي حين تريد أن تستقوي بالذكريات المفعمة بحيوية الشباب فإنها لا تجد بين أصابعها سوى قبض الريح، وربما تعثر على ريشة ترسم بها أجنحة محلقة، فوق جدران زنزانتها.
ولعل مثل هذه الروح الملتاعة والمتشظية، في زمن عصيب شديد التوتر والتسارع، ستجد في هذه النفثات الشعرية الحارة التي تأخذ شكل القصة القصيرة جدا ما يعبر عن هذه الحالة المشظاة. ومن هذا الموضوعي كله يستمد اختيار بسمة النسور مشروعيته الفنية.
هنا نصل إلى معاينة نظام السرد في القصة القصيرة جدا:
تتميز الجمل الموظفة في معظم النصوص القصصية القصيرة جدا، على وجه العموم، بالجمل الموجزة والبسيطة في وظائفها السردية والحكائية، حيث تتحول إلى وظائف وحوافز حرة من دون أن تلتصق بالإسهاب الوصفي والمشاهد المستطردة التي تعيق نمو الأحداث وصيرورتها الجدلية الديناميكية، كما يقول الناقد المغربي جميل حمداوي، الذي يضيف: إذا وجدت جمل مركبة ومتداخلة فإنها تتخذ طابعا كميا محدودا في الأصوات والكلمات والفواصل المتعاقبة امتدادا وتوازيا وتعاقبا (7).
وتمتاز هذه الجمل بخاصية الحركة وسمة التوتر والإيحاء الناتج عن الإكثار من الجمل الفعلية، كما سنلاحظ ذلك عند معاينة قصص بسمة النسور القصيرة جدا، وذلك على حساب الجمل الاسمية الدالة على الثبات والديمومة وبطء الإيقاع الوصفي. ويتميز الإيقاع القصصي كذلك بحدة السرعة والإيجاز والاختصار والارتكان إلى الإضمار والحذف، فيصبح المتلقي شريكا في تأويل النص وفق مكوناته الثقافية والنفسية ومرجعياته الأيديولوجية.
وتمتاز (ق ق ج) بتشغيل التناص واستخدام الذاكرة ومخاطبة الذهن مع دغدغة العاطفة والوجدان. كما يتضمن هذا الفن الجديد ما يتضمنه الخطاب السردي بصفة عامة من أحداث وشخوص وفضاء ووصف ورؤية سردية وتنويع الأزمنة السردية والصياغات الأسلوبية واللغوية. بيد أن الوصف في هذا الفن الجديد يمتاز بالإيجاز والإيحاء والتلميح وقلة التشخيص وكثرة التكثيف، كما تتسم الأحداث بكونها وظائف رئيسة وأساسية، يستغني فيها الكاتب عن كل الأحداث الثانوية وغير المهمة (8).
في مجموعة بسمة النسور القصيرة جداً مزيدا من الوحشة والتي راوح عدد كلمات كل قصة منها بين 7 و 75 كلمة، ثمة، على الأغلب، هذه العناصر والمكونات.
في قصتها أدوار ، وتتألف من 7 كلمات نقرأ:
– هو: يواصل ارتكاب الخطايا.
– هي: تواصل الغفران .
نحن هنا أمام خلاصة تجربة مكثفة لعلاقة إنسانية مديدة، ومن دون الدخول بتفاصيل ما جرى وأسبابه وحيثياته، ولكن عُبّر عنه بما يشبه الفكرة المكثفة أو الومضة أو اللقطة، ولكنها كي تنتمي لعالم القص فإننا نجد أيضاً ما يشبه حواراً ضمنياً بين رجل وامرأة في مكان ما، كما نرى فعل الخطيئة وفعل الغفران، في حالة امتداد زمني، وذلك لاستمرار فعلي المضارع: يواصل وتواصل.. بل ويبدو في تركيبة النص ما يشبه مقدمة القصة وخاتمتها الدرامية المفاجئة، كما تتضمن موقفاً واضحاً وإدانة حاسمة.. فثمة رجل خاطئ بلا هوادة، وثمة امرأة متسامحة بلا حدود. وهكذا يمكن بمقتصد الكلام شديد الإيحاء والتأثير التعبير عن واقعة حياة تشتمل أكبر المسائل وأكثرها تعقيداً.
ولكن في حالة كون الفكرة مجردة، وبمعزل عن مدى إبهارها وتفوقها، فإنه يصعب نسبتها إلى عالم القصة، مثل: الوردة التي خطفت الأبصار حين اكتمل تفتحها، الوردة نفسها بدأت أوراقها بالتساقط الواحدة إثر الأخرى . ولكن بالطبع ليس من السهل إيجاد فروقات حاسمة بين النوعين، خصوصا مع سهولة التأويل والترميز!
إذا كانت القصة القصيرة جدا تعتمد الاقتصاد باللغة والتكثيف الشديد للمعنى، على مستوى الشكل، وبما يشبه قصيدة النثر.. فإنها تنبني، من حيث المضمون على ما أسماه د.إحسان عباس، ب نقطة تحول وغرابة ومفاجأة ومفارقة (9)، وكلها عناصر والتقاطات مثيرة ومدهشة تنتمي لعالم القصة القصيرة في مرحلتها ما قبل الأخيرة، أعني ما قبل القصة القصيرة جدا. وبعيداً بالطبع عن الشكل الكلاسيكي المعروف.
في تعيين الفارق النوعي بين الخاطرة أو قصيدة النثر وبين القصة القصيرة جدا تتقدم الأفعال، خصوصا الماضية منها، لتعطي للكتابة نكهة (سرد) الحادثة أو الحكاية، ولكن لا مكان بالطبع لمدخل وحبكة وذروة وخاتمة.. فهذا ترف الزمن الجميل، وهو ليس متاحاً الآن في زمن يلهث من شدة تسارع الأشياء.. فيكون أن يتقدم الشعر، بانزياحاته ومدهشاته، ليعبر عن هذا التجنيس أو هذا الجدل الجميل بين القصة وقصيدة النثر.
في قصص بسمة نسور مزيدا من الوحشة تحضر الأفعال الماضية بقوة مما يعطي لالتقاطة الفكرة أو المفارقة شكل الحكاية.. إن ارتباط عملية القص بالفعل الماضي، على الأغلب، يربط القصة القصيرة جدا بعالم الحكاية وبالجدات الشهرزادات وهن يروين: كان يا ما كان (10).
في هذه القصص وكي يظل الشكل وثيق الصلة بعالم القصة والحكاية نجد بسمة النسور، وبالطبع ليس بقرار مسبق، تذهب إلى روح الحكاية كي تخبرنا ما حدث، حتى لو كان هذا الذي حدث مجرد فكرة خطرت لها.
من هنا نلحظ أن قصصها القصيرة جدا وعددها (32)، تبدأ (22) قصة منها بالفعل الماضي، رغم خلو بعضها من عنصر السرد الحكائي، فيما تبدأ (10) قصص بالفعل المضارع، ولكن للحديث عن الماضي على الأرجح.
الماضي: حين استقر، استغرب، ظل، طالما تباهى، في الليلة ذاتها حلمت الأم، خبأت، حين استجمعت، تحدث، المرأة التي أكد لها، غافلت، خانها، منذ الطفولة كان مفتونا، كانت، حين رفعت، قال، قالت، هوت، قال، انتاب، الوردة التي خطفت، حين ثارت، كان.
المضارع: كل ليلة يجلس، الجزار الذي يحرص، لم يكن، موظفة المكتبة التي تنتظر، أنت لا تحزم، هو: يواصل، يبدو أنه، يحاول، الصبية... تجهل، ما إن يغادر.
أي أن كل قصص المجموعة القصيرة جدا بدأ معظمها بالفعل الماضي، وما تبقى بالفعل المضارع، ولكن بدلالة الماضي، وهذه، كما قلنا، هي خاصية السرد القصصي المسكون بعملية الإخبار عن فعل أو حدث ما، وقع، وبمعزل عن حجم الواقعة المرويّة نفسها أو تفاصيلها.
ولكي توصل بسمة النسور ما تريد البوح به، أو التحريض ضده، فإنها تلجأ لأساليب وتقنيات متعددة ومتنوعة كالترميز، والتجنيس، والتناص، والسخرية، واللوحة، وأنسنة الأشياء، ثم الشعرية، بانزياحاتها، ومجازاتها، واستعاراتها، وإيقاعاتها.. الخ..
لقد استعانت القاصة/ المرأة هنا بتقنية القصة القصيرة جدا كي تقول بإيجاز وترميز ما ترغب البوح به بأقل ما يمكن من الخسائر في مجتمع محافظ، مما يضيف ضرورة أخرى لاجتراح هذا النوع الأدبي لدى الكاتبة الممقموعة والمهمشة من الرجل والمجتمع ، وكذا الكاتب المقموع من تراتبيات السلطة القمعية.
ولقد لاحظنا في دراستنا لتجربة بسمة النسور كيف يحتل هاجس المرأة على إطلاقه مساحة الكتابة، كما عند الغالبية الساحقة من الكاتبات: المرأة العاشقة، المرأة المستلبة، المرأة المنتظرة، المرأة الزوجة، المرأة اليائسة، المرأة غريبة الأطوار، المرأة المريضة، المرأة المحتضرة، المرأة الأم: أم البنت، أم الشاب.. الخ.. غير أن قضية المرأة المضطهدة وصراعها مع الرجل تشكل، في عدد من الإشارات، عصب المجموعات النسوية، وهي من هذا الموقع تخوض حرباً ضروساً ضد الرجل، وتواصل كيل هجائياتها الساخرة له، وفي خضم هذه الحرب، ورغم كل هجائياتها للرجل، ورغم بحثها الملتاع عن الحرية، تظل المرأة مشدودة إلى هذه الثنائية القدرية التي لا تستطيع منها فكاكاً.. إنه هذا الغراء الكوني الذي يجذب الأنثى للذكر، والاستعارة من مشنقة سهير التل (11).. فلا بديل أو مناص، وهنا بالضبط تبرز السخرية كضرورة لا غنى عنها لتصوير هذه المفارقة القدرية، وبالمناسبة فإن السخرية هي واحدة من السمات الأساسية في القصة القصيرة جدا.
إن القصة القصيرة جدا لم تتشكل، وفق شرطها الموضوعي، لمجرد أن تضيف جديدا للسرد، بل هي بالأساس موقف ورؤيا من الحياة، ولذلك فإننا نجدها، في أفضل تجلياتها، مسكونة بهاجس الإنسان، وضد كل ما يتعرض له من امتهان وقمع، رجلاً كان أو امرأة، ومن هنا ربما كان الترميز والسخرية والشعرية التحريضية من سماتها الغالبة.
ولعلنا من خلال متابعة تعريفات عدد من القصاصين العرب لهذا الفن الجديد يمكننا تلمس المزيد من المفاهيم التي تشغل أصحاب هذه القصص وتحدد رؤاهم الابداعية على جانبي الشكل والمضمون، على طريقة وشهد شاهد من أهلها :
– حسين المناصرة: يمكن تعريف القصة القصيرة جداً على أساس أنها بضعة أسطر تشكل نصاً سردياً مكثفاً .
– جميل حمداوي: القصة القصيرة جدا جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والمقصدية الرمزية، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار .
– طلعت سقيرق: القصة القصيرة جداً، هي القصة التي تقدم الحدث والحبكة والشخصيات في سطور قليلة .
– كوليت خوري: إنّ نصوص القصة القصيرة جداً ما هي إلا مقطوعات صغيرة.. قد نعدّها شعراً.. وقد نظنها عبراً.. وفي أيامنا هذه قد نسميها قصصاً قصيرة.. قصيرة قصيرة.. .
– نضال الصالح: أبرز ما اتسمت به كتابة زكريا تامر خلوّها من الحوافز الحرة، أو الفائض الحكائي، فقد كان من أبرز ما اتسمت به أيضاً وعي مبدعها بأنّ القصّة القصيرة فنّ الكثافة الإنسانية والإبداعية بآن، ولعلّ ذلك ما يعلّل دأبه، على إنجاز قصصه بروح صائغ ينكبّ على جواهره ويجلوها بصبر وأناة .
– أميمة الناصر: في القصة القصيرة جداً بات السؤال خاطفاً ، وكذلك الجواب. اختزلت اللغة نفسها، تساقط الكثير من الفائض وما بقي في النص تشبع بفضاءاته وألوانه، هكذا أضحت قصصي .
– أنيسة عبود: القصة القصيرة جداً نتيجة حتمية لتطور القصة القصيرة ولتحول الحياة اليومية للفرد، إنها كقصيدة النثر، وليدة حالة ملحة تعبر عن زمن آت، سريع مكثف، لماح وجارح. إنها تشبه القصيدة الومضة. ولكن هذه القصة لم تؤكد وجودها كحالة مستقلة.. .
– حنان درويش: القصة القصيرة جداً تكثيف لأحداث ومواقف وأفعال.. إنها مرآة الومضة، وفيها يستطيع القاص أن يقول الكثير في كلمات قليلة .
– محمود شقير: هذا اللون من القصص يعتمد التقشف في اللغة والتكثيف والشاعرية، والمفارقات أيضاً، وينتهي عادة نهاية مدهشة أو صادمة للمتلقي. أعتقد أن القصة القصيرة جداً تشبه طلقة الصياد التي تنطلق إلى هدفها بسرعة خارقة وتصيب الهدف من دون تردد. وثمة خوف على القصة القصيرة جداً من انزلاقها إلى الخاطرة الوجدانية أو إلى قصيدة النثر .
– يوسف حطيني: إن الشكل النهائي للقصة القصيرة جداً مرهون بالمبدعين وليس بالنقاد، لأن النقاد يضعون القواعد من أجل أن يتجاوزها المبدع لا من أجل التقيد بها .
– باسم عبدو: القصة القصيرة جداً جنس حديث نوعاً ما، وهي من الأجناس الإبداعية التي ظهرت في سوريا في عقد الستينيات من القرن الماضي، ولكن بدأ هذا الجنس الأدبي يأخذ مكانه الآن في الساحة الأدبية، وهناك تقارب وتشابه بينها وبين قصيدة النثر .
– نور الدين الهاشمي: هذا الشكل الأدبي سيبقى وسيستمر لأن الفن متنوع كتنوع الطبيعة والحياة ولا ويجوز أن نحكم عليه بالإعدام أو الموت.. وهذا النوع سيخضع للعديد من التغيرات سواء ما يتعلق منها بالمضمون أو بالشكل، والقصة القصيرة جداً ستكون أكثر تكثيفاً وسيكون للحكاية دور أساسي فيها .
– ندى الدانا: القصة القصيرة جداً هي لقطات من الحياة أشبه بالتصوير الفوتوغرافي أو بالمشهد السينمائي. وتتميز بالتكثيف والتركيز واختزال معانٍ كثيرة في أسطر قليلة.. أحياناً تقترب من الحكمة ولا تكونها.. وأحياناً تقترب من الطلقة المصوبة ببراعة.. وبإمكانها التقاط تفاصيل كثيرة من الحياة مهمة جداً، رغم أنها تبدو هامشية.. .
– حكيمة الحربي: إن هذا الفن يحتاج إلى تركيز من الكاتب وتكثيف الصور والرموز الموحية والحدث .
– حسن حميد: القصة القصيرة جداً حال إبداعية شبيهة بحال قصيدة النثر من حيث القبول بها أو عدم القبول كجنس أدبي له استقلاليته ونكهته، يضيف للقصة القصيرة كإبداع، ولا يأخذ منها بوصفه عالة عليها أو متسلقاً على نجاحاتها .
– إسكندر نعمة: إنّ القصة القصيرة جداً، إما أن تظل قصة قصيرة عادية مكثفة، أو أن تجنح نحو الخاطرة القصصية. وهي في كلتا الحالتين تبقى شكلاً من أشكال المحاولات التجريبية في إطار القصة القصيرة .
– عوض سعود عوض: القصة القصيرة جداً هي ابنة القصة القصيرة أو هي أختها، وهي شكل جديد لكتابة الحدث يعتمد على التكثيف الفني والدهشة .
– فهد العتيق: النص القصصي القصير جداً، ليس نصاً قصصياً غير مكتمل، إنه حالة جديدة فرضت نفسها وقدمت لوحات فنية جميلة تقدم نفسها بلغة شاعرية بسيطة ومكثفة وبطرائق تعبير جديدة ومختلفة ذات مضامين وافكار متشظية داخل هذا النص القصصي القصير جداً والموحي باحتمالات دلالات عديدة .
– جبير المليحان: هي كنفس عميق جداً، ليست حكمة، ولا لغزاً. إنها شفافة وعميقة كالشعر وفاجعة مثله، وبها لوعة وبكاء وحزن، إنها ألم في القلب: أكبر من الوخز، وأصغر من عملية جراحية.. .
– عارف العضيلة: في الغالب لا يمكن أن تتجاوز القصة القصيرة جداً خمسة سطور.. هذا بالكثير.. ويمكن أن تكون سطراً واحداً فقط.. (12).
أمام كل هذا التنوع في المفاهيم وتعدد الرؤى والتعريفات لهذا الفن الجديد نكتشف مدى غنى هذه الظاهرة وانتشارها واستمراريتها.. مما يجعلها تحتل مكانتها بين أشكال السرد العربي، كواحدة من التجليات المتقدمة للقصة القصيرة.
وبعد، نحن أمام فن مراوغ بامتياز، وما نزال بحاجة إلى كثير من الكتابة ومن النقد كي تتحدد سماته وشروطه، لكن ربما نكون آنذاك قد انتقلنا إلى شكل إبداعي جديد وملتبس كالعادة!. ذلك أن لعبة التجنيس الأدبي والفني قد وضعت التمايزات بين الأنواع الإبداعية في مأزق
الهوامش
(1) على المستوى العربي كانت بلاد الشام سباقة في هذا النوع من الكتابة.. ففي سوريا ظهرت مبكراً قصص زكريا تامر، في الخمسينيات، ثم وليد إخلاصي (منتصف الستينيات)، ووليد معماري (بداية السبعينيات).ثم تتسع الظاهرة: محمود علي السعيد، سليمان سعد الدين، محمد توفيق السهلي، سها جلال جودت، محمد توفيق الصواف، ندى الدانا، حنان درويش، أحمد جاسم الحسين، مروان المصري، اسكندر نعمة، محمد منصور، عوض سعود عوض، نضال الصالح، نجيب كيالي، ضياء قصبجي، يوسف حطيني، محمد الحاج صالح، عزت السيد أحمد، عدنان محمد، نور الدين الهاشمي، جمانة طه. ومن المغرب حسن برطال، سعيد منتسب، عبد الله المتقي، فاطمة بوزيان. ومن تونس إبراهيم درغوثي. ومن السعودية فهد المصبح. ومن فلسطين، إلى جانب محمود شقير: طلعت سقيرق، محمود موعد، حسين المناصرة، حسن حميد، عدنان كنفاني، فاروق مواسي، زياد حداش. وهذا جزء من كلّ، مما يعني أنّ القصة القصيرة جداً قد توافر لها عدد كبير من الكتاب، وباتت ظاهرة ابداعية شديدة الحضور على مساحة الابداع العربي.
(2) نشير هنا إلى أن مجموعتي محمود شقير طقوس للمرأة الشقية و ورد لدماء الأنبياء قد صدرتا على التوالي في العامين 1986 و1990. وعلى الغلاف حدد الكاتب نوعهما: قصص قصيرة جداً. وقد أصدر الاخيرة تحت عنوان آخر هو صمت النوافد (القدس، 1995). غير أن الكتابات الأولى لهذا الفن ظهرت في الأردن متناثرة في الصحف والمجلات: محمود شقير أولاً، وكانت بدايات هذا الشكل القصصي عنده منذ منتصف السبعينيات، حين اصدر مجموعته خبز الاخرين ، في العام 1975، وجزئياً في الولد الفلسطيني في العام 1977. ثم سعود قبيلات الذي أصدر ثلاث مجموعات قصصية: في البدء (1981)، مشي (1995)، بعد خراب الحافلة (2002)، وبسمة النسور في مجموعتيها قبل الأوان بكثير (1999)، و مزيدا من الوحشة (2006)، وسامية عطعوط في سروال الفتنة (2002).
وقد سجلت القاصة الأردنية حضوراً لافتاً في هذا المجال. ومن القاصات الأردنيات اللواتي أسهمن في كتابة القصة القصيرة جدا: أميمة ناصر: الغناء بعيدا (1999)؛ مريم جبر: طمي (2000)؛ نهلة الجمزاوي: العربة (2001)؛ سميرة ديوان: فراشة 2002؛ مجدولين أبو الرب: لوحات فسيفسائية (2003)؛ بسمة فتحي: شرشف أبيض (2005). انظر: د.أماني سليمان، مجلة تايكي، عمان، عدد 25، 2006.
(3) محمد علي سعيد، موقع بوابة المحترفين الإلكتروني، 2006 /11/ 29 نقلا عن موقع ملتقى أدباء العرب.
(4) مهند العزب، ليلة اكتمال الذئب ، تقديم نزيه أبو نضال، وزارة الثقافة، عمان، 2006.
(5) د.نبيلة إبراهيم: مستويات لعبة اللغة في القص الروائي، مجلة إبداع ، عدد 5، أيار/مايو 1984.
(6) بسمة النسور، مزيدا من الوحشة ، دار الشروق، عمان، 2006.
(7) جميل حداوي، موقع الحوار المتمدن ، 26/12/ 2006، العدد: 1776
(8) عن المصدر السابق بتصرف.
(9) د.إحسان عباس، في مقدمة قبل الأوان بكثير ، بسمة نسور، دار الشروق، 1999. وانظر كذلك: أحمد جاسم الحسين، القصة القصيرة جدا، دار عكرمة دمشق، 1997. وهو أول كتاب في هذا المجال على ما أعلم.
(10) اعتمدنا في جانب من هذه الورقة على دراستنا القصة القصيرة جدا في (مزيدا من الوحشة) لبسمة نسور ، مجلة أفكار، ع 212، تموز 2006.
(11) سهير التل، المشنقة ، د. ن، 1987، ص 75.
(12) لمزيد من التوسع انظر: طلعت سقيرق، القصة القصيرة جدا.. مقدمة وإشارات، مجلة المعرفة، وزارة الثقافة في دمشق العدد 431 آب 1999. نقلا عن منتديات واتا الحضارية، 10/10/2007.