الثلاثاء ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم تغريد كشك

حق اللجوء إلى البوح

لماذا اكتب؟

أكتب لأن أجمل كلماتي هي تلك التي لم أكتبها بعد.

أكتب لأنني قد أرى الأشياء ذاتها ألف مرة، ولكني قد أراها ذات مرة وكأني أشعر بحلاوتها أو قساوتها للمرة الأولى، فأقف مندهشة أمام إحساسي وكأنني لم أرها من قبل.

بدون الكتابة عن هذا الشعور تذوي انفعالاتي، تتحول الى طقطفة رتيبة تثير في نفسي الملل.

الصمت بالنسبة لي يعني الموت، الآن إذن ليكن الكلام، وكتابتي هي انفتاحي المطلق على الكلام، على الفرح الألم، الحزن، الهموم الخاصة والعامة، الموت والحياة، بذور العلاقات، حكاية رجل او امرأة، طفل، وردة، حجر، أو مجرد نكرة تعبر سيل الحياة.

حياتي مليئة بأحداث الواقع، بالتجارب، الأسئلة، الفرح، الحزن، الحنين؛ لذلك أجد دوري دور مبدع يلتقط الأشياء والأحداث بطريقته الخاصة، يعيد طرحها بصورة أدبية راقية تحفظ للواقع والخيال مكانهما دون الهبوط بالنص إلى السطحية المباشرة المعتادة.

تستغرقني مساحة من الزمن لأكتب، ولكني لا أتوقف، فمن قال إننا نملك زمام المبادرة في هذا الواقع؟

عندما أكتب، أحاول ان أذهب عبر النص لما وراء الكلمات، تُبهجني اللغة ورشاقة الأسلوب، يناديني ذلك الحنين الرهيف الذي يرافق أفكاري كمعزوفة مشهدية أبدية، أُحَمل نصوصي صراحة البوح، أحاول تخطي الذات، كسر دائرة الألوان الاجتماعية الطباشيرية.

أطلق لكلماتي العنان، أتركها تؤشر بحدة إلى حواف وأعماق التناقضات التي تثقل أعماق المرأة، أحاول الصراخ: "أنا هكذا... هل تفهم؟".
عندما بدأت الكتابة، كانت كلماتي تنحني نحو الذات، تحاول اكتشافها. كانت البداية من حيث التجربة المباشرة أو المتخيلة هي نقطة الانطلاق بالنسبة لي، لقد حاولت عبرها اختبار أدواتي وقدرتي على المناورة، أو دعني أقول إنها العودة إلى جوارير الذاكرة المغلقة وشعوري بالسعادة وأنا أبعثر محتوياتها عندما أعيد قراءتها واستنطاقها. أحاول أن أبرر وأعلل. أدحرج فكرة هنا، وأطلق همسة هناك.

هذا ما يغلب على أسلوبي في الكتابة: لغة البوح؛ الحديث مع الذات لتبرير خياراتها. أشعل أعوادًا من الثقاب، ألقيها في العتمة، تضيء لحظة ثم تنطفىء، لكنها تترك تأثيرها على القارىء بهدوء، هذه كانت البداية، بعدها انطلق الحوار من حوار مع الذات إلى حوار مع الآخر؛ الحاضر بقوة في نصوصي. ومع أن الحوار قد يبدو في بدايته ثنائيًّا، لكنه يعانق الذات ويعتصر انفعالاتها، فتراني - عبر هذه العملية الحوارية - أخلط الواقع بالحلم، النزعة الرومانسية بتفاصيل الحياة؛ التفاصيل التي عادة ما تتناول علاقة الرجل بالمرأة، فتحيلها إلى لوحة تشكيلية غير مكتملة المعالم والألوان.
عندما أكتب، أعكس سلبية انفعالاتي، تلقي الفعل من الآخر، هذا ما تعبر عنه حالة الانتظار الدائمة التي تتلبس نصوصي، ولكن سرعان ما تكسرها لحظات تمرد عابرة تؤشر إلى فعل خيط الزمن الذي يواصل الجريان ليفاجىء القارىء في لحظة معلنًا أن الحياة تواصل عبثها. وهنا يأتي رد الفعل من خلال تفعيل الخيال الخاص جدًا ليندفع عبر النص ويبني واقعًا بديلاً؛ إنها محاولة دائمة للفعل بعد الاحباط الذي يتشكل نتيجة غياب الفاعل.

أكتب لأجعل من لغتي لحنًا يرقص ما بين النثر والشعر؛ لأنني أتمزق كامرأة ما بين قناعاتي بالانطلاق وما بين بلادة الواقع، أو قصور الطرف الآخر عن الارتقاء، فهو يعشق الكسل الشرقي، يتمرغ كقطة عند الموقد، وما أن أحاول دفعه نحو سلوك أكثر عملية ووضوحًا حتى يفاجئني بالذكر الراقد في أعماقه.

أكتب لأن نصوصي التي تحمل إحباطات لا تنتهي، تحمل مقاومات مستمرة لا تنتهي أيضًا، وهذا التناقض إنما يعكس في العمق تناقضًا موضوعيًّا بقدر ما هو شخصي. أُجابه شبابيك العتمة وأشهر سيف الكلمة. أقول كلمتي وأمشي مشحونة ببراءة الأطفال، وكأنني أتوق بداخلي إلى طفل لم يولد بعد.

أكتب لأنني أستطيع أن أبني مداميك الكلام، وأن أعلق حروفي عاليًا في سماء الحياة.

أكتب قصص حب وحياة، تتأرجح بين الألم والأمل، تتغذى من واقع الحياة، شخوصها ومواضيعها من لحم ودم تتجلى بين مقامات الأدب.
أكتب لكي تكون الكتابة جسرًا للعبور نحو الحقيقة ونحو الحبيب. أنشر حبي المبجل على حبال غسيل الوطن، فإما أن أكون أو لا أكون، فما أجمل الكتابة التي تولد من ألم، ويكون الحب مبدؤها وأسمى معانيها.

أكتب لأن الكتابة تلغي الموت وتبدد ليل الهزيمة الداخلية وتكون دائمًا شعاعًا للأمل يحرق المسافة بين الخاص والعام. أكتب لكي أنصهر بالتجربة وأحترف التمرد، وهذا ما يُعزز قناعاتي بأن القادمين من البعيد لهم نجومهم وشموسهم ولهم رؤاهم التي تختلف.
أكتب لكي آخذك من يدك معي إلى البعيد ، لنكون دائمًا معًا برقًا ورعدًا في جبهة الرفض، لأن الكتابة بحر لا يعبره إلاّ العارفون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى