الجمعة ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨

أقرأوني كي لا أموت

بقلم: عفاف خلف

من أين البدء؟ أنحن ما يجره القلم على الصفحات من تكثيفٍ لحظي، وتسليطٍ لأضواء، وإرهاصات الدقائق، وجموح الأفكار؟ أم نحن نتاج جرات القلم؟ لأي مدىً تفتح لنا الكتابة عوالم غامضة الحس؟ وبمهارة جرّاحٍ يعرف كيف ينتشل الضماد من وسط جرحٍ دامٍ ممزق، نحمل المبضع لنعيد تنظيف الجراح أو نكئها، وكأننا نعيد في الروح غزل خلايا الحياة.

في الإنجيل كانت الكلمة، المنشأ، توازي فعل الولادة والتكوين، وفي القرآن الكــريـم كانت "إقرأ" فعلٌ يتخبط في الرحم، ليوازي الخلق والاستمرارية والحياة، وفي الأرض ومعجم الطين كانت، أكتبْ، أنقشْ، إحفرْ، توازي سلسلة البصمات وإرث الحضارة.

هل السؤال لماذا نكتب؟ لمَ لا يكون لماذا نحب؟ أيحتاج العشق يوماً لمعجم تفسير؟ أو لكتابٍ في القانون وفي التشريع؟ أو في تحليل السلخ والذبح وعادات القبيلة، وميول العشيرة وغسل العار ؟!.

الكتابة فعل خلاص، تطهيرٌ آنّي لكل من احتّلنا حبه، وتطّير أبدي من كل الجرائم التي نحلم بارتكابها ذات حب، الكتابةُ، تورطٌ عشقي، فعل حب، كثيرون هم المتورطون دون دراية، زاوية المطعم، رائحة الهواء، حفل بياضٍ يغري بالبوح، قلم يتقن لغة الحوار، والضوء اللاهث، المتساقط، النافح، الغاوي، المغوي، القهار، كلهم يتآمر ليكون، يبرعون في تمجيد اللحظة ولملمة بعثرتها من ذاكرة الحواس.

في لحظةٍ تباغتك الأصابع، دفق الأفكار، وميضٌ وجنون وإشراقات، فتلجأ للبوح، تستحث القلم، فيستحثك الصرير، تجرجر على الأرض ثقل اللحظات، يمتد هشيمك وجعاً، يحلم بالشرر والاحتراقات، تطالك النيران، تسقط صريعاً، دونما استراتيجية ودونما تخطيط. – مبروك فقد خُـلقت كاتباً - .

هل كنت أحلمُ بالكتابة؟ ربما، ولكن كنت أتمنى أن تحلم هي بي، تسلمني قيادها أبداً، وأقسم لتكّسر عينيها ولشهد ملامحها، بألا أسيء استعمال الأقفال. فبقدر ما تملكّتني لم أكن أملكها. التحم بها، فتنسل من بين ثناياي أعشقها، وأبقى مصلوبة على عتبات اشتهائها، مدينة تتفرد في دمي، بكل جلالها، أخشى من جبروتها، أقرأها فتكتبني، أعشقها فتهجرني، وأبقى أبداً فيما البين بين!!. هذا التوسط الذي يقض مضجع الإبداع والتميز، ويقوّض عوالمٍ تحلم بالإنكشاف.

ذات كشف راودتني الحروف أن أقرأ، كان كانون يطرق مزاليج الأبواب، ويدفع الناس بقسوة حيث الدفء، وكان الدفُء موقدَ نار تجتمع حوله العائلة، واهتزازات صوتٍ قوي النبرة، يرسم الفضاءات، ميدان المعركة، صليل السيوف البتارة، اللامعة، رائحة الجرح الطازج، احتدام الغبار، توتر الخيل العصبي لحظة ذعر، وفارس يقهر الدنيا لحظة عشق، وتراءٍ للحدث حد التجّسد، نبضاتٌ من الصوت تأتي، بارتفاعاتٍ وانخفاضاتٍ وتكثيف. وكأنما الكلمة، صوتٌ وصورةٌ وعبق. فإن كان للأديب أن يكون مصوراً محترفاً أو هاوياً، فإن الكلمة هي اللقطة الأروع التي يصورها وجدانه، ويبتغي منها المجد، وكان مجدي في ذاك الأوان أن أتحول إلى راوٍ، يسلمني أبي أسرار الصوت وتفتّح الكلمة، فأقرأ، وأقرأ، وأقرأ، حتى يوسدنا قرع الإرهاق.

كانت مكتبة المنزل موضوعة تحت تصرف أي عين، نهباً لأي يدٍ تقرأ، ولم أكن أقرأ، كنت ألتهم الأوراق التهاماً، أمارس معها طقوس الحياة، أعيش فيها ولها وأتنفس من خلالها، رئةً لتنشق هواء الحرية حتى الدِّوار، أسطو عليها، وأخلّف هشيمها رماداً أحرقته العيون. وتتملكني حالات الانذهال، لذلك كان صعباً عليّ تلبيةُ أي نداء، سوى نداءات الفضاءات التي تترامي أمامي، وأغزوها بالعشق، ولطالما مزقها العشق ومزقني، اذكر كتباً كثيره بكيت قصاصاتها – أكثر مما أبكي عزيزاً - وهي تتطاير بين أصابع أمي. هي أتقنت التمزيق أبداً، و أنا لم أتعلم يوماً إتقان تلبية النداء وعيوني تعانق كتاب.

كانت الكتابة ثورة، وكان الكتاب ثائراً، يحرّض، يعّبئ، يّغير، يعيد قلب الموازين. فالكتاب الحقيقي هو الذي يغّيرنا إلى أعلى، وأيضاً الكتاب الحقيقي هو الذي يبدأ لحظة إغلاقك الغلاف على أبطاله، فإن أغلقت باباً، فجّروا في روحك أبواباً لدفق الاسئلة، أكان هذا سلامة موسى أو واحدة من منقولاته؟ لست أدري، فذاكرتي بها مّس من إنشداه، تُبقى المفهوم وترفض القوالب، وكنت وما زلت قارضة كتب بدرجة امتياز، كان يغالبني الحب، فلا أملك جرأة الانتقاء، يجاذبني الورق حواراتٍ أبدية، فتنفرط سلسلة لا تنتهي، فويرباخ، هيغل، كانط، ابن رشد، دانتي، بلزاك، جوته، راسين، برنارد شو، شكسبير، همنغواي، هيجو، غوركي، دوستويفسكي، تولستوي،مورافيا، غسان كنفاني، الطاهر وطار، غادة السمّان، منيف، جبران، نعيمة، وآخرون. وكلهم يتركون بصماتهم.

هل كنت المخطوطة بين أصابعهم، كلٌ يلقي كلمته ويعّد الأيام؟أم كنت الثورة معنونة بكتاب؟ كانوا ينزفون أفكارهم، وكنت استنزف طاقاتهم، حتى فاض بي الامتلاء، من الرحم ولد قرار، سأتّعلم لغة النضح على الأوراق، ابجدية العشق، تواصلٌ لا انقطاع، فكانت الحرائق شرارتي الأولى، رهبتي الأولى، لحظات الترّقب والانتظار، والفرحة الأولى، وكسرٌ لما هو مألوفٌ وتقليدي، وسطوة لكلمة تنساب من الأصابع ثورة، لكل نصٍ حكاية، ولكل حكايةٍ دلالاتها وذكرياتها، ولأنها الحرائق تركت للأوراق حق الرماد، وللقارئ لهيب الاشتعالات.

لا أتذكر صعوبة في لحظات الكتابة، أو عسر في الولادة، ولكن من الانتقادات التي وُّجهت لكتابي الأول، وهو تجربة مشتركة مع الشاعر مازن دويكات، بأنه متحّيزٌ لفئة معينة من القراء، وكأن الحروف خُلقت لتعانق عيوناً دون غيرها يوماً؟؟

لمن نكتب؟ معضلة أخرى، فإن كان الإنسانُ محاصراً بموتٍ واحد، فإن الفنان محاصرٌ بموتٍ متعدد الوجوه، متشعب المتاهات، غريب البعث، متواصل القيامة، ويظل قرعه على جدران خزّانه، اقرأوني كي لا أموت، فهل يصل الصوت يوماً؟ أم ينقطع معين الرؤى وتخرس الأصابع ؟!!

ولكن ما يعّزينا، ما يغرينا، أننا اضاحٍ لنيرانٍ تندلع في الجوف، ولا نستطيع لها دفعاً، لا نريد لها دفعاً، ونصلي كي تستعر النيران، أدعوك لطقوس عشقٍ مجوسي، سنتعّمد بالنيران الليلة ولا خلاص، الآن أقبض عليك اكثر، أُلغي الحواجز والفواصل، أُقيم جسراً من التواصل لا ينقطع، الآن أنت معي أكثر، ولست أخاف أن تغفو روحك أو تنام في نبضك الأيام.

دعْ شلال الخلق يتدفق
فماذا إن فاض واحرق
ورأب الصدع
في القلب تشقق
فالماء إذا ما شّف أحيا
وإذا ما ثار أغرق.
بقلم: عفاف خلف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى