الجمعة ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم عمر العسري

الواقع المُعـولم شعريا

يتعامل الشعر مع اللغة بمفهومها الكلي، أي بوصفها جمعا لمختلف التمظهرات الوجودية للمواد في زمان ومكان معينين، وقد تجاوز الشعر الحديث، وأقصد هنا بعض التجارب الرائدة، الدلالة المباشرة للكلام التي تخضع للنظامين النحوي والمعجمي، وإنما أرتبط بما يدل عليه ذلك الترابط بين المعطى الخارجي والوعي الذاتي والنظرة الكلية للأشياء. فقد غدا الشعر يتعامل مع الأشياء والعناصر كما يتعامل مع اللغة، ويتعامل مع اللغة كما يتعامل مع باقي الموجودات الداخلة في إنيته والمشتركة مع باقي الكائنات، وأصبحت اللغة سلطة لها قدرات سحرية على التغيير واستقصاء الحياة، بل مكنها الشاعر من الحركة والإيماء داخل تجربة عالم الإنسان.

في هذا السياق يتجه ديوان لعبة لا تمل صوب كتابة تسجيلية تعنى بوصف الحياة اليومية، وخصوصا ما يتصل بالطبائع وعالم الصورة الذي غزا حياة الإنسان. وبين ثنايا هذا الاستقصاء تحضر الرموز والإشارات وهي، في اعتقادنا، حالات تخيـيلية تتآلف وفق أسلوب شعري أقرب إلى التـفــصيل.

رصد الشاعر خصائص، لأنه يهدف إلى تكوين رؤية عن الذات وعن الحياة وعن الثقافة، وهذه الرؤية تعتمد على تركيب فني واقعي يُعنى بالمجرى الشبه الطولي للوقائع من خلال التفكير في الحياة بوعي تسجيلي. وخاصية التدقيق في ذكر التفاصيل، هي خاصية سردية غير أن الشاعر أدخلها في إهاب الرؤية الشعرية التي تـتقيد بنظام شعري يقوم على التقطيع التركيبي والتمفصل الدلالي، وهما كفيلان أن يطلعاننا على طبيعة الرؤية الشعرية الملتزمة بمعطيات التاريخ والمقيدة بالحياة اليومية.

لقد وجدنا في لعبة لا تمل، أن هذين المكونين أساسيان في إنتاج محمد الحارثي الذي يحيل على الحياة اليومية بأسلوب شعري، ولكن إلى جانب هذا الحرص على احتواء الحياة الواقعية نجد تقيدا كبيرا بالأعلام التي بصمت التاريخ الأدبي والسياسي والفكري والفني للإنسانية. والديوان في مجموعه يذكرنا بالكتابة القصصية التي تتقاطع إلى حد قريب مع الشعر في كونهما يتأسسان على مفهوم اللحظة؛ هذه الأخيرة تصور اليومي في إطار غير متحلل من التاريخ الشخصي أو العام، وبنفس تكثيفي يعيد رسم الحياة وتصويرها تصويرا إيحائيا تكثر فيه الإشارات الرمزية المتصلة بقيم معينة.

1- البعد التسجيلي

تأتي القيمة التي يكتسبها الديوان من نزوعه إلى إيجاد رابطة بين الحياة اليومية واللغة المسخرة لذلك؛ إذ أن طريقة تصوير الحياة اليومية لا تتوقف على الجانب التركيبي، بل تعكس مقدار انخراط الشاعر في حياته. نجد أن العناصر والأشياء التي أثارها الشاعر غنية بالدلالات. يقول الشاعر:

أصحو أشرب القهوة
ولا أرى الساح
من النافذة
أعبر الحديقة في طريقي إلى المستشفى
لأرى دمي فلجا ما حلا في الأنابيب
يمضون به إلى عين المجهر

نلاحظ أن الفعل الواقعي المصرح به هنا لم يعد محصورا على شخص معين، إذ تجلت روح المشاركة باعتماد الأسلوب التقريري، فالشاعر يسرد حكاية يومه بدءا من لحظة "الصحو" إلى فعل الخروج"أعبر"، غير أن هذا النظام يختل بسبب المأساة: "المستشفى" و"دمي".

والواقع أن هذا الإيحاء المأساوي يشغل حيزا مهما في الديوان، وهو أساسا صور نمطية لكثير من الناس. وكثيرا ما وجدنا مثل هذا التصوير المسهب للحياة اليومية مع ما يتخلل ذلك من رموز وإشارات. يقول الشاعر:

تجلس في مكتبة البيت وحيدا
تجلس لتتأمل الربيع القائظ
في زهرة تعكس نضارتها عينا
قطك الأسود، قطك المتأمل في
الصحن الفارغ زهور الصين.
أنت اليابس كشجرة المانغو المطلة
من النافذة ببقايا الحياة...

يُسمي الشاعر، في هذا المقطع، الشر برموز دالة كالقط الأسود والزهر الذابل، وهو بذلك يسدد سهمه للحياة مباشرة، ولكنه لا يذهب أبعد من ذلك الموقف بتسمية المعطيات. لقد أراد الشاعر أن يخدم قضية اليومي عن طريق الإخبار والتقرير، ومهما يكن ذلك فإن الأمر محكوم بالوعي الذاتي والرؤية التي تجاوزت الأنا، وسعت إلى دمج الحياتي بالشعري، والمحسوس بالمجرد؛ وذلك بالتقاط اليومي وتحويره فنيا حتى يوضع موضع تساؤل، لا ندري إلام ستصير الأمور. يقول الشاعر:

لا الفتاة ولا الأحلام
لا المستقبل الماضي كخنجرك المعلق
على الحائط في انتظار الأعياد...
ولا عربة الماضي التي خانها الحصان
قبل الوصول

تقوم قراءة الحارثي لليومي، في هذا المقطع، على تركيب خاص يعول على النفي بالمقايسة؛ وذلك بتحريك دفتي الجملة الشعرية(نفي ثم تشبيه ونفي ثم وصل ) إذ يقيس المستقبل الماضي بالخنجر الذي تقادم في الحائط، ولا يستعمل إلا لماما في الحياة. وطبيعي جدا عندما نقرأ مثل هذا التركيب نحس ببعض الاسترسال أو الاستطراد ولكن مرد ذلك أن الشاعر استطاع أن يتطور ولم يبق سجين الواقعية الساذجة، وإنما تجاوزها ليدعو إلى واقعية قائمة على الرؤية الكلية.

انطلق الشاعر، في سياق رؤيته الكلية، من الذاكرة الجماعية لتصوير حالة اجتماعية، هي حالة "الفقد"، ومن خلالها نسج وضعية إنسانية باعتبار الأولى شاهدة على الثانية، وأيضا ليُطلعنا على هذا اليومي بشعر أقرب إلى السرد مصورا الأشياء ليس لذاتها وإنما لكونها تشغل حيزا داخل المنظومة الحياتية. يقول الشاعر:

تحدث (بعد أن ألقى عصاه)، قال: تحدث
عن القهوة المرة في كف ابتسامة الراعي
تدير ينبوع الهواء في الكهف

نسجل هنا موقفين: الأول عمد فيه الشاعر تسجيل أبسط مظاهر الواقعية العادية والأكثر تجدرا في المجتمع. والثاني الدقة في وصف الملامح ووضع الأشياء الموصوفة موضع تساؤل والتزام، ونسوق هذا المقطع من قصيدة لا غرابة في الأمر حتى هنا، للتدليل أكثر. يقول الشاعر:

يعبرووون
و لا غرابة في الأمر حتى هنا، لا غرابة..
لكن سائحا بين الجموع مر أمامي وعلى ظهره
بالعربية الفصحى هذه العبارة:
(يعملون في الوقت الذي
يلعب فيه الآخرون كرة القدم)

يتخذ التقاط اليومي أبعادا أخرى يتحتم ابتكارها ووضعها موضع تساؤل والتزام، ذلك أن اليومي يأبى عن كل اختزال، وهكذا نجد الحارثي، عندما أراد أن يشكل تاريخا للحياة اليومية العامة فلت من بين أصابعه ذلك التاريخ والحياة المحليين، ونقصد هنا الحياة في عمان، ومرد ذلك سلطة العولمة وسيطرة الصورة المشتركة بين مختلف الأجناس البشرية بغض النظر عن الانتماء الجغرافي، وهذه النظرة الشمولية للشاعر اتخذت مدلولا كونيا، والمعجم الموظف يؤشر على ذلك، فكلمات من قبيل "مايكروسوفت" و "بولارويد" وغيرهما من العلامات التجارية الحياتية التي غزت العالم وشغلت حيزا من وجود الإنسان.

يدرك الشاعر جيدا قيمة الأشياء المستدعاة التي تؤشر على الأفراد والجماعات أكثر من تأثير الأفكار عليهم، لأنها بكل ببساطة تلبي حاجاتهم؛ مثلا المايكروسوفت التي غزت العالم تُطالع كل إنسان، بل غدت ديانة تجارية وعلامة مفروضة علينا لأنها تيسر الحياة، هذا وقد فرضت علينا باسم التقدم والحداثة والتواصل...إلخ. بيد أن رؤية الشاعر تجاوزت الحدود النفعية لهذا المنتوج ورأت في هذه العلامة أو غيرها قضية أنطلوجية، فالآلة رغم دقتها في تقييم الأشياء والأشخاص إلا أنها قد تخطئ الحسبة. وهذا مرده أن الإنسان قد ازدادت ثقته بها وبات هو محط شك وريب. لقد تم النظر إلى الإنسان بما تمنحه الآلة من معطيات عنه، وغالبا ما كان المعطى غير صائب، لأنه بكل بساطة لا يحس ولا ينفعل.

يتمتع الحارثي بروح تكتـنه الأشياء في عالم بدأ فجأة جديدا بكل ما فيه، ولعل هذا التغيير الطارئ ستعقبه أزمة انقطاع معرفي وثقافي عن الماضي واندفاع متسارع في اتجاه الآتي.

لقد عبر الحارثي عن رؤيته تجاه العالم، ورأى في مجتمعه أنه وصل إلى درجة الانفجار تحت ضغوط الصدام الحضاري، والبحث عن الحرية، والتدفق المادي، والغزو التجاري، وأيضا بروز قاعدة بشرية استهلاكية. يقول الشاعر:

المانكان والمكنة
المكان والمكين
الغريقة
وحبل الإنقاذ
العين والشفة
القبلة واللعاب
اللوحة والصورة الفوتوغرافية
مارلين مونرو والجيوكندا

يستجيب النص استجابة واعية لليومي المتمظهر لنا في كل وسائل الاتصال. لذلك تصبح الحركة الوحيدة الممكنة لاحتواء هذا التدفق هي البحث عن لغة شعرية مستقبلية تستدعي اليومي وتحتويه، وهذا ما استجاب له الحارثي عندما صوب وعيه ضد اللغة لنجد أنفسنا أمام تجربة لغوية تحتضن الإنسان المعولم الذي يتمشى وطبيعة الحياة المهيمنة.

استدعى الشاعر بعض أسماء المشروبات الكحولية، مثلا "بلاك لبيل" "كورونا"، وهما مشروبان لقيا استهلاكا خاصا لدى فئة من الناس تساير العصر بالإقبال على الوجبات السريعة "ماكدونالد"، ونظارات "بولارويد" ولعبة "المونوبولي"، وشركات الطيران الكبرى ك "اللوفتهانزا وطيران الخليج"، وبطاقات سحب الأموال "الفيزا والماستركاد" والتأثر بأفلام هوليود كفيلم "بلاك ووايت"، ولم ينس حتى مكيف "توشيبا". سمى الشاعر الأشياء والشركات التي أصبحت مقرونة بتحركات وبحاجات الإنسان المعاصر، وهي أشياء فرضت عليه بل حتى إنسان هذا العصر أصبح يطالب بالعلامة التجارية ظنا منه أن الجودة كامنة في هذه وليست تلك.

تختلف الأشياء المستدعاة من حيث طبيعتها، فنجدها أولا أجساما، وثانيا لا تخلو من قيمة، وثالثا ذات رسالة، ورابعا لها خصوصية شكلية معينة. وباللقاء مع هذه الأشياء/العلامات يتحقق التواصل« المبني على التعويض وتخفيف الإشباع وتأويل العناصر التشييئية حتى تتبدى قيمة الشيء، ورسالته التي سيضطلع بها الإنسان حالما يتحقق الاتصال عبر الحواس» وغدا الشيء في الحياة العامة وسيطا بين الإنسان والمؤسسة، بل مؤشرا على التقدم الصناعي والتكنلوجي للمجتمع، وأصبح الإنسان لا فكاك له عن استنفاد الأشياء لأنها«عنصر بيئي مدرج في بيئة معينة.»

وفي هذا السياق يحاول الحارثي أن ينصت لنبض الحياة الكونية، ومن بين ما التقط تلك الأشياء التي ترددت وبرزت باعتبارها عناصر حياتية اتخذت عدة صور وتسميات، وذلك حسب وظيفتها داخل الحياة. وبدت العلامات التجارية للأشياء:
مشروب، عطر، وجبة، هاتف، لباس، فيلم.... التي تظهر مثل وسيط اجتماعي يقوم بأدوار ووظائف معينة إنه «يجلب للفرد تطهيرا لرغباته وتعويضا شبه كلي للحرمان».

يقابل إذن، الخطاب في لعبة لا تمل خطاب الواقع، لأن الشاعر على وعي تام بما يقع حوله، فقام بعملية مسح للأشياء والعناصر المشتركة بين الناس، بغض النظر على التباين والتباعد. وغايته بالطبع إطلاعنا على معارف وحقائق تم عرضها كتخييل قابل للتأويل، إذ أن هذا الميثاق التواصلي والمعرفي الذي اضطلع به الديوان قد انبنى على مفهوم اليقين، وعلى كون العالم مصنوع من أشياء وكلمات نتداولها في حياتنا اليومية باستمرار وتعوض شيئا ما.

إن الخطاب الشعري في لعبة لا تمل هو خطاب الواقع باعتبار الشاعر على وعي تام بما يقع حوله، فقام بعملية مسح غايته إطلاعنا على معارف وحقائق تم عرضها كتخييل قابل للتأويل؛ إذ أن هذا الميثاق التواصلي قد انبنى على مفهوم اليقين، فالشاعر قرن الحوادث بالحقيقة الكامنة وراء المفردات الدالة على اليقين كأفعال الرؤية وأسماء الماركات والعلامات التجارية، وهي وسائل إثبات مستمدة من النسق التسجيلي الذي يشتغل وفق أسلوب تقريري يتأسس على آليتين:

أ‌- اليقين: ما نقله الشاعر موجود في الحياة، مثلا علامة بيرا بلاك ليبل التجارية هي جد مثيرة، إذ تمثل رجلا أنيقا يرتدي بذلة ليلية وعليه معطف أسود وفي يده عصا أنيقة وحركة جسده تتماهى مع طبيعة النشاط والحيوية التي يمنحها مفعول المشروب.

ب‌- التعميم (العولمة): الحياة التي أثارها الشاعر لم تعد حكرا على البلدان التي فكرت فيها وأنتجتها، وإنما أصبحت حياة مشتركة بين جميع الشعوب، إذ يكفي الإنسان الإرادة المادية والمعنوية حتى ينخرط في سلسلة حياة مأزومة بالأسماء والأشياء والماركات والعادات التي تؤشر على التقدم والتطور ومسايرة العصر.

هكذا، صور الحارثي الحياة العالمية اليومية تصويرا تسجيليا يستقصي ويتتبع بدقة واقعا جديدا، وهو تصوير ينصب أساسا على المجتمع المتطور مما يجعل النص تأريخا شعريا ومعجميا واقعيا، فيه ذكرت أسماء الأعلام والماركات وكل ما يتصل بالحياة اليومية. كل هذا ليضعنا في السياق العام الذي بدأت الحياة الإنسانية تتخذه في ظل العولمة، ومن شأن الكتابة الشعرية أن تختزل هذا الفيض أو تساعدنا على استخلاص آليات العيش الجديد المكسوة برداء الخيبة (الخمر)، والسخرية (تأخر المواصلات)، والاستهلاك (كافيار).

انطلاقا من هذا البعد التسجيلي يمكن قراءة نص الحارثي كونه صورة حاملة لعلامات ذات دلالات بصرية، ومخلفة لأثر في حياة الفرد والجماعة، ولعل هذا التداخل بين النص والصورة متأت من الحقيقة المشتركة بينهما، فإذا كانت الصورة توضح خطابا أو تحكي حكاية، فإن النص يحكي حياة صورة ترتسم في الذهن حالما يُقرأ النص.

إن المهمة التي تحملها نص الحارثي هو ترجمة الحياة ترجمة خطية مليئة بالصور والأشكال، وقد لا تؤمن إلا بتعدد الأسماء وتنوع الألوان الدالة على المؤسسات. وغدا النص كالصورة الفوتوغرافية لا هو بحقيقة ولا بواقع مزيف، وإنما ترجمة لكل منهما، إذ يمكن القول إن صورة اليومي ترافقنا ونحن نقرأ جل قصائد الديوان، بل وتقابل رؤيتنا لما نراه حقا في الواقع رغم اختلاف البيئة والزمان.

يتحقق الارتباط أثناء قراءة النص مع العناصر اللغوية التي تتمثل عناصر الصورة؛ بحيث تعكس دلالتين، الأولى حقيقية، والثانية توهيمية، لأنها ببساطة تقدم لنا بعض مقاطع النص الشعري صورة منتوج سواء باسمها أو بمفعولها، أو بشكلها، تقدم للمتلقي أنظمة من التفكير تشتغل وفق منطلقات متعددة وجد متخصصة.

يتحقق مبدأ التساوي على مستوى الموصوف (الصورة)، والأداة (اللغة)، وكأن النص قد ترجم خطيا خصوصية هذا العصر الذي غزته الصورة واستبدت بخطاباته، علما أن هذه الهيمنة امتدت إلى مجالات أخرى كان اكتشافها فأل سوء على جهود الواقعيين، نذكر الصورة الفوتوغرافية، والسينما، والفن الرقمي. لكن مرد هذا الامتداد أن الإنسان أصبح لا يتقبل إلا الحوامل المدهشة التي تعكس صورة معينة ذات دلالات حتى وإن كانت مبهمة، إلا أن فعل الرؤية متحقق، وقد فسر نيكولا جوني ذلك كون الصورة هي كتابة الأميين. وبهذا الحس العياني جاءت لغة الديوان بصرية قوامها الصور والمشاهد المتعاقبة والماركات المتنوعة.

2– التحريف الساخر

نقصد بالتحريف الساخر تلك التركيبات الأسلوبية التي يتم إسنادها رغم التباعد الوظيفي؛ وذلك بقلب وتكسير استعمال اللغة، وتعويضها ببنيات وتراكيب تبعث على الدهشة والسخرية. كما ينطوي هذا الأسلوب في الكتابة على الحذف والربط، وهما تقنيتان تعملان على تحريف الكلام عن مقصده، لتغدو السخرية بنية إمتاعية لا غير، على أن الغرابة واضحة وصور التقابل متحصلة كما في قول الشاعر:

في الحقيقة بحثت كثيرا
عن سيف الدولة، لا لأمتدحه
بل ليسدد فواتيري

يذيب الشاعر، في هذا المقطع، البون الزمني ليبوأ الجملة معنى ساخرا بتحريف الوظيفة وربط الشرق الماضي بالشرق المتغرب الحديث، إذ قرن سيف الدولة الغابر بفعل تسديد الفواتير وكأن الشاعر يستنجد هنا برفاهية سيف الدولة وبذخ العيش الذي كان يتنعم فيه. من هنا يكتسي هذا المقطع الشعري بعدا ساخرا من خلال إبراز تلك التمايزات الأساسية بين المفاهيم الموظفة التي تتحدد، أولا على مستوى بنية اللغة، وثانيا على مستوى السياق العام.

قام الشاعر بنوع من التركيب البنيوي للمفاهيم، بإدماج القديم داخل الجديد على نحو ما تبدى في قصيدة عشية الشعر، إذ اختار الشاعر جملة بريد إلكتروني من أبي الطيب كعنوان موازي، ويصبح العنوان تركيبا مزدوجا. يتحقق التحريف الساخر حال حدوث حوار إسنادي بين بريد إلكتروني وأبي الطيب المتنبي، وهو حوار ساخر ينم عن تفاعل الكاتب مع الدلالة التاريخية، بإشراك القارئ استنادا إلى صيغ مدهشة ساحرة تدعو نفسها للقراءة والتأويل والبحث عن الغايات القصوى، على أن التركيبات المعجمية محكومة بشرط المفارقة اللغوية التي تشغل دلاليا لتوليد الأثر الساخر من خلال هذا التحريف.

لقد وجدنا في ديوان الحارثي تعريفا آخر للاستعارة، خاصة التي تقوم على نماذج متعددة وتستعير المفاهيم لخدمة اليومي، هذا اليومي الذي تغذى من السخرية باعتماد تقنية تحريف الكلام وتحقيق الترابطات المفارقة، وقد حضر هذا الأسلوب كمؤشر على الأثر الساخر وأحيانا يكون خافتا في مثل قول الشاعر:

شكسبير في مطار هيثرو

تتجلى الخاصية الدلالية لهذا التحريف الساخر في قيامها على التقابل الدلالي عبر المفارقة اللغوية والتباعد الزمني. ومما لا مراء فيه أن هذا التحريف الساخر للغة وللدلالة معا لأداة شعرية وتقنية أسلوبية صالحة للتعبير عن التحرر من الاستلاب وتخفيف الداء عن صورة اليومي الذي ما فتئ الشاعر يحقق تلك التقابلات بين الشرق والغرب، محاولا إذابة مشكل التعارض بحذف الحواجز والدخول في مفهوم العالمية العائشة تحت النمطية والاستهلاك وبين حدي الواجب والإلزام.

وربما كانت السخرية لا تطابق الحياة اليومية في شقها الماضوي، إلا أنها اعتمدت التصوير الكاريكاتوري أحيانا كوجدان آخر بديل ومضحك في الآن. وأيضا رغبة الشاعر في دمج الماضي في الحاضر معززا العلاقة المفارقة بالسخرية الممتعة. لكنها تدعونا إلى تغيير الثوابت المتجدرة في الواقع، والتي تحتاج إلى التجديد والبعث وإعادة التأمل.

3- الاستعارة واليومي

تعد الاستعارة مقوما تخييليا في الشعر، وفي ديوان لعبة لا تمل غدت مقوما أساسيا في تصوير اليومي والمعتاد وأشكال التواصل بين الناس، على كون الشاعر يوجد في وضعية خطيب يطلع الناس على مقومات الحياة، وهذه الوظيفة المعرفية للاستعارة جعلته يستعير أكبر قدر من الأسماء والماركات والعلامات التجارية المتصلة بالحياة اليومية.

تظهر الاستعارة انطلاقا من العنوان الذي يجعل اللعبة استعارة كبرى للحياة، التي تعاش دونما ملل، برتابتها ونمطيتها، واللعبة أيضا استعارة كبرى للحرب، ذلك أن قوانين اللعبة هي نفسها القوانين التي تسري على الحرب؛ من حكم وتوقيت ونصر وهزيمة ومعدات وحيل...الخ.

تعمل هذه الاستعارة على تمثل الأشياء الواقعية وتقديمها مجسدة وملموسة، وللتدليل على هذا الطرح نسوق قول الشاعر:

وأخيرا، يا صاحبي، لم تفعل شيئا سوى
رهن أراضيك وعماراتك قبل إعلان
إفلاسك الشهير على رقعة "المونوبولي"

المونوبولي من أشهر لعب العالم، ميزتها أنها أقرب إلى حياة التسيير وتدبير الأموال والممتلكات، إذ يتحمل اللاعب توجيه حياته وكأن الأمر حقيقة وهذا الاستدعاء للعبة هو أمر متعلق بالدهشة، دهشة الإفلاس وعدم توقعه، فقد صاحب إحساس المتعة باللعب عدم توقع الإفلاس، غير أن الذي تحقق استعاريا هو المتعة وما تحقق واقعيا هو الإفلاس. هذه إذن هي الاستعارة المحققة للمتعة المقرونة بالخيبة، خيبة الإفلاس والفشل.

إن الشاعر، وهو ينتزع اللعبة من سياقها الطبيعي، يوجه ضربة قاضية للحياة اليومية التي أخفت الإفلاس والخسارة وراء شعور المتعة المؤقت، وهذا الأمرأمنته الاستعارة وبلغته بتعبير جديد يبحث عل الرضا والانتشاء، فكان البديل ألفاظا تؤشر على أنواع الخمور والبيرا: كرونا وبلاك ليبل. تشير هذه العلامات إلى مصدر الشعور بالخيبة رغم ما تحققه من متعة قصوى، بل إنها تشير أيضا إلى كونها أداة للدخول في إهاب الحياة الجديدة.

لقد شدد الشاعر على ضرورة مراعاة المشابهة بين الألفاظ الدالة والشعور النفسي، وهي مراعاة لم يلتفت إليها في الاستعارات الشعرية التخييلية. بل إن الشاعر يؤكد هذا الدور المعرفي بالنسبة إلى التسميات(ماكدونالدز- مايكروسوفت- عطر بوير). وقد راعى المشابهة حتى نشعر نحن المتلقين بأن اللفظ المناسب ينبغي ألا يكون مجازا صرفا بل ينبغي أن يحضر بواقعيته، وهذا تشديد من الشاعر بأن تكون الاستعارة معرفية حقيقية أو بالأحرى نفعية تُثري اللغة بهذا الانفتاح على الواقع.

قلنا إن الأسماء الدالة على العلامات التجارية قد فقدت شيئا ما من مجازية الاستعارة، لأن هذه الأخيرة كانت مدعومة بحضور فعال وبرابط مناسباتي بين الإحساس النفسي والحياة الجديدة، وأيضا اقترنت بوظيفة معيارية كالرفع من قيمة الشيء أو الحط منه. يقول الشاعر:

عجيب أمرك يا صاحبي
وغريب...
فأنت لم تلعب كرة القدم حتى
في المدرسة كسائر التلاميذ
ولم أرك إلا هاربا من كؤوس العالم
المعشبة على الشاشة
إلى فيلم بالأبيض والأسود
غير عابئ لا بالمانشستريونايتد
ولا منتخب البرازيل
بل إنك لم تشجع حتى فريقك الوطني
(على قلة كؤوسه المترعة..)

ا

لمتحقق في هذا النص، إشارة عاطفية صادرة عن مخاطب سماه الشاعر "يا صاحبي"، وقد حطت هذه العاطفة من قيمة لعبة كرة القدم، التي يمكن عدها ديانة رياضية، شغلت الأرض، غير أن هناك تعارضا بين الإثارة العاطفية والواقع، فالشاعر لا يرى في كرة القدم أو الشطرنج أو المونوبولي أو لعب الحاسوب إلا استعارات حربية، بل الحياة نفسها، كما تبدت في الديوان، استعارة كبرى لمفاهيم كالملل، والضجر، والخيبة، ولا يمكن للإنسان أن يتجرد من حياته.

هكذا يغدو الإنسان، من وجهة نظر الشاعر، ذلك النقيض الجدلي المتصاعد الذي ينطلق من المجرد إلى المحسوس، وغالبا ما يقع في الملل، والمطلوب أن يدجن ملله بقيم الحياة الحقة، أو بالأحرى يربي الأمل. يقول الشاعر:

الملل سيد وعقابه أن يكون خدوما
وظيفته الأخرى، وظيفته التي بددها

لم تكن الحياة حقيقية في هذا الواقع، ولم تكن الحياة إلا مجازا استعار لها الشاعر عناصر أخرى تشكلت معها وأصبحت وقائع مفروضة على الإنسان، ولم يعد الإنسان إلا مجازا. إن الواقع قد أكسبنا إنسانا مبرمجا خاضعا لحياة تشبه اللعبة في الممارسة وفي الإحساس، على كون حدود المشابهة بين الحياة واللعبة مفتوحة، وبين اللعبة والحرب قائمة منذ أن وجد الإنسان.

كل حياة لعبة وليس العكس، وكل لعبة حرب وليس العكس، وكل لعبة وحرب حياة، هذه الحياة التي اتسمت بطقوس الاستهلاك وبأنواع الماركات وبنقائض الحياة المتصاعدة تجاه الملل والإحباط والخيبة، والانتظار. يقول الشاعر:

والأحلام المثلجة في حبب الكؤوس...
غاطسين في حكايات لا زبدة في دموعها
إلا عندما قال لي مسافر إلى فيلاديلفيا:
يؤخرون الرحلات، في الغالب، لنتسوق
ونشرب البيرة
لنصاب بجرثومة الحنين إلى الأصدقاء
ونتصل ببطاقات فرانس تيليكوم

يعدد الشاعر مقومات الحياة الجديدة المشتركة عند غالبية الجنس البشري، وهي مقومات استعارية، وشواهد حجاجية لأنها بكل بساطة مركبات حياتية معللة باليومي، وقابلة للفهم، وأيضا تستجيب دلاليا لمفهوم الحاجة اليومية، ومفهوم الواجب.

استطاعت الاستعارة المتحققة في الديوان أن تقرأ اليومي بمقومات رحبة تعدت حدود الامتاع إلى وسائل إقناعية، وهذه الخصوصية الإبدالية راجعة إلى كون سيرورة اليومي هي سيرورة مركبة تقتضي الاندماج والإسناد بغاية التقوي والانسجام.

إن استخلاص الاستعارة من الوضع الحياتي مفيد في عملية بناء الفضاء العام الذي تدب فيه الحياة، ويحكم هذه العملية سياق معرفي صرف، لأن التركيب الاستعاري المتحقق في العمل ككل لا يقوم على إعادة الصياغة فقط، بل يعزل كلمات ذات قوة دلالية مستأصلة من الحياة العامة.

خلاصة

كذا يطرح ديوان لعبة لا تمل فكرة عولمة الشعر؛ بالكتابة عن حقيقة مهيمنة مفادها أن العالم مصنوع من عناصر وأشياء ووسائل وكلمات، كل هذه الأشياء نتداولها ونعيش تحت سلطتها، وتتكرر في جواننا إلى ما لا نهاية. والمشترك بين هذه العناصر المستدعاة في الشعر هو حسها البصري الذي عمل الديوان على تنمية صورة الأشياء من خلال انفعال الشاعر مع مكونات الحياة الكونية وخصائصها الحسية والتجريدية. وقد تم عرض ذلك بطريقة خاصة، وفي تمثيل باذخ للمعنى وللمحسوسات، مما جعلنا نتوقف إزاء النصوص محاولين كشف طريقة تصوير الحياة بتقاطعاتها التشييئية وأيقوناتها والبشرية. كل ذلك بأسلوب استعاري ساخر يرتد إلى تقديم الحياة تقديما حسيا قريبا من نسق الحياة العرفية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى