السبت ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

الجندية المجهولة

مالت الشمس لتهوي لولا أن أمسك بها فم المدى وأخذ يلتهمها ببطء لقمة وراء لقمة حتى ابتلعها كما الفريسة الكبيرة في فم تمساح، وبسط الكون عباءته. السيجارة في فمي يقصر عمرها مع كل شهقة عميقة مضطربة وزفرة طويلة متوترة.. و ها هي ذي ساعة يدي تتأفف لكثرة نظراتي لها وقد فات على الموعد المحدد للقاء نصف ساعة بلا أي زيادة أو نقصان. لم يعد بإمكاني انتظارها أكثر من ذلك.. فبات واضحا أنها لن تأتي. هممت بالمغادرة، لكنها جاءت فخفق قلبي خفقات طمأنينة لا تخلو من قلق.

جلست ووضعت رجلا فوق رجل وأكدت حضورها بهزة من رأسها، هي هزة تحية صامتة، فرددت عليها تحيتها بهزتين من رأسي، نظرت إليّ بنصف بسمة فنظرت إليها ببسمة كاملة. فجأة أشارت بسبابة اليمنى وسألت ما هذا؟

عجبت لسؤالها! فنظرت حولي إلى الوجوه المستكينة لرواد المقصف بنظرات ملؤها الحيرة، ثم حدقت بوجهها الأصفر والأملس كالصابون المبلول وقلت لها بصوت خافت متقطع : إنه تمثال الجندي المجهول! وأسندت ظهري واستنشقت بعمق رائحة عطرها الساطعة وتمنيت لو بإمكاني تخزينها في رئتيّ. وما هي إلا لحيظات قليلة حتى عادت تسأل ثانية..

 لماذا هو مجهول هذا الجندي؟

 لأنه رمز للتضحية والفداء والبطولة لناس لا أحد يعرف شخصيتهم.

 لماذا لا يوجد تمثال للجندي المعلوم؟ اقصد للمعروفين!

 المعروفون خلدهم التاريخ بأسمائهم.. وبعض الشعوب تصنع لهم تماثيل.

 دون أن يكونوا رؤساء؟!

 نعم!

بصراحة شعرت أني في ورطة، فهذا تمثال معلوم لشخص مجهول، أو لأشخاص مجهولين. وهو أهم معلم من معالم المدينة. أمّا المعروفون فلا تماثيل لهم عندنا، حتى عندما يموتون تعلق صورهم لأيام معدودة فقط.. ويذهب كل حي إلى حال سبيله.

قطّبت ما بين حاجبيها، وأمالت ظهرها قليلا إلى الأمام، وقالت بصوت حاد و ناعم كمواء القطط الصغيرة : هذا شأنكم أنتم أيها الرجال، ما يعنيني هو أمر النساء!

أغمضت عينيّ نصف غمضة، وشبكت أصابعي بعضهما ببعض وطرقعتها. أخذت رشفة شاي فاتر، وحدقت بتمثال الجندي المجهول كأني أراه للمرة الأولى في حياتي، فوجدته كما هو دائم الإشارة بسبابته إلى القدس، ويده الأخرى تحمل السلاح. شعرت أني لم أفهم شيئا من كلامها الذي يشبه الطلاسم، وقد اندفع من فمها وابل من الأسئلة لم تلتقط أذناي إلا بعضها.. لم اعبأ بها ووجدتني اسألها بلهفة :

 ما شأن النساء وتمثال الجندي المجهول؟

 يجب أن يكون هنا تمثال للنساء المجهولات!

 لماذا؟ وكيف ذلك؟ هذا جنون!

 الكثيرات من النساء قدمن حياتهن و ضحين بالغالي والنفيس من أجل الوطن، وبما لا يقل نوعية عن تضحيات الرجال إن لم يكن أكثر أهمية!

 ولكن هذا التمثال يرمز لتضحيات الرجال والنساء أيضا!

 لماذا لا يكون هذا التمثال لفتاة بدل الرجل؟.. وليكن له نفس الرمزية للرجال والنساء.. ونسميه تمثال "الجندية المجهولة".

تجمد الكلام في فمي وبت لا أعرف كيف أرد على كلامها وأفنده، وبعصبية أخذت أفرك عقب السيجارة في منفضة السجائر، لكن النجدة جاءتني بسؤال، فوجدتني أمتشق لساني وأسألها :

 على فرض موافقتي على كلامك، فماذا سيرتدي تمثال الجندية المجهولة؟

 أية ملابس! لا فرق عندي! فستان سواريه أم بنطلون مع بلوزه.. أي شيء.. حتى لو بنطلون شورت مع بلوزة كت.
 لكننا في مجتمع محافظ وقد لا يقبل بأية ملابس، فمن الأفضل أن يلبس تمثال الجندية المجهولة جلبابا ونغطي شعر الرأس بإحكام.
 وليكن ذلك.. ولا مانع عندي أن يكون التمثال بزي عسكري.

انتابني شعور وكأنني موافق على رأيها بهذه الأسئلة وهذا المجرى للحوار، فعدت ثانية أقول لها بنبرة حادة رنانة: إن جميع شعوب الأرض تبني تمثال الجندي المجهول على شكل رجل، فلا يعقل أن نشيده نحن العرب على شكل فتاة.. هل نحن أكثر تطورا من بقية شعوب الأرض؟

انتابها موجة عارمة من العصبية، فأخذت تمور وتفور كالحليب عند الغليان، مما جعل جميع رواد المقصف ينظرون إلينا وقالت بعد أن استلت لسانها بغضب جامح عصف به فمها: ولكنكم أنتم الرجال لم تحققوا انتصارات في الحروب! وعلى الرغم من ذلك تصنعون لأنفسكم تمثالا يرمز لبطولاتكم الوهمية، أو هي بطولات فردية بلا أي انتصارات حقيقية.

لكنني لم أسكت على ما قالته، وأخذت أرشقها بالكلام والأسئلة بصوت مدو كالرصاص في الأفراح..

 إذن عليكن الذهاب إلى الحرب مع الرجال!

 لا، بل نذهب إلى الحرب بدل الرجال!

بصراحة تملكتني رغبة بإزاحة الكؤوس عن الطاولة، والغطاء الأبيض الذي يتدلى عن متنها كي أفكك الطاولة إلى عدة قطع، وأمسك برجل الطاولة الغليظ المصنوع من خشب الزان وأهوي به على رأسها حتى تكف عن الثرثرة الفارغة، لكني أمسكت و آثرت أن أظل ديمقراطيا. ثم عادت تقول بخبث ظاهر : من الممكن تشييد تمثالين مجهولين، أحدهما للرجل والآخر للمرأة.. ونضعهما بجانب بعضهما أو متقابلين.

لم أحفل بكلامها وانتهى اللقاء دون الوصول إلى نتيجة في النقاش. وما هي سوى أيام قليلة حتى استيقظنا في الصباح وقد تحول تمثال الجندي المجهول إلى كومة من الحجارة والركام بعد أن تم تحطيمه بأيدي شخص معلوم.. وربما هو مجهول.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى