الأحد ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
ثنائية الغربة واليتم في:

(عناقيد الحزن) للقاص المغربي محمد العتروس

باريس: محمد العمراوي

يعتبر محمد العتروس من بين أبرز كتاب
القصة القصيرة الجديدة بالمغرب وبالعالم
العربي، لتميز طريقة كتابته وتفرد
مواضيعه وأصالتها. أصدر لحد الساعة أربعة
مجموعات قصصية هي: "هذا القادم.." سنة 1994،
"رائحة رجل يحترق" سنة 1998، "هلوسات" سنة 2002،
و"عناقيد الحزن" الصادرة عن مجموعة البحث
في القصة القصيرة المغربية سنة 2002، وهي
المجموعة التي نحن بصدد تقديمها للقارئ
الكريم.

اختار الكاتب أن يقسم مجموعته إلى قسمين،
وأعطى لكل قسم عنوانا: باريس بعد 1998، بركان
قبل 1998.

القسم الأول يضم إحدى عشرة قصة تتوزعها
العناوين الآتية: الغرفة الباريسية –
حالة – انهيار – هلوسات في حضن امرأة
باردة– ساحة سان ميشال – الوجه والمرآة –
حدس – شاعران.. قاص وكلب – حكايات عن
حبيبتي والبحر والقارب الخشبي – ظلي –
حفرة.

القسم الثاني يضم ثلاثة عناوين : قصص
قصيرة جداً – أوراق من مفكرة رجل يحترق –
انتحار.

انطلاقاً من هذا التقسيم المنهجي
والزمني (أنظر تذييل أغلب القصص بتاريخ
كتابتها)، يتضح أن هناك جانبين شكليين
وموضوعيين، أو رؤيتين مختلفتين في
المجموعة. بل أن عناوين النصوص تفضح هذا
علانية. هناك مكانان مختلفان متميزان:
باريس باعتبارها المدينة التي استقبلت
القاص ومكان إقامته الاختيارية ، وبركان
مدينة الكاتب التي لفظته. وهناك زمنان
متميزان أيضاً: بعد 1998، وقبل 1998. (لاحظ هنا
تموقع الما بعد والما قبل ودلالة تقديم
الأولى عن الثانية).

إن هذا التقسيم يساعدنا كثيراً في
الاقتراب من نصوص هذه المجموعة باعتباره
عنصراً بنائياً أساسياً، وباعتبارهما
دخلاً مساعداً لفهم أغلب النصوص.
وبالرغم من أن أغلب النصوص كتبت في فترة
زمنية مختلفة (بين 1994 و2002) إلا أن هناك
خيطاً خفياً يربط هذه القصص، وهناك
استمرارية على مستوى تطور آليات وتقنيات
القص، واللغة لدى الكاتب، وعلى مستوى
الرؤية والمحتوى.

هذا الخيط الخفي يمكن أن نجمله في ثنائية
الغربة واليتم.
المشترك في نصوص القسم الأول من مجموعة
"عناقيد الحزن" هو أنها كتبت، وتدور كل
أحداثها في الغربة بين باريس وبروكسيل (
باستثناء قصة حكايات عن حبيبتي والقارب
الخشبي). وقد تعمد القاص أن يقدم النصوص
الأحدث - من حيث زمن الكتابة - على النصوص
الأقدم. وهو إن دل على شيء فإنما يدل على
لعبة القط والفأر التي يتعمدها الكاتب في
هذه المجموعة، ويتقنها من خلال اللعب
بالزمان والمكان على حد سواء، بل حتى
بطرائق السرد.

من هنا يجرنا إلى الاعتقاد معه بأن الغربة
ليست غربة مكان فقط، ولا غربة ناس فقط،
وإنما هي غربة أعمق من ذلك كله.

أما المشترك في نصوص القسم الثاني، فهي
كون أحداثها تدور في الوطن، وتتحدث عن
إشكالات وقضايا حساسة بالنسبة للمواطن
العادي، تهم الشريحة الوسطى والكادحة من
الشعب، من مثل قضية البطالة في قصة "أوراق
من مفكرة رجل يحترق" حين يتحدث عن الراوي
عن البطل الذي يكتب قصة عن نفسه، وعن
الراوي، والنادل، والجيب المثقوب، والكيس
الذي لا ثقوب فيه ولا شروخ، المملوء
بالشواهد التي ملت الانتظار داخل الكيس
فتسللت إلى الخارج واتخذت لنفسها طاولة،
وطلبت براد شاي وسجائر، وحين يسأل الراوي
البطل إن كانت الشواهد احترقت يجيب:
"-لا.. بل أنت الذي احترقت." ص 76.
أو مثل قصة "استقالة" حينما يسأم الوطن من
تمثيل دور الوطن فيقرر أن يلعب دور
المواطن ليخلص إلى أن المواطن في هذا
الوطن بلا وطن ويعلن استقالته من المواطن
والوطن.

لكن كما سبق وأشرنا إلى ذلك تعتبر ثنائية
الغربة واليتم الخيط الخفي الذي يربط
أمشاج هذه النصوص.

الغربة نحسها من خلال لغة النصوص، ومن
خلال أجوائها، ومن خلال شخوصها. واليتم
هنا مزدوج: يتم الوطن (قصة "استقالة")، ويتم
الذات في مواجهة الآخر (قصة "حدس"). يتم
الواقع (يتم الأم كما في قصة "انهيار") ويتم
المخيلة.

هذه الثنائية: (الغربة واليتم) مرتبطة
بشكل مباشر ووثيق بالحزن الذي نكتشفه مع
الكاتب قصة بعد قصة، وصفحة بعد صفحة،
وسطرا بعد سطر. إن الكاتب يعطيه قيمة
مركزية حين يتخذه عنوانا للمجموعة ككل:
"عناقيد الحزن" مع العلم أن المجموعة لا
تتضمن نصا موسوما بهذا العنوان. والعنوان
ذاته يحيلنا على حزن آخر من خلال ارتباطه
تناصيا بعناقيد الغضب، حزن ذو بعد وطني
وقومي.

إن الغربة حزن بمعنى من المعاني، واليتم
حزن أيضا، ومحمد العتروس قادر على أن يكتب
أكثر القصص حزنا كما جاء في قصة " الغرفة
الباريسية":
"تماما.. تماما مثل يوسف العراقي أنت تخطو
إلى الثلاثين لكنك تحس كما لو أنك تخطو إلى
الستين بلا بيت ولا عنوان، بلادك لم تعد
ملك يديك ولا حلم الحالمين، والموت في
الغربة أضحى هاجسك ومدار التفكير. وأنت
هذه الليلة بلا ريب قادر أن تكتب أكثر
القصص حزنا." ص 12.

في قصة انهيار" ننهار مع انهيار البطل الذي
بدأ مقتنعا في بداية القصة أنه "لم يفقد
مقاييس الأشياء، لم يفقد بوصلة الزمن،
الأماكن الجميلة لا زالت جميلة ترشح
بالمفاتن وتنضح رونقا. والقيم الجديرة
بالاحترام ما زالت جديرة بالاحترام،
الساعات المتعبة من الدوران ليل نهار تدور
كل يوم من اليسار إلى اليمين…" ص 21، لينتهي
في آخر القصة إلى أن "لحظة واحدة فقط تكفيك
لكي تدرك أنك تفقد مقاييس الأشياء.. كل
المقاييس، وتفقد بوصلة الزمن." ص 25.
وهذا الانهيار نتيجة لليتم الذي يقبع في
داخل البطل، والغربة التي تمزق أحشاءه.
يقول في ص 22:
"لم تكن تدري أن نظرة واحدة منها إليك ومنك
إليها حركت ما كنت تخبئه عن أعين الناس،
وأقرب الناس."

ويقول في ص 23: "فكرت، أنا أيضا كنت صغيرا..
صغيرا ورقيقا مثل نسمات الربيع وكان لي
حضن بسعة الدنيا وبدفء القطن، وكانت لي
أم.. كانت لي.."
وفي قصة "هلوسات في حضن امرأة باردة" التي
أعتبرها من أنضج وأجمل قصص هذه المجموعة،
نجد كذلك تردد ثنائية اليتم والغربة
بشكليها الداخلي والخارجي، تلميحا
وتصريحا. نلمس هذا من خلال غرابة الحكاية
التي يرويها البطل للبطلة، حين يتحدث عن
رجل أزرق منذ وعى العالم لا يرى غير اللون
الأزرق، الغرفة حيث يقيم، والسرير،
والطاولة، والنافذة، والحديقة، والشارع،
والباصات، والناس وكل شيء أزرق. وذات يوم
وبينما الرجل الأزرق يرشف قهوته الزرقاء
إذ به يرمق من خلف النافذة الزرقاء امرأة
تلبس الأسود، وتضع حول عنقها ربطة حمراء،
تمرق الشارع الأزرق. أمام هذا المشهد غير
العادي يقرر الرجل الأزرق دعوة المرأة إلى
بيته، وبعد أن دخلت أصبح كل شيء يأخذ
ألوانا زاهية، ويطلق اللون الأزرق البائس.
أعجب الرجل بهذا التغيير فدعا المرأة أن
تقيم عنده، وبعد مضي أشهر لا حظ الرجل أن
المرأة وهي تنام إلى جانبه تتخلى عن كل
ثيابها إلا عن ربطة العنق الحمراء، وذات
يوم وهي مستغرقة في النوم إذ بأصابعه تمتد
إلى الربطة فتنحل الربطة ومعها يسقط رأس
المرأة وتتحول كل الألوان الزاهية إلى لون
أزرق بائس.

غرابة الحكاية تولد غربة البطل في وسطه،
وفقد المرأة والألوان هو يتم من نوع جديد.
وفي نفس القصة نلمس غربة المثقف العربي
ويتمه في مواجهة الآخر بكل أشكاله (حتى
شكله الثقافي) في مواجهة السلطة بشكلها
القمعي وفي مواجهة العالم بأسره، من خلال
البطل الذي يجد نفسه في مواجهة الكل وما من
سبيل أمامه إلا الانتحار.

تعتبر هذه القصص من أنضج وأجمل النصوص
التي كتبها محمد العتروس. بل يمكن أن
نعتبرها من أحسن وأصدق النصوص التي كتبت
عن الغربة. صادقة إلى حد أنها تجرح وتدمي،
وحساسة إلى حد أنها تقطر حزنا وتعبا. تحكي
عن باريس.. باريس كما يراها الكاتب لا كما
تصورها لنا المخيلة الشعبية، باريس
الجحيم لا باريس الفردوس الموعود.

هي نصوص كتبت ببساطة إلى الحد الذي يظن كل
واحد منا أنه قادر على الإتيان بمثلها. لكن
حين يحاول يصطدم باليباس. القارئ يشعر مع
كل قصة جديدة كما لو أنه هو البطل، وهو
المقصود، وهو الراوي والمروي له، والرائي
والمرئي. نصوص تطلب الوطن بالقدر الذي
تذمه وتهجوه، لننظر إلى قصة " ساحة سان
ميشال" مثلا ونتمعن في هذا المقطع: "أبصق
بصقة بحجم ذاك البلد الحقير وأحتقره
لأنه... أحتقره وألعنه في السر وألعنه في
العلن." ص 35.

إنها نصوص تحمل الشيء ونقيضه، تنسخ بعضها
بعضا، كما في هذا المقطع من قصة "هلوسات في
حضن امرأة باردة" الذي ينسخ المقطع السابق
من قصة "ساحة سان ميشال" بقوله: أرغب في
الفرار(...) "حتى من الوطن الذي قلت مرة أنه
حقير.. أحقر مني ومنك ومنا جميعا. ربما لم
أكن في كامل وعيي.. أكيد أنني أنا الحقير..
أو هم أو ربما نحن كلنا حقيرون ولا نساوي
بصلة." ص 31.

إن محمد العتروس في "عناقيد الحزن" كما في
غيرها من مجموعاته يعبر عن الذات العربية
الجريحة، المتناقضة، المنفصمة، المقموعة
والمشردة والمهربة. الذات الرافضة
والمرفوضة والمطاردة من طرف الأنا
والآخر، أنا الداخل وآخر الخارج.

باريس: محمد العمراوي

عناقيد الحزن، محمد العتروس، منشورات
مجموعة البحث في القصة القصيرة المغربية،
طبعة أولى، الدار البيضاء، المغرب، 2002.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى