الأربعاء ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم سامر مسعود

فنجان قهوة

كان ضياء يجلس على شرفته المطلة على فضاء المحيط الممتد، يراقب طيور النورس وهي تلتقط قوتها على صفحة المياه الزرقاء بخفة ومهارة. اشعة الشمس تعانق الأمواج فتنعكس أشعتها قبلات من ضوء ساطع. سمع دقات خفيفة على الباب، نهض متثاقلا، فتح الباب فكانت صديقته ميلندا؛ فتاة في ربيع العمر، تضج حيوية ونشاط، تدرك تماما كيف تمارس الحياة وتستمتع بها. قبلته بحرارة، وهمست:

 اشتقت إليك كثيرا...

 المعذرة، لم أهاتفك منذ مدة، مازلت منشغلا بكتابة روايتي كما تعلمين.
صرخت ميلندا بصوت عال عندما استنشقت قهوته العربية، فقالت معاتبة:
 تجلس هنا وتشرب قهوتك العربية دون ان تشاركني هذه المتعة؟!!
 تعلمين أن جمال الماء لا يكتمل الا بالوجه الحسن، تذكري عبارة العرب: الماء والخضراء والوجه الحسن...

جلسا كل على مقعده، تتوسطهما طاولة صغيرة تزينها فناجين القهوة العربية. ميلندا ترتشف قهوتها باستمتاع ظاهر، أما هو فكان لمذاق القهوة تأثير مختلف؛ تذكر بحزن عميق عندما تحول الوطن أمام عينيه الى ثقب أسود؛ حاول في تلك السنين الخالية أن ينغرس فيه كما التين والزيتون. كان من أمنياته ان يحصل على منحة، وما أكثرها، لاستكمال تعليمه الجامعي،ولكن جميعها باءت بالفشل الذريع... زاد من حنقه ان كثيرا من الطلبة الذين درس معهم قد حصلوا على منح، وبعضهم تخرج وأصبح يشغل مناصب هامة... تذكر ضرار صديقه الذي زاره دون موعد مسبق في قريته، وكيف سبب له حرجا مع والده وافراد اسرته، اذ كان الفصل صيفا، وكان الجميع منشغلا باستقبال اسرة اخته التي قدمت من السعودية بعد غياب طويل. شعر ضرار بخطأ التوقيت، وبدا محرجا، همس في اذن ضياء:

 في هذا اليوم كان اجتماعي الأول مع المشرف على بحثي، وطلب مني خطة تفصيلية للبحث الذي سأنجزه لنيل درجتي العلمية. وأنا لا أعرف كيف أعد تلك الخطة اللعينة، وأريد مساعدتك في ذلك.

 اليوم لا أستطيع، فكما ترى البيت مليء بالزوار و...

 اذا لم اقدم الخطة غدا فسأطرد من الجامعة. قال ذلك برجاء وتوتر.

 اذا كان الأمر كذلك، فلا مناص لي من ذلك.

استأذن ضياء أخته المتشوقة للجلوس معه. وغادر البيت على عجل مع صديقه.
في بيت ضرار جلسا في غرفته الخاصة، وضع ضرار بين يدي ضياء مسودات بحثه. كانت سوداء بمعنى الكلمة؛ لم يفهم عبارة واحدة مما كتبه، كل شيء مختلط وغير واضح. أمضى ضياء الليلة كلها وهو يدقق ويرتب ويضيف ويحذف الى أن اصبحت الخطة جاهزة. بعد ان انتهى من عمله همس في أذن صديقه مازحا:" أفهم الان سر زيارتك الطارئة". أمسك ضرار بأوراق الخطة، وأخذ يقرأ، وعلامات الانبهار تعلو وجهه. التفت الى ضياء، احتضنه بقوة، وشكره بحرارة. قال ضياء: اين الفراش؟ انا في غاية التعب الان.

بعد شهور عديدة من ذلك اللقاء شاءت الصدف ان يجتمع الاثنان في المدينة، تصافحا بحرارة، وقررا أن يمضيا بعضا من الوقت في مقهى قريب. منذ اللحظة الأولى لمس ضياء تغيرات كثيرة على صديقه ضرار؛ فهو يرتدي بدلة أنيقة، ويتكلم بهدوء مصطنع، وعيناه تبرقان بطريقة غريبة. كان ضياء يحاول ان يتجاهل ما يرى. وما أن جلسا على طاولة في زاوية قصية من المقهى حتى انطلق لسان ضرار:

 هل مازلت في وظيفتك؟
 حاولت كثيرا أن أحصل على وظيفة أفضل، ولكن كما تعلم ظهري مكشوف!!وقهقه حتى التفت من في المقهى اليه بعيون مستهجنة. عدل ضياء من جلسته وسأل ضرار:

 ماذا عنك؟ هل انهيت بحثك؟ أم طردت من الجامعة؟! وانفجر مقهقها من جديد. أثار ذلك حنق ضرار، فأجاب بنبرة استعلاء واضحة:
 لقد هددت مشرفي بالقتل ان لم يمنحني تقديرا ممتازا. وقد حصلت على منحة كاملة لاستكمال دراسة الدكتوراه. وأعمل الان مسؤولا في أمن المؤسسات... لقد تفوقت عليك هذه المرة... ألا توافقني الرأي؟!
يتذكر ضياء الان تماما ردة فعله الذاهلة...كان يحدق يمنة ويسرة، اتسعت حدقتا عيناه، أحس بصفع الكلمات على وجهه...غادر المقهى يشيعه الهذيان والغربة.
استفاق ضياء على صوت ميلندا وهي تسأله عن مزيد من القهوة العربية، فأجابها بمرارة، والوطن يتمدد فوق صفحة المحيط غسقا داميا:
 لا تقلقي يا حلوتي، فلدي منها الكثير الكثير...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى